ربَّ ضارة نافعة!!
شريف قاسم
عقيدتنا الإسلامية الربانية تمنحنا القوة المطلقة للرضا بما قدَّر الله عزَّ وجلَّ، وتنأى بنا عن مواطن التذمُّر التي تعشعش فيها وسوسة الشيطان، فهذه العقيدة هي الحاضن لأفكارنا وتصرفاتنا وسائر شؤون حياتنا، وهذه المكانة العالية تبوأتها الأمة بعودتها إلى صفحات النُّبوة الأولى، لتقرأ فيها المغزى من الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وتتفحص بين مضامينها معنى ’’إنا لله’’، فالخلق والأمر بيد الله، ونحن عبيد الله شاء الناس أم أبوا، ولا يأبى إلا كلُّ عُتلٍّ زنيم؛ لأن الخلق كلُّهم لهم عودة إلى بارئهم في يوم لاريب فيه ’’وإنا إليه راجعون’’، فالمسلمون كانوا أبناء المكانة المرموقة عند الله، و دنوهم من هذه المنزلة اليوم هو الذي يملي عليهم منهج الله؛ ليجدوا مكانتهم ومكانهم مرة أخرى في هذا العصر، ويوطِّنوا أنفسهم على ما تأتي به الأقدار، وهم بهذه الصحوة لن يتنكبوا عن طريق الإسلام العظيم، ولن يعدلوا عنه، ولن يصيبهم اليأس مهما كانت النوازل؛ لأن ما كان وما سيكون هو كائن في علم الله سبحانه وتعالى يقول الله: ’’مَآ أَصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الاْرْض وَلاَ فِي´ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَـابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَآ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَهِ يَسِيرٌ’’ (الحديد: 22). أساس مكين وكل الخير الذي تملأ آلاؤُه حياة البشر ويتزودون منه من شرع وفكر ومال وطعام وعافية وقوة.. وغير ذلك من أبواب الخير هو من عند الله: ’’وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ و´ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ’’ (الحجر:21). وكل ما سخره الله للخلق في هذا الكون هو من فيض جود الله عليهم، وخزائن ملكه لا تنفد ولا تزول، ولا مشيئة لمخلوق بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى. والعقيدة الإسلامية كانت ومازالت هي الأساس المكين في تكوين الإنسان المسلم، وهي المنطلق لأفكاره وسيرته، وهي مًعين الهدى والرشاد الذي لا ينضب ، وبها يسمو الإنسان المسلم، ويرتقي على معارج التربية الربانية التي تغنيه بالعمل الصالح، وتعدُّه لأسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ’’فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ’’(الروم:30). فالأيام وعاء لِمـا يضع فيه الإنسان من أعمال، والأعمال هي التي تغيِّر اتجاهه وليست الأيام؛ لأن أعمال الإنسان قد تكون على منهج الله، وقد تكون على ما يريد الشيطان له من منكرات، ومن بهرج وزخرف يهيمن على آفاق أهل الحياة الدنيا، وقد نهانا الله عنه، ففي قوله تعالى: ’’وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَـ’وةُ الدُّنْيَا’’(الأنعام:70).. نهي صريح عن اتباع الغواية الشيطانية، فالمسلم بإيمانه وإرادته لا يعبأ بوسوسة شياطين الإنس والجن، والشيطان لا يتمكن من المسلم الذي احتضنته التربية الربانية:’’إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَـانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَـانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ’’(النحل 99-100). تربية ربانية فإذا فقدت الأمة هذه التربية الربانية، وأذعن بنوها لشياطين الإنس والجن، وركنوا إلى طغاة الأرض، فقد خسرت الأمةُ نهجَها السوي، ومكانتَها العالية التي بوأها إياها ربُّها سبحانه وتعالى، وخسرانُها يرتد عليها بالويل والثبور، وبالنوازل والمصائب التي عاشتها الأمة في الحقب الأخيرة من هذا الزمان، حيث الاستعمار وكيده وخبثه وقد عانت منه الأمة، وحيث حكم الطغاة والمستبدين وقد شربت