بقلم فهمي هويدي
لست واثقا من أننا على بينة من الجهد الحثيث الذي يبذل حولنا لاستثمار إخفاقات حكم الإخوان في الانقضاض على الربيع العربي والاعتذار عنه!
(1)
صحيح أن موت الربيع العربي لم يعلن بعد، لكن الشواهد التي تملأ الأفق تدل على أن ثمة تحضيرا لذلك، إن شئت فقل إن إعلام المرحلة يتحدث عن دخول الربيع في مرحلة مرض الموت من خلال تركيز الأضواء على علله، والتنديد بالنتائج التي ترتبت عليه. وهو ما سوغ إطلاق حملة هجائه واعتباره كارثة حلت بالعالم العربي انخدع بها أهله حينا من الدهر.
ذلك تلخيص لانطباع خرجت به ومعي نفر من المثقفين والخبراء العرب قدر لنا أن نجتمع في عمان خلال الأسبوع الماضي. المناسبة كانت اجتماعا لمناقشة تقرير بحثي عن التكامل الحضاري العربي، يفترض أن يصدر عن إحدى منظمات الأمم المتحدة المعنية بالمنطقة.
الاجتماع الأول لذلك ’’المجلس الاستشاري’’ كان قد عقد بالقاهرة في أوائل العام الماضي، حين كان التفاؤل والزهو بالربيع وبالمستقبل العربي لا يزال في أوجه، إلا أن تلك الروح اختلفت هذا العام، تبعا لاختلاف الأجواء المعتمة المخيمة. ليس فقط تأثرا بالرياح المعاكسة التي هبت على العالم العربي خلال العام المنقضي، ولكن أيضا تحسبا للإعصار القادم الذي يرجح له أن يقلب المنطقة رأسا على عقب، إذا تمت الضربة العسكرية الأميركية لسوريا، التي قد تكون بداية لمنعطف جديد في العالم العربي ولخرائط جديدة تستصحبه.
’’
الربيع في حقيقته تحول تاريخي شمل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بمقتضاه أصبح المواطن أكثر إدراكا لحقه في التغيير، وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم
’’
هذه المرة دخل بعضنا إلى قاعة الاجتماع في العاصمة الأردنية وكأنه قادم إلى سرادق عزاء، بعضنا كان حائرا ومتوجسا، والبعض الآخر ظل يصر على أن ’’الفقيد’’ لم يرحل بعد، رغم معاناته لبعض العلل، وكنت أحد القائلين بأن الربيع العربي لم يمت ولكن هناك من يتربص به ويريد الخلاص منه بالانقضاض عليه وقتله.
(2)
اجتماع عمان كان يناقش الحلم ممثلا في أمل التكامل الحضاري العربي، ولم يكن يناقش الواقع، إلا أن أحوال الربيع العربي فرضت نفسها عليه، ليس فقط بما يمثله من أمل في التكامل المنشود، ولكن أيضا بحسبانه يشكل القاعدة التي يفترض أن تؤسس لذلك الحلم.
في هذا الصدد كان رأيي أن الذين يرون الربيع العربي بحسبانه تحركا جماهيريا أدى إلى إسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية واستبدالها بأنظمة أخرى تعثرت أو فشلت، هؤلاء يخطئون في النظر من ثلاث زوايا.
الأولى أن الربيع في حقيقته تحول تاريخي شمل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بمقتضاه أصبح المواطن أكثر إدراكا لحقه في تغيير أوضاعه إلى الأفضل، وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم الاجتماعي والسياسي.
الثانية أن أهم ما في الربيع أنه غيّر في الإنسان أكثر مما غيّر في الهياكل والبنيان، بمعنى أنه ربما أفضى إلى تغيير بعض الأنظمة وإلى تضعضع أنظمة أخرى، وذلك هو الجزء الظاهر منه، لكنه أيضا يتمثل في تلك الرغبة العارمة في التغيير التي تجتاح العالم العربي.
وهذا الشوق تعبر عنه الكتابات والرسائل التي تحفل بها وسائل التواصل الاجتماعي في كل أنحاء العالم العربي، كما تعبر عنه تجمعات الناشطين والحقوقيين التي تبلورت في الأقطار الخليجية بوجه أخص.
