د. رغيد الصلح
تمارس الحكومة “الإسرائيلية” ضغطاً متصاعداً على القيادات الفلسطينية والعربية وعلى المجتمع الدولي للاعتراف ب”إسرائيل” دولةً يهودية . يرى البعض هذا الضغط تعبيراً عن مسار متكرر للحركة الصهيونية . فالحركة تتطور من تطرف إلى تطرف أكثر وأشد . وهناك عدد من المحطات المهمة في رحلة
التطرف هذه، فلقد بدأت الحركة الصهيونية ذات توجهات اشتراكية ويسارية، وهذا لايعني الكثير بالمعايير التقدمية، لأن سمة الاشتراكية لاتسقط صفة العنصرية عن صاحبها . ويقدم الاشتراكيون الفرنسيون الذين قادوا الحرب ضد الثوار الجزائريين والذين كانوا شركاء في حرب السويس، مثالاً واضحاً على هذا التزاوج بين الاشتراكية والعنصرية . ولكن رغم ذلك كانت هناك فروق جزئية بين “اليسار” الصهيوني وبين “اليمين”، وكان الفرق في السياسات القصيرة المدى وليس السياسات البعيدة المدى .
لقد تغير الوضع خلال السبعينات، إذ تمكن “اليمين” الصهيوني بزعامة مناحيم بيغن من إطاحة حكومة العمل ومن تشكيل حكومة بقيادته . كان بيغن معزولاً وضعيف الأثر في السياسة “الإسرائيلية” . ويذكر أنه لما أراد زيارة الولايات المتحدة بعد إنشاء الكيان الصهيوني طالب فريق من اليهود البارزين مثل عالم الفيزياء الشهير آينشتاين وهانا آرندت، عالمة السياسة البارزة، بمنعه من دخول الأراضي الأمريكية لأنه فاشي وإرهابي . ولكن بيغن تحول إلى شخصية “إسرائيلية” بارزة بعد أن قبلت دول الغرب “أوراق اعتماده” الديمقراطية والليبرالية، وأضيفت إليها جائزة نوبل التي أهديت إليه مناصفة مع أنور السادات بعد توقيعه على معاهدة “كامب ديفيد” . وهكذا سارت رحلة التطرف وصولاً إلى تحويل “اليسار” إلى قوة محدودة الأهمية في السياسة “الإسرائيلية” .
ولكن رحلة التطرف لن تتوقف مع اليمين الحالي الحاكم، فهناك موجة ثالثة من التطرف “الإسرائيلي” سوف تأتي مع صعود المستوطنين وزيادة وزنهم في السياسة “الإسرائيلية” . ولقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة متمثلة بمنظمات جديدة، سلفية الطابع تدعو للعودة إلى منابع الفكر والعقيدة الصهيونية وإلى تفعيلها . من هذه المنظمات جماعة “إيم تيرتزو” التي تشن حرباً ضد منظمات حقوق الإنسان المناصرة للفلسطينيين وتدافع عنهم . وهناك منظمات أخرى تنتشر بين المستوطنين بصورة خاصة، بل تدعو إلى مقاومة السلطات “الإسرائيلية” بالوسائل كافة، إذا رضخت للضغوط الدولية وحاولت منع أو تجميد أو عرقلة الاستيطان .
يلاحظ البعض أن الصهاينة الأمريكيين لعبوا دوراً مهماً في مسيرة التطرف المتصاعد هذه، فعندما بدأت الحركة الصهيونية نشاطها كانت تقبل بقيام “وطن قومي لليهود” في فلسطين، ولم تكن تتحدث عن دولة لليهود فيها . واستمر هذا الموقف ساري المفعول إلى أن انعقد مؤتمر بيلتمور في نيويورك العام ،1942 فأصدر برنامجاً جديداً يحدد فيه أهداف الصهيونية تتضمن الدعوة إلى إنشاء دولة لليهود في فلسطين . وهكذا انتقلت الصهيونية، تحت ضغط المشتركين الأمريكيين في مؤتمر بيلتمور، من التحدث بالخفاء وبالهمس مع الزعماء الغربيين المتعاطفين والداعمين للمشروع الصهيوني عن الهدف الحقيقي للصهيونية، إلى المجاهرة بهذه الأهداف علناً وصراحة .