كؤوسه مُرَّةً، وحيث هذا التفلت الأعمى لأبنائها وبناتها.. شباب الأمة وعدتها للمستقبل المأمول؟! إنَّ سُنَّة الله في الحياة لا تحابي أحداً، ولا تستأنس بمشورة أحد، إنها ماضية كما شاء الله، والتغيير بيد الله، يعزُّ مَن يشاء، ويذل مَن يشاء، وهو على كل شيء قدير. صوارم الحق وتبقى معية الله سنداً وقوة للأمة المسلمة، تدحض أوهام أعداء الإسلام وشبهاتهم واستكبارهم، وتفضح حقدهم وجهلهم، وترد عدوانهم بصوارم الحق وسيوف العزة والكرامة، وتدوس حوافر خيلها العاديات هُراءَهم وبهرجهم، ’’وإنَّ جندنا لهم الغالبون’’، إذا انتصرت الأمة على هوى نفسها، وأطاعت ربَّها، واقتفت سيرة نبيِّها صلى الله عليه وسلم، فإنها تنتصر على أعدائها مهما كانوا، وتنتصر على كل الطغاة الجناة الذين استعبدوها، وأكلوا خيراتها، إنها مشيئة الله تسري في الوجود، ولا يمكن لمخلوق أن يوقفها أو يغيِّر مسارَها، يقول الله عزَّ وجلَّ: ’’ولقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ’’(الصافات171- 173)، هذا ناموس إلهي مبين، لا يتغير ولا يبلى مع طول الدهور ومرِّ العصور، فإذا استبد الطغاة وعتوا ليخيفوا دعاة الإسلام وشباب الإسلام ويهينوا أمة الإسلام، سمعوا الدعاة الأوفياء لنهج النبوة يرددون بأعلى صوتهم: ’’كذلك يضْربُ اللهُ الحق والباطل فأما الزبدُ فيذْهبُ جُفاء وأما ما ينْفعُ الناس فيمْكُثُ في الْأرْض كذلك يضْربُ اللهُ الْأمْثال’’(الرعد:1) ، وسمعوا الشاب المسلم المجاهد يقول لهم: ’’قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ’’ (الشعراء:62)، وسمعوا الأمة تردد آناء الليل وأطراف النهار، رغم جراحها، ورغم الأذى الذي نالها: ’’ونُريدُ أنْ نمُنَّ على الذين اسْتُضْعفُوا في الْأرْض ونجْعلهُمْ أئمة ونجْعلهُمُ الْوارثين* ونُمكن لهُمْ في الْأرْض ونُري فرْعوْن وهامان وجُنُودهُما منْهُمْ ما كانُوا يحْذرُون’’(القصص: 5-6).. وفي النتيجة يصغي الطغاة ــ رغم أنوفهم ــ إلى صوت الناموس الإلهي يتلو قول الله تبارك وتعالى: ’’إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا’’(غافر:51). مفاتيح النصر إنَّ مفاتيح الفرج والنصر بيد الله مولانا، وهم لا مولى لهم، رغم هذا الضيق والكيد والحقد الذي تواجهه الأمة من كل الجهات. والأمة التي تقرأ القرآن الكريم، وتستظل بهَدي النبوة الفوَّاح بالبشريات لا يصيبها يأس ولا يعتريها فتور، فالمؤمن بالله ربا، وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم قائداً ودليلاً، وبالإسلام منهجاً للحياة، لا يقنط أبداً من رحمة الله وفتحه ونصره، ولا يلحقه الإحباط يقول تعالى: ’’فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِين’’(الحجر:55). إن يقين المؤمن بربه يحجز عنه أسباب اليأس، وهيهات لمؤمن باع نفسه لله أن يرتد أو يكفر بعد إيمان، يقول تبارك وتعالى: ’’إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ’’( يوسُف:87). وهيهات لمؤمن عاين مواطن الحق، وعلم أن النار حق، وأن الجنة حق.. أن يضل السبيل الرشيد الذي بوأه الله إياه، يقول تعالى: ’’قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ’’(الحجر:56). فظائع موجعة لا ريب أن شدائد الزمن، ورزايا الأيام، نزلت بأمتنا في الحقبة الأخيرة، فنالت من دماء الأمة ومن أموالها وأعراضها ومشاعرها، وها نحن نشهد الفظائع الموجعة، والحصار الأعمى، والمآسي التي ترعف بالدماء، وها نحن نرى ونسمع الآهات التي تتلظَّى بالألم المرير، إنها المشاهد التي لم تعرفها البشرية، ولم تَرَ مثلها من قبل، يضاف إليها قتل وسجن وهدم وإرهاب وترويع، و كيد ومكر وتآمر تشارك فيه ما تسمَّى بالدول العظمى ــ مزَّقها الله ــ إنه ابتلاء شديد الوطأة على أبناء