الأمر الثالث أنه من التعجل الظالم أن يقيم الربيع العربي بعد سنتين أو ثلاث من وقوعه، لأن تحولا تاريخيا من ذلك القبيل لابد له أن يستغرق وقتا أطول، تماما مثلما لابد له أن يصادف عقبات وعثرات تتحداه وتعوقه، لأن الانتقال من الأنظمة الاستبدادية التي تحكمت في مصائر البلاد والعباد لعقود عدة إلى أنظمة ديمقراطية ليس أمرا هيّنا.
ذلك أن التشوهات التي أحدثتها تلك الأنظمة في بنية المجتمع السياسية والاجتماعية تشكل عقبة أساسية في توفير ضمانات نجاح التحول المنشود.
ثمة اعتبار آخر لا يمكن تجاهله في توصيف أجواء الإحباط والخيبة المخيمة، يتمثل في الدور الذي قامت به وسائل الإعلام (الميديا) في تشويه الربيع وإشاعة اليأس
وقد ذهبت في ذلك إلى حد إشاعة التعاطف مع الأنظمة الاستبدادية التي رحلت باعتبارها أقل سوءا من الأنظمة الأخرى التي حلت محلها (البرنامج التلفزيوني المصري ’’احنا آسفين يا ريس’’)، وإطلاق فكرة السماح لمبارك بخوض الانتخابات الرئاسية القادمة في مصر نموذج لذلك.
من باب ’’العبط’’ أو ’’الاستعباط’’ يتحدث بعض الإعلاميين عن أن منابرهم تنقل الحقيقة بما تتضمنه من أخطاء وهي بذلك تؤدي واجبها الطبيعي، إلا أن هناك فرقا بين رصد الأخطاء وصناعة الأكاذيب، وبين إعلان الحقيقة لإصلاح ما فسد وبين مخاصمة الحقيقة لهدم ما هو قائم.
ولن أذهب بعيدا في ذلك، وإنما سأستشهد بما كتبه الفيلسوف الأميركي الأشهر نعوم تشومسكي في مؤلفه الأخير ’’أنظمة القوة’’، ذلك أنه فضح ما اعتبره تواطؤا من جانب وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة في المجتمع الأميركي على تغييب وعي الجماهير أو الرسالة الثقافية.
’’
من التعجل الظالم أن يقيم الربيع العربي بعد نحو سنتين من وقوعه، لأن تحولا تاريخيا من ذلك القبيل لابد أن يستغرق وقتا أطول، كما لابد له أن يصادف عقبات وعثرات
’’
وهو الموقف الذي أطلق عليه مصطلح ’’تصنيع الموافقة’’، وهو الأمر الذي يعد نوعا من التدليس الذي يزيف الإدراك ويشكله على النحو الذي تتوخاه تلك الأبواق، وليس انطلاقا من اقتناع حقيقي يشكله وعي المتلقي.
ولئن كان ذلك حاصلا في المجتمع الأميركي رغم ما بلغه من تقدم في البناء السياسي والاجتماعي، فينبغي ألا نستكثر حدوثه في العالم العربي، وأن يصبح الربيع العربي من ضحاياه.
(3)
لست أختلف مع من يقول إن أخطاء عدة وقعت في مرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة المستبدة في بعض الأقطار العربية ومصر في المقدمة منها، وكنت أحد الذين انتقدوا تلك الأخطاء في حينها، واعتبروها من أصداء التشوهات التي أحدثتها الأنظمة المستبدة ومن ارتدادات الزلزال الذي وقع، ولكنني لست من المدرسة التي تنحاز إلى فكرة معالجة المريض بقتله.
وإذا لم تصدقني فيما أدعيه فأرجو أن تتدبر معي القرائن التي توالت في الفضاء العربي خلال الشهرين الأخيرين على الأقل، وهي المرحلة التي أزعم أن الانقضاض على الربيع العربي ظهر فيها إلى العلن.
