مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
فى تأصيل الأزمة المصرية
فهمي هويدي | نشر فى : الثلاثاء 29 أكتوبر 2013

(1) لنعترف ابتداء بأننا نتعامل مع أزمة لم نتفق على تشخيصها، والشىء الوحيد المتفق عليه هو ان الأزمة موجودة، وما عاد بوسع أحد أن ينكرها. وهذا الاعتراف يستدعى معطيات جديرة بالرصد، أزعم أنها تعوق مسعى التشخيص الصحيح الذى تنشده. من تلك المعطيات ما يلى:

• ان خلفيات الزلزال الذى حدث فى 30 يونيو أصبحت مثيرة للتساؤل واللغط، الأمر الذى يثير ظلالا من الشك حول مقاصد ما جرى آنذاك. وشهادات أعضاء حركة تمرد التى سمعنا بها فى أواخر شهر أبريل الماضى هى التى تستدعى تلك التساؤلات. وتلك الشهادات موجودة الآن على شبكة التواصل الاجتماعى، وقد حررها أعضاء سابقون فى الحركة، وتحدثوا فيها عن أدوار لأطراف بعضها يمثل الأجهزة الأمنية، والبعض الآخر ينتمى إلى نظام مبارك. كما تحدثوا عن أدوار لبعض الشخصيات المخاصمة لنظام الدكتور مرسى، وعن قيام أشخاص من الأثرياء المصريين المقيمين فى الخارج بتمويل أنشطة الحركة وتغطية نفقات اجتماعات تنسيقية عقدت فى شرم الشيخ سبقت تظاهرة 30 يونيو. ليست أمامنا فرصة للتثبت من صحة تلك المعلومات، خصوصا ان ثمة واقعا جديدا تشكل فى مصر الآن وانبنى على ما جرى فى 30 يونيو. هذا صحيح لا ريب، الا ان استعادة الأسئلة التى تثيرها تلك الشهادات لها أهميتها فى عملية التشخيص الصحيح التى تدعو إليها. على الأقل من حيث انها تدلنا على حقيقة الأطراف التى أسهمت فى صنع الحدث وحقيقة الأهداف التى توختها والتقت عليها مع غيرها. وهو ما قد يوفر لنا الإجابة على السؤال الكبير التالى: هل كان المستهدف هو انهاء حكم الإخوان فقط، أم أن تلك كانت خطوة لاجهاض ثورة 25 يناير، ومن ثم توجيه ضربة قاصمة للربيع العربى كله؟

• النقص فى المعلومات الخاصة بخلفيات ما جرى أفضى إلى تبسيط الصراع واختزاله فى المواجهة مع الإخوان وما سمى بالإسلام السياسى، وهو ما نلاحظه الآن فى لغة الخطاب السياسى والإعلامى، التى ما عادت تتحدث عن الديمقراطية أو مستقبل الوطن. كأن إزاحة الإخوان من المشهد ستؤدى تلقائيا إلى حل مشكلات البلد الأخرى، ولابد ان نلاحظ فى هذا الصدد ان المطلب الأساسى لحركة تمرد ولخروج الجماهير فى 30 يونيو دعا إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تحدد مصير الدكتور مرسى وحكم الإخوان، لكن ذلك المطلب تطور بسرعة بحيث انتهى بالدعوة إلى قلب المشهد السياسى رأسا على عقب، وتسليم السلطة إلى قيادة القوات المسلحة.

• إن التشخيص الصحيح للأزمة فى مصر سيظل متعذرا طالما سمعنا رواية طرف واحد لما جرى. ولن نستطيع أن نصف التشخيص بالنزاهة أو الموضوعية ما لم يتح لنا ان نسمع رأى الطرف الآخر وروايته. ولاننا منذ عزل الرئيس مرسى فى الثالث من يوليو لا نسمع إلا وجهة نظر ناقديه وخصومه، فان ذلك سيظل حائلا دون التقييم السليم للسنة التى أقصاها فى السلطة. ولا يشك أحد أو يجادل فى ان اخطاء وقعت خلال تلك السنة، إلا ان المشكلة انه ما عاد بمقدورنا ان نميز تلك الأخطاء عن غيرها، ليس فقط لكى تنصف الرجل، ولكن أيضا لكى نتعلم منها ونحاول تجنبها.



(2) خلاصة ما سبق أن للأزمة المصرية جزءها الظاهر للعيان وشقها الغاطس الذى لا نعرف تفهه على الوقت الراهن على الأقل، لكننا ندرك انه موجود، وكان فاعلا فى السابق ولايزال فاعلا إلى الآن. من ثم فليس أمامنا سوى أن نحلل ما هو ظاهر أمامنا لكى نحدد دوره فى الأزمة التى أدعيها. ذلك اننى أزعم أن أس البلاء ومشكلة المشاكل فى مصر يكمن فى موت السياسة فى البلد، الذى أحدث فراغا هائلا تعذر ملؤه منذ إسقاط نظام مبارك، الذى اعتمد على الأجهزة الأمنية فى إدارة البلد وتثبيت حكمه طوال ثلاثين عاما.