الأمة، والنفس البشرية تكره المصائب إذا حلَّت بها، والنفس المطمئنة الواثقة بفضل الله وقدرته تُحسن الظن بالله العلي القدير، وترنو من الكُوى الضيقة في ظلمات الأرزاء إلى ما عند الله من فرج، فالخير فيما يختاره الله للمسلم خاصة وللأمة المسلمة عامة، وإن خفي علينا سرُّ هذا الاختيار، يقول الله تبارك وتعالى: ’’وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ’’(البقرة:216). وعد بالنصر فليكن ظنُّ الأمة بربها راسخاً، فالله لن يضيِّع هذه الأمة، بل إنه جلَّ وعلا وعدها بالنصر على أعدائها، فالأمر بيد الله، وعلى رجالات الأمة ألا يستعجلوا هذا الفتح: ’’أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ’’(الأعراف:54). وعلى الأمة أن تراجع سيرتها وسلوكها، وما في مجتمعاتها من منكرات، و من ركون إلى الدنيا، وانقياد لطغاتها ومجرميها، ومن إدبار عن كتاب ربها وسُنَّة نبيِّها صلى الله عليه وسلم، وما أسرفت من قبل على نفسها، ولتعلم علم اليقين بأن الله غفور رحيم، فلا يأس ولا قنوط، يقول عزَّ وجلَّ: ’’قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ’’(الزمر:53)، وعدم القنوط هو مفتاح الانطلاقة المباركة على مدارج القبول، وهو مُفتَتَحُ كتابِ اتخاذ الأسباب للفوز برضوان الله، ومن فاز برضوان الله فَلْيبشر بالفتح والنصر المؤزر، مهما كانت قوة الأعداء، ومهما كان مكرهم، فالعاقبة لدين هذه الأمة، والاصطفاء لهذه الأمة، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’رأيت فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب طاب، فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب’’.. لا ريب في ذلك فإنَّ مع العسر يسراً، ويومئذ لن ينفع أعداء الإسلام ما لديهم من قوة وجبروت مادي، ولن تجديهم أفكارهم وفلسفاتهم، ولن يُطفَأ النور السماوي أبد الدهر، يقول الله تعالى: ’’يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئِواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ’’(التوبة:32-33). الإسلام ظاهر هذا الإسلام ظاهر بفضل الله على جميع الأديان والملل والنحل والفلسفات القديمة والمحدثة، وقد بلغ ملك الأمة الإسلامية مشارق الدنيا ومغاربها في سالف الأيام، وسوف يبلغ ملكها ما طلعت عليه الشمس في هذا العصر ــ بمشيئة الله ــ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها’’ (رواه مسلم وأبو داود).. والآثار الإسلامية المكتوبة والمحفوظة في الصدور تُنبئ عن هذا الفتح، وقد فُتحت القسطنطينية كما وعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولسوف تُفتح رومية عاصمة إيطاليا اليوم كما وعد الذي ’’لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى’’. ومن المبشرات أن أعداد المسلمين في إيطاليا وفي أوروبا في ازدياد، ففي إيطاليا يوجد أكثر من مليوني مسلم إيطالي، وفي فرنسا أكثر من سبعة ملايين، وكذلك الأمر في باقي بلاد الإفرنج وفي أمريكا... وهكذا ينتشر الإسلام على قناعة من معتنقيه من غير ترهيب ولا ترغيب؛ لأنه دين الحق، وهو صوت الفطرة السليمة، ومن المبشرات هذه اليقظة الأثيرة التي تجتاح العالم الإسلامي، وذلك بعد إفلاس النظم الأرضية من جلب السعادة والأمان للناس، ولعل المسلمين أدركوا أن الخطر كان في إدبارهم عن دين الله، وفي تفرق كلمتهم، ولعلهم يتابعون مسيرة العودة إلى كتاب الله سبحانه وتعالى، وإلى سُنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ففيهما المخرج من الفتن والضياع، وفيهما أسباب العزة والنصر والتمكين، يقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ’’وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة’’ (رواه أحمد والترمذي).
*مجلة المجتمع