الملاحظة المهمة في تلك القرائن أن عملية الانقضاض على الربيع العربي استثمرت إلى حد كبير ما حدث في مصر من ناحيتين، الأولى أن العملية استثمرت إخفاقات حكم الإخوان للتدليل على فشل الربيع العربي ورفض الجماهير لممارساته. والثانية أنه تم توظيف فكرة الحرب على الإرهاب التي أعلنت بمصر في مواجهة الإخوان للتنكيل بالمعارضين السياسيين والحقوقيين في عدة أقطار عربية، حتى ولو لم تكن لهم علاقة بالإخوان، في تكرار لما لجأت إليه الأنظمة العربية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011 حين أعلنت واشنطن حربها الكونية على الإرهاب، وكان المعارضون والناشطون العرب من ضحايا تلك الحملة.
القرائن التي أعنيها تتمثل فيما يلي:
- سيل الكتابات التي حفلت بها الصحف العربية الصادرة في لندن وأغلب الصحف الخليجية التي ركزت على هجاء الربيع العربي والتدليل على فشله والإعلان صراحة عن موته في بعض الأحيان، وهي الدعوة التي رددتها بعض المنابر المصرية، خصوصا تلك التي سعت إلى الطعن في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وتجريحها.
- الاحتشاد التلفزيوني المعبر عن ذات الموقف الذي عبرت عنه بعض القنوات الخاصة في مصر، إضافة إلى قناة العربية السعودية التي تبث من دبي، وسكاي نيوز التي تبث من أبو ظبي، وهما تتبنيان خطابا مناوئا لقناة الجزيرة القطرية. ومعلوم أن الأخيرة صدر قرار بإغلاقها وملاحقة ممثليها في القاهرة، بعدما تم إغلاق القنوات المعبرة عن الرأي الآخر في مصر.
- مسارعة دول ’’الاعتدال’’ في المنطقة المثيرة للغط والشبهات، التي خاصمت الربيع العربي منذ انطلاقه إلى الحفاوة بالانقلاب الذي حدث في مصر، وهرولتها نحو توفير احتياجات الوضع الاقتصادي المتأزم، إضافة إلى الجهد الدبلوماسي الذي بذلته لتليين مواقف الدول الأوروبية التي عارضت انقلاب الثالث من يوليو/تموز الماضي.
- الجهد الإسرائيلي السياسي والإعلامي المشهود الداعي إلى مساندة انقلاب يوليو/تموز الماضي، والضغوط التي مارستها إسرائيل لدى واشنطن والعواصم الغربية الأخرى لإقناعها بأهمية استمرار توريد السلاح إلى مصر، وعدم توقيع أية عقوبات عليها بسبب وصف ما جرى بأنه انقلاب.
(4)
في 26/8 الماضي نشرت صحيفة ’’الوطن’’ القاهرية أن منسق حركة ’’تمرد’’ في السعودية (م.م) أنجب طفلا سماه السيسي، وإذا صح الخبر فإنه يكشف للمرة الأولى أن حركة تمرد المصرية لها ممثل في المملكة، الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة المهمة عن علاقة السعودية بالحركة.
’’
الخزائن مفتوحة للتمويل، والرعاية الدولية ليست مستعصية، وما على خصوم الربيع سوى التحرك بهمة وسرعة لقطف الثمار وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قبل فوات الأوان
في الأخبار أيضا أن الفريق أحمد شفيق المقيم في أبو ظبي صرح لأحد البرامج التلفزيونية التي جرى بثها مساء الأحد ٨/٩ (العاشرة مساء) بأن الإمارات دعمت الداخلية المصرية بالأسلحة مؤخرا لمواجهة الإرهاب.
في ذات الوقت ذكرت التقارير الحقوقية أن حملة بوليسية واسعة النطاق استهدفت خلال الأشهر الأخيرة الناشطين والمدونين في بعض دول الخليج، بدعوى انتمائهم أو تعاطفهم مع الإخوان وحزب الله.
وبعد إعلان مدير شرطة دبي عن إعداد قائمة لإخوان الخليج لمنعهم من دخول أقطاره، وإرسال قائمة أخرى إلى بعض العواصم العربية لمنع دخول هؤلاء الأشخاص إليها، فإن السعودية أصدرت قرارا باعتقال أي إخواني باعتباره إرهابيا، حتى إذا كان قادما للحج أو العمرة، وذلك بالإضافة إلى منع 1200 سعودي من مغادرة البلاد.