موت السياسة الذى أعنيه يتمثل فيما يلى: تدجين الأحزاب واخصاء القوى السياسية، بحيث تتحول إلى هياكل فارغة الممضون، حاضرة فى الصورة وغائبة عن الفعل. وعملية الاخصاء والتقزيم لا تخضع لها الأحزاب السياسية فحسب، وانما هى بمثابة لعنة تصيب بقية مؤسسات المجتمع والدولة، سواء كانت مجالس منتخبة أو نقابات مهنية وعمالية أو أية جهة أخرى تمثل المجتمع وتستدعى دوره. وهذه الإماتة التى تأخذ شكل الإلغاء تارة أو الاخضاع تارة أخرى، تعد تمهيدا طبيعيا وضروريا لتمكين الأجهزة الأمنية من القيام بدورها فى إدارة المجتمع والتحكم فيه.

هذا الوضع ترتب عليه ان أصبح لدينا أشخاص مهتمون بالسياسة، وليس لدينا قوى سياسية حقيقية. كما توفر لدينا أناس مخلصون ربما يتحدثون عن الديمقراطية، لكنهم لم يمارسوها أو يختبروها فلم يتمثلوا قيم الثقافة الديمقراطية. وكانت النتيجة اننا حفظنا اسم الديمقراطية لكننا جهلنا قيمها. وهتفنا لها فى مظاهراتنا، لكننا كنا جاهزين للرسوب فى أول اختباراتها. ويخطئ من يظن أن تلك النواقص أصابت فئة دون أخرى، لان الأمانة تقتضى الاعتراف باننا جميعا كنا ضحايا تلك الأجواء، وان التشوهات التى أعنيها لم يسلم منها أحد من الذين شاركوا فى اللعبة السياسية.

ذلك وضع لا تنفرد به مصر، ولكنه من سمات مرحلة ما بعد الديكتاتورية، الذى يخيم فيها الفراغ على الساحة السياسية جراء إصرار الحكم الاستبدادى على احتكار السلطة وسعيه الحثيث والدائم إلى حرق بدائله.

هذا الذى أقول به ليس اكتشافا، لان كل متابع للشأن السياسى فى مصر يعرفه جيدا، وان كانت قلة منهم تجهر به، وفى الأسبوع الماضى وحده وقعت على مقالين عبرا عن نفس الفكرة، أحدهما كتبته الدكتورة منار الشوربجى تحت عنوان «ابحث عن الأحزاب»، وفيه انتقدت الأحزاب التى تنافست فى إشهار اللافتات لكنها فشلت فى الحضور على أرض الواقع (المصرى اليوم ــ 23/10) ــ المقال الثانى ظهر بعد ذلك بثلاثة أيام وقد كتبه الأستاذ إبراهيم عيسى تحت عنوان «أحزاب الخواء والهراء»، (التحرير 26/10) وطرح فيه نفس الفكرة، ووصف فيه القيادات السياسية بانهم مجرد ضيوف فى القنوات القضائية وخطباء فارغون فى قاعات فارغة. وقال عن الأحزاب انها مجموعات صالونات وضيوف تليفزيونيين. ووصف قياداتها بانهم «نخبة منتفخة ومنفصلة عن الواقع الحقيقى ومنتمية إلى الواقع الافتراضى».



(3) فى الفراغ السياسى المخيم بدا ان قوى الإسلام السياسى هى صاحبة الحضور الأوفر حظا فى الساحة السياسية وهو ما اثبتته خمسة انتخابات واستفتاءات متعاقبة جرت بعد 25 يناير انتهت بفوز مرشح الإخوان فى الانتخابات الرئاسية، الأمر الذى نقل الأزمة إلى طور آخر، فى ظله ظهر بديل فى الساحة له شعبيته النسبية، لكنه لا يحظى بالاجماع أو التوافق مع القوى السياسية.

لم يكن البديل جاهزا للحكم، ولا كانت «القوى» السياسية مستعدة للترحيب به أو التعاون معه، كما ان النخب المصرية تعاملت معه بدرجات متفاوتة من الحذر والتوجس. وسواء بسبب الأخطاء التى وقع فيها نظام الدكتور مرسى، أو عملية الحصار والايقاع التى مارستها القوى السياسية «المدنية» التى ظهرت فى الساحة، أو جراء التدابير التى رتبتها القوى الأخرى غير المنظورة والتى حرصت على ان تبقى فى الجزء الغاطس من المشهد. فالشاهد ان القوى المدنية وجدت مشروعا يجمع بينها تمثل فى التوافق على إسقاط حكم الإخوان. من ثم ظل الشاغل الأساسى لتلك المجموعات هو كيفية هدم البناء القائم. دون ان تتطرق إلى فكرة البديل التالى. الأمر الذى يعنى ان الاتفاق كان منعقدا حول ما ترفضه تلك القوى، لكنها لم تتفق على ما يمكن ان تقبل به.