ويمكننا التوقف أيضاً عند نموذج آخر يدل على دور الصهاينة الأمريكيين في رحلة التطرف ويتمثل في ظاهرة الحاخام الأمريكي مئير كاهانا، وفي “رابطة الدفاع عن اليهود” التي تزعمها في الولايات المتحدة و”حزب كاخ” الذي انتقل بقيادته إلى “إسرائيل” . كان كاهانا من المبشرين “بالعنصرية والعنف والتطرف السياسي”، كما وصفته منظمة صهيونية أمريكية . وهو الذي أعلن وأكد مراراً أن “إسرائيل” هي دولة يهودية وليست دولة ديمقراطية . ولقد أصدرت محكمة “إسرائيلية” قراراً بحل “حركة كاخ” لأنها منظمة عنصرية بدليل الشعار الذي أعلنته . ولكن ها نحن اليوم نشهد الآن أن هذا المطلب تحول إلى شعار يعمل من أجله التيار الأوسع من “الإسرائيليين” .
تستوقف ظاهرة الدعم الأمريكي المتنامي للتطرف “الإسرائيلي” الكثيرين ومنهم بعض المثقفين والكتاب اليهود مثل بيتر باينارت، الأكاديمي الأمريكي الذي أصدر كتاباً بعنوان “أزمة الصهيونية” . وينتقد باينارت السياسة “الإسرائيلية” في مواضع مختلفة وفي مقدمتها أعمال الاستيطان . وهو يتهم الجماعات الصهيونية الأمريكية بأنها “بتركيزها على المحرقة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا الهتلرية، وفي تركيزها على ترصد مظاهر العداء للسامية مع غض الطرف عما يعانيه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، بأنها شريكة “لإسرائيل” في احتلالها للضفة الغربية”! وهو يقول أيضاً إن استمرار أعمال الاستيطان سوف يؤدي إلى منع قيام دولة فلسطينية، وهذا سوف يؤدي بدوره إلى تحويل “إسرائيل” من دولة ديمقراطية إلى دولة يهودية، وإذ يرفض باينارت هذا التحول فإنه يحمّل الصهاينة الأمريكيين مسؤوليته .
إن رحلة التطرف “الإسرائيلي” لن تتوقف إذا استمرت “إسرائيل” في وضعها الراهن، أي أقوى من كل الدول العربية مجتمعة، وإذا بقيت الدول العربية على حالها من التفتت والتشرذم . لقد اقتات التطرف الصهيوني من الضعف العربي . فبعد العام 1967 اتسع نشاط المنظمات الصهيونية على الصعيد العالمي، وعززت “إسرائيل” موقعها بين اليهود وغير اليهود من شعوب الأطلسي . بالمقابل فإن نتائج حرب العام 1973 لم تكن في مصلحة “إسرائيل” وبدأت الانتقادات الموجهة إليها في حفر سياسات جديدة ومواقف جديدة في المجتمع الدولي لمصلحة الفلسطينيين والعرب . ولسوف يستطيع العرب احتواء وصدّ التوسعيّة الصهيونية إذا ما حققوا نهضة ملموسة حقيقية في ديارهم، أما إذا بقيت الأوضاع العربية على حالها فإن “إسرائيل الكبرى” قادمة على الطريق .
*التجديد
تمارس الحكومة “الإسرائيلية” ضغطاً متصاعداً على القيادات الفلسطينية والعربية وعلى المجتمع الدولي للاعتراف ب”إسرائيل” دولةً يهودية . يرى البعض هذا الضغط تعبيراً عن مسار متكرر للحركة الصهيونية . فالحركة تتطور من تطرف إلى تطرف أكثر وأشد . وهناك عدد من المحطات المهمة في رحلة
التطرف هذه، فلقد بدأت الحركة الصهيونية ذات توجهات اشتراكية ويسارية، وهذا لايعني الكثير بالمعايير التقدمية، لأن سمة الاشتراكية لاتسقط صفة العنصرية عن صاحبها . ويقدم الاشتراكيون الفرنسيون الذين قادوا الحرب ضد الثوار الجزائريين والذين كانوا شركاء في حرب السويس، مثالاً واضحاً على هذا التزاوج بين الاشتراكية والعنصرية . ولكن رغم ذلك كانت هناك فروق جزئية بين “اليسار” الصهيوني وبين “اليمين”، وكان الفرق في السياسات القصيرة المدى وليس السياسات البعيدة المدى .