وتم ذلك بعد إصدار أحكام بالسجن للعشرات من الناشطين الحقوقيين، تجاوز مجموعها 800 عام في إحدى القضايا، وكانت أبرز التهم هي عدم طاعة ولي الأمر.
في هذه الأجواء أعلنت حركة حماس عن اكتشافها مخططا استهدف غزة شاركت في ترتيبه إسرائيل وبعض عناصر السلطة في رام الله، وأشير إلى دور فيه لبعض الدول العربية التي تؤوي وتساند بعض الهاربين من قيادات الأمن الوقائي.
وعلم أن من بين ما استهدفه المخطط تنظيم احتشاد جماهيري تحت لافتة ’’تمرد’’ -أيضا- لإحداث انقلاب ضد سلطة القطاع يوم ١١ نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وليس معروفا ما إذا كان لهذه التحركات صلة بحركة ’’تمرد’’ التي تحاول زعزعة النظام القائم في تونس، رغم أن الرئيس منصف المرزوقي هوّن من شأنها متكئا على عوامل عدة أهمها حياد الجيش هناك.
المثقفون العرب الذين التقيتهم في عمان أجمعوا على أن ما حدث في مصر كان البداية، وأن الخائفين من الربيع العربي والمخاصمين له التقت مصالحهم على ضرورة الخلاص منه في الوقت الراهن، خصوصا أن الأجواء مهيأة لذلك، فتصنيع الموافقة يجري على قدم وساق، والخزائن مفتوحة للتمويل، والرعاية الدولية ليست مستعصية، بالتالي فليس على المعنيين بالأمر سوى أن يتحركوا بهمة وسرعة لقطف الثمار وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قبل فوات الأوان، وعلى الأمة بعد ذلك السلام!
*موقع الجزيرة نت*
لست واثقا من أننا على بينة من الجهد الحثيث الذي يبذل حولنا لاستثمار إخفاقات حكم الإخوان في الانقضاض على الربيع العربي والاعتذار عنه!
(1)
صحيح أن موت الربيع العربي لم يعلن بعد، لكن الشواهد التي تملأ الأفق تدل على أن ثمة تحضيرا لذلك، إن شئت فقل إن إعلام المرحلة يتحدث عن دخول الربيع في مرحلة مرض الموت من خلال تركيز الأضواء على علله، والتنديد بالنتائج التي ترتبت عليه. وهو ما سوغ إطلاق حملة هجائه واعتباره كارثة حلت بالعالم العربي انخدع بها أهله حينا من الدهر.
ذلك تلخيص لانطباع خرجت به ومعي نفر من المثقفين والخبراء العرب قدر لنا أن نجتمع في عمان خلال الأسبوع الماضي. المناسبة كانت اجتماعا لمناقشة تقرير بحثي عن التكامل الحضاري العربي، يفترض أن يصدر عن إحدى منظمات الأمم المتحدة المعنية بالمنطقة.
الاجتماع الأول لذلك ’’المجلس الاستشاري’’ كان قد عقد بالقاهرة في أوائل العام الماضي، حين كان التفاؤل والزهو بالربيع وبالمستقبل العربي لا يزال في أوجه، إلا أن تلك الروح اختلفت هذا العام، تبعا لاختلاف الأجواء المعتمة المخيمة. ليس فقط تأثرا بالرياح المعاكسة التي هبت على العالم العربي خلال العام المنقضي، ولكن أيضا تحسبا للإعصار القادم الذي يرجح له أن يقلب المنطقة رأسا على عقب، إذا تمت الضربة العسكرية الأميركية لسوريا، التي قد تكون بداية لمنعطف جديد في العالم العربي ولخرائط جديدة تستصحبه.