فى التعامل مع الإخوان تحديدا بدا ان هناك اتجاهين، أحدهما معتدل يعترض على الأداء والأفكار والثانى ضم الغلاة الذين صبوا اعتراضهم على الوجود ذاته. الأولون اختلفوا مع الإخوان ودعوا إلى إسقاط نظامهم وإخراجهم من السلطة. والآخرون دعوا إلى اقصائهم بالكلية من المشهد وإخراجهم من السياسة من خلال الدعوة إلى استئصالهم واجتثاثهم من المجتمع، سيرا على درب من حاولوا اجتثاث حزب البعث من العراق بعد احتلاله وإسقاط نظامه. ورغم ان دروس التاريخ علمتنا انه ليست هناك فكرة تستأصل بقرار سياسى أو إدارى، إلا انه من الواضح ان كفة الأخيرين هى التى رجحت حتى الآن على الأقل، الأمر الذى أدخل الأزمة فى طور أكثر تعقيدا وأخطر. ذلك ان عملية الاجتثاث والاستئصال تعد جراحة كبرى لا سبيل إلى إجرائها إلا بالاستعانة بأدوات الدولة البوليسية مع ما تستصحبه من إجراءات شديدة الوطأة وباهظة التكلفة. الأمر الذى من شأنه إعادة مصر إلى أجواء عهد مبارك الذى لفظه المجتمع حتى أسقطه بثورة 25 يناير. وفى هذه الحالة فان المتضرر الحقيقى لن يكون الإخوان أو الإسلام السياسى فحسب، لكنه أيضا سيكون قيم وأشواق ثورة يناير ذاتها.



(4) فى ظل الفراغ المخيم وإزاء عجز الأحزاب السياسية القاتمة عن الفعل السياسى فانها رفعت ضمنا شعار: العسكر هم الحل. وهو شعار كان بمثابة إشهار لإفلاس تلك الأحزاب وإعلان عن عجزها عن كسب ثقة الناس وأصواتهم. وهو ما أشارت إليه الدكتورة منار الشوربجى فى مقالها الذى سبقت الإشارة إليه، حين انتقدت تفويض الأحزاب للقوات المسلحة فى أحداث التغيير الذى عجزت عن تحقيقه. وكان القيادى اليسارى الأستاذ عبدالغفار شكر قد أشار إلى ذات المعنى فى مقالة نشرتها له جريدة الأهرام، قال فيها انه فى ظل ضعف جماهيرية الأحزاب المدنية الراهن فى مواجهة تيار الإسلام السياسى، فليس أمامها من سبيل للمشاركة فى السلطة إلا بالاستعانة بالقوات المسلحة.

هذا وجه آخر للأزمة يعكس مدى استعصائها على الحل. ذلك ان الأحزاب المدنية أبدت استعدادا مدهشا للتخلى عن الديمقراطية ومدنية المجتمع مقابل إقصاء الإخوان. وليس المراد هنا اتاحة الفرصة لتلك الأحزاب لكى تمسك هى بزمام السلطة من خلال ائتلاف أو غيره، ولكن لكى ينفسح المجال لعسكرة المجتمع وترحيل حلمه فى إقامة النظام الديمقراطى إلى أجل غير معلوم، ما العمل إذن؟

ليس أمامنا سوى ان نخوض التجربة وان نمارس فنتعلم من الأخطاء ونستوعب الدرس ــ التى من أهمها ان بلدا بحجم مصر أكبر من أى فصيل أو جماعة، وان همه وحلمه لن يحله إلى غايته إلا ابناؤه المخلصون، وهم موجودون فى كل فئة وفصيل، وأولى الناس باستيعاب هذا الدرس هم عناصر الإسلام السياسى الذين يتعين عليهم ان يضربوا المثل فى التفاعل مع الآخر واحتوائه، حتى أزعم أنهم إذا أعطوا إجازة خلوا فيها إلى أنفسهم وحاولوا الاستفادة من تجربتهم فى السلطة، فان ذلك سيعد خطوة مهمة يمكن ان يبنى عليها الكثير من إصلاح ما فسد وترميم ما انهدم، إذ ليس المطلوب انقاذ الإسلام السياسى من مأزقه، لان الأهم هو إنقاذ الوطن والوصول بسفينته إلى بر الأمان
*الشروق
أضافة تعليق