’’
الربيع في حقيقته تحول تاريخي شمل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بمقتضاه أصبح المواطن أكثر إدراكا لحقه في التغيير، وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم
’’
هذه المرة دخل بعضنا إلى قاعة الاجتماع في العاصمة الأردنية وكأنه قادم إلى سرادق عزاء، بعضنا كان حائرا ومتوجسا، والبعض الآخر ظل يصر على أن ’’الفقيد’’ لم يرحل بعد، رغم معاناته لبعض العلل، وكنت أحد القائلين بأن الربيع العربي لم يمت ولكن هناك من يتربص به ويريد الخلاص منه بالانقضاض عليه وقتله.
(2)
اجتماع عمان كان يناقش الحلم ممثلا في أمل التكامل الحضاري العربي، ولم يكن يناقش الواقع، إلا أن أحوال الربيع العربي فرضت نفسها عليه، ليس فقط بما يمثله من أمل في التكامل المنشود، ولكن أيضا بحسبانه يشكل القاعدة التي يفترض أن تؤسس لذلك الحلم.
في هذا الصدد كان رأيي أن الذين يرون الربيع العربي بحسبانه تحركا جماهيريا أدى إلى إسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية واستبدالها بأنظمة أخرى تعثرت أو فشلت، هؤلاء يخطئون في النظر من ثلاث زوايا.
الأولى أن الربيع في حقيقته تحول تاريخي شمل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بمقتضاه أصبح المواطن أكثر إدراكا لحقه في تغيير أوضاعه إلى الأفضل، وأكثر جرأة في التعبير عن رفضه للظلم الاجتماعي والسياسي.
الثانية أن أهم ما في الربيع أنه غيّر في الإنسان أكثر مما غيّر في الهياكل والبنيان، بمعنى أنه ربما أفضى إلى تغيير بعض الأنظمة وإلى تضعضع أنظمة أخرى، وذلك هو الجزء الظاهر منه، لكنه أيضا يتمثل في تلك الرغبة العارمة في التغيير التي تجتاح العالم العربي.
وهذا الشوق تعبر عنه الكتابات والرسائل التي تحفل بها وسائل التواصل الاجتماعي في كل أنحاء العالم العربي، كما تعبر عنه تجمعات الناشطين والحقوقيين التي تبلورت في الأقطار الخليجية بوجه أخص.
الأمر الثالث أنه من التعجل الظالم أن يقيم الربيع العربي بعد سنتين أو ثلاث من وقوعه، لأن تحولا تاريخيا من ذلك القبيل لابد له أن يستغرق وقتا أطول، تماما مثلما لابد له أن يصادف عقبات وعثرات تتحداه وتعوقه، لأن الانتقال من الأنظمة الاستبدادية التي تحكمت في مصائر البلاد والعباد لعقود عدة إلى أنظمة ديمقراطية ليس أمرا هيّنا.
ذلك أن التشوهات التي أحدثتها تلك الأنظمة في بنية المجتمع السياسية والاجتماعية تشكل عقبة أساسية في توفير ضمانات نجاح التحول المنشود.
ثمة اعتبار آخر لا يمكن تجاهله في توصيف أجواء الإحباط والخيبة المخيمة، يتمثل في الدور الذي قامت به وسائل الإعلام (الميديا) في تشويه الربيع وإشاعة اليأس
وقد ذهبت في ذلك إلى حد إشاعة التعاطف مع الأنظمة الاستبدادية التي رحلت باعتبارها أقل سوءا من الأنظمة الأخرى التي حلت محلها (البرنامج التلفزيوني المصري ’’احنا آسفين يا ريس’’)، وإطلاق فكرة السماح لمبارك بخوض الانتخابات الرئاسية القادمة في مصر نموذج لذلك.
من باب ’’العبط’’ أو ’’الاستعباط’’ يتحدث بعض الإعلاميين عن أن منابرهم تنقل الحقيقة بما تتضمنه من أخطاء وهي بذلك تؤدي واجبها الطبيعي، إلا أن هناك فرقا بين رصد الأخطاء وصناعة الأكاذيب، وبين إعلان الحقيقة لإصلاح ما فسد وبين مخاصمة الحقيقة لهدم ما هو قائم.
ولن أذهب بعيدا في ذلك، وإنما سأستشهد بما كتبه الفيلسوف الأميركي الأشهر نعوم تشومسكي في مؤلفه الأخير ’’أنظمة القوة’’، ذلك أنه فضح ما اعتبره تواطؤا من جانب وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة في المجتمع الأميركي على تغييب وعي الجماهير أو الرسالة الثقافية.
’’
من التعجل الظالم أن يقيم الربيع العربي بعد نحو سنتين من وقوعه، لأن تحولا تاريخيا من ذلك القبيل لابد أن يستغرق وقتا أطول، كما لابد له أن يصادف عقبات وعثرات
’’
وهو الموقف الذي أطلق عليه مصطلح ’’تصنيع الموافقة’’، وهو الأمر الذي يعد نوعا من التدليس الذي يزيف الإدراك ويشكله على النحو الذي تتوخاه تلك الأبواق، وليس انطلاقا من اقتناع حقيقي يشكله وعي المتلقي.
ولئن كان ذلك حاصلا في المجتمع الأميركي رغم ما بلغه من تقدم في البناء السياسي والاجتماعي، فينبغي ألا نستكثر حدوثه في العالم العربي، وأن يصبح الربيع العربي من ضحاياه.
(3)
لست أختلف مع من يقول إن أخطاء عدة وقعت في مرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة المستبدة في بعض الأقطار العربية ومصر في المقدمة منها، وكنت أحد الذين انتقدوا تلك الأخطاء في حينها، واعتبروها من أصداء التشوهات التي أحدثتها الأنظمة المستبدة ومن ارتدادات الزلزال الذي وقع، ولكنني لست من المدرسة التي تنحاز إلى فكرة معالجة المريض بقتله.
وإذا لم تصدقني فيما أدعيه فأرجو أن تتدبر معي القرائن التي توالت في الفضاء العربي خلال الشهرين الأخيرين على الأقل، وهي المرحلة التي أزعم أن الانقضاض على الربيع العربي ظهر فيها إلى العلن.
الملاحظة المهمة في تلك القرائن أن عملية الانقضاض على الربيع العربي استثمرت إلى حد كبير ما حدث في مصر من ناحيتين، الأولى أن العملية استثمرت إخفاقات حكم الإخوان للتدليل على فشل الربيع العربي ورفض الجماهير لممارساته. والثانية أنه تم توظيف فكرة الحرب على الإرهاب التي أعلنت بمصر في مواجهة الإخوان للتنكيل بالمعارضين السياسيين والحقوقيين في عدة أقطار عربية، حتى ولو لم تكن لهم علاقة بالإخوان، في تكرار لما لجأت إليه الأنظمة العربية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2011 حين أعلنت واشنطن حربها الكونية على الإرهاب، وكان المعارضون والناشطون العرب من ضحايا تلك الحملة.
القرائن التي أعنيها تتمثل فيما يلي:
- سيل الكتابات التي حفلت بها الصحف العربية الصادرة في لندن وأغلب الصحف الخليجية التي ركزت على هجاء الربيع العربي والتدليل على فشله والإعلان صراحة عن موته في بعض الأحيان، وهي الدعوة التي رددتها بعض المنابر المصرية، خصوصا تلك التي سعت إلى الطعن في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وتجريحها.
- الاحتشاد التلفزيوني المعبر عن ذات الموقف الذي عبرت عنه بعض القنوات الخاصة في مصر، إضافة إلى قناة العربية السعودية التي تبث من دبي، وسكاي نيوز التي تبث من أبو ظبي، وهما تتبنيان خطابا مناوئا لقناة الجزيرة القطرية. ومعلوم أن الأخيرة صدر قرار بإغلاقها وملاحقة ممثليها في القاهرة، بعدما تم إغلاق القنوات المعبرة عن الرأي الآخر في مصر.
- مسارعة دول ’’الاعتدال’’ في المنطقة المثيرة للغط والشبهات، التي خاصمت الربيع العربي منذ انطلاقه إلى الحفاوة بالانقلاب الذي حدث في مصر، وهرولتها نحو توفير احتياجات الوضع الاقتصادي المتأزم، إضافة إلى الجهد الدبلوماسي الذي بذلته لتليين مواقف الدول الأوروبية التي عارضت انقلاب الثالث من يوليو/تموز الماضي.
- الجهد الإسرائيلي السياسي والإعلامي المشهود الداعي إلى مساندة انقلاب يوليو/تموز الماضي، والضغوط التي مارستها إسرائيل لدى واشنطن والعواصم الغربية الأخرى لإقناعها بأهمية استمرار توريد السلاح إلى مصر، وعدم توقيع أية عقوبات عليها بسبب وصف ما جرى بأنه انقلاب.
(4)
في 26/8 الماضي نشرت صحيفة ’’الوطن’’ القاهرية أن منسق حركة ’’تمرد’’ في السعودية (م.م) أنجب طفلا سماه السيسي، وإذا صح الخبر فإنه يكشف للمرة الأولى أن حركة تمرد المصرية لها ممثل في المملكة، الأمر الذي يثير العديد من الأسئلة المهمة عن علاقة السعودية بالحركة.
’’
الخزائن مفتوحة للتمويل، والرعاية الدولية ليست مستعصية، وما على خصوم الربيع سوى التحرك بهمة وسرعة لقطف الثمار وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قبل فوات الأوان
في الأخبار أيضا أن الفريق أحمد شفيق المقيم في أبو ظبي صرح لأحد البرامج التلفزيونية التي جرى بثها مساء الأحد ٨/٩ (العاشرة مساء) بأن الإمارات دعمت الداخلية المصرية بالأسلحة مؤخرا لمواجهة الإرهاب.
في ذات الوقت ذكرت التقارير الحقوقية أن حملة بوليسية واسعة النطاق استهدفت خلال الأشهر الأخيرة الناشطين والمدونين في بعض دول الخليج، بدعوى انتمائهم أو تعاطفهم مع الإخوان وحزب الله.
وبعد إعلان مدير شرطة دبي عن إعداد قائمة لإخوان الخليج لمنعهم من دخول أقطاره، وإرسال قائمة أخرى إلى بعض العواصم العربية لمنع دخول هؤلاء الأشخاص إليها، فإن السعودية أصدرت قرارا باعتقال أي إخواني باعتباره إرهابيا، حتى إذا كان قادما للحج أو العمرة، وذلك بالإضافة إلى منع 1200 سعودي من مغادرة البلاد.
وتم ذلك بعد إصدار أحكام بالسجن للعشرات من الناشطين الحقوقيين، تجاوز مجموعها 800 عام في إحدى القضايا، وكانت أبرز التهم هي عدم طاعة ولي الأمر.
في هذه الأجواء أعلنت حركة حماس عن اكتشافها مخططا استهدف غزة شاركت في ترتيبه إسرائيل وبعض عناصر السلطة في رام الله، وأشير إلى دور فيه لبعض الدول العربية التي تؤوي وتساند بعض الهاربين من قيادات الأمن الوقائي.
وعلم أن من بين ما استهدفه المخطط تنظيم احتشاد جماهيري تحت لافتة ’’تمرد’’ -أيضا- لإحداث انقلاب ضد سلطة القطاع يوم ١١ نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وليس معروفا ما إذا كان لهذه التحركات صلة بحركة ’’تمرد’’ التي تحاول زعزعة النظام القائم في تونس، رغم أن الرئيس منصف المرزوقي هوّن من شأنها متكئا على عوامل عدة أهمها حياد الجيش هناك.
المثقفون العرب الذين التقيتهم في عمان أجمعوا على أن ما حدث في مصر كان البداية، وأن الخائفين من الربيع العربي والمخاصمين له التقت مصالحهم على ضرورة الخلاص منه في الوقت الراهن، خصوصا أن الأجواء مهيأة لذلك، فتصنيع الموافقة يجري على قدم وساق، والخزائن مفتوحة للتمويل، والرعاية الدولية ليست مستعصية، بالتالي فليس على المعنيين بالأمر سوى أن يتحركوا بهمة وسرعة لقطف الثمار وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء قبل فوات الأوان، وعلى الأمة بعد ذلك السلام!
*موقع الجزيرة نت*