لقد تغير الوضع خلال السبعينات، إذ تمكن “اليمين” الصهيوني بزعامة مناحيم بيغن من إطاحة حكومة العمل ومن تشكيل حكومة بقيادته . كان بيغن معزولاً وضعيف الأثر في السياسة “الإسرائيلية” . ويذكر أنه لما أراد زيارة الولايات المتحدة بعد إنشاء الكيان الصهيوني طالب فريق من اليهود البارزين مثل عالم الفيزياء الشهير آينشتاين وهانا آرندت، عالمة السياسة البارزة، بمنعه من دخول الأراضي الأمريكية لأنه فاشي وإرهابي . ولكن بيغن تحول إلى شخصية “إسرائيلية” بارزة بعد أن قبلت دول الغرب “أوراق اعتماده” الديمقراطية والليبرالية، وأضيفت إليها جائزة نوبل التي أهديت إليه مناصفة مع أنور السادات بعد توقيعه على معاهدة “كامب ديفيد” . وهكذا سارت رحلة التطرف وصولاً إلى تحويل “اليسار” إلى قوة محدودة الأهمية في السياسة “الإسرائيلية” .
ولكن رحلة التطرف لن تتوقف مع اليمين الحالي الحاكم، فهناك موجة ثالثة من التطرف “الإسرائيلي” سوف تأتي مع صعود المستوطنين وزيادة وزنهم في السياسة “الإسرائيلية” . ولقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة متمثلة بمنظمات جديدة، سلفية الطابع تدعو للعودة إلى منابع الفكر والعقيدة الصهيونية وإلى تفعيلها . من هذه المنظمات جماعة “إيم تيرتزو” التي تشن حرباً ضد منظمات حقوق الإنسان المناصرة للفلسطينيين وتدافع عنهم . وهناك منظمات أخرى تنتشر بين المستوطنين بصورة خاصة، بل تدعو إلى مقاومة السلطات “الإسرائيلية” بالوسائل كافة، إذا رضخت للضغوط الدولية وحاولت منع أو تجميد أو عرقلة الاستيطان .
يلاحظ البعض أن الصهاينة الأمريكيين لعبوا دوراً مهماً في مسيرة التطرف المتصاعد هذه، فعندما بدأت الحركة الصهيونية نشاطها كانت تقبل بقيام “وطن قومي لليهود” في فلسطين، ولم تكن تتحدث عن دولة لليهود فيها . واستمر هذا الموقف ساري المفعول إلى أن انعقد مؤتمر بيلتمور في نيويورك العام ،1942 فأصدر برنامجاً جديداً يحدد فيه أهداف الصهيونية تتضمن الدعوة إلى إنشاء دولة لليهود في فلسطين . وهكذا انتقلت الصهيونية، تحت ضغط المشتركين الأمريكيين في مؤتمر بيلتمور، من التحدث بالخفاء وبالهمس مع الزعماء الغربيين المتعاطفين والداعمين للمشروع الصهيوني عن الهدف الحقيقي للصهيونية، إلى المجاهرة بهذه الأهداف علناً وصراحة .
ويمكننا التوقف أيضاً عند نموذج آخر يدل على دور الصهاينة الأمريكيين في رحلة التطرف ويتمثل في ظاهرة الحاخام الأمريكي مئير كاهانا، وفي “رابطة الدفاع عن اليهود” التي تزعمها في الولايات المتحدة و”حزب كاخ” الذي انتقل بقيادته إلى “إسرائيل” . كان كاهانا من المبشرين “بالعنصرية والعنف والتطرف السياسي”، كما وصفته منظمة صهيونية أمريكية . وهو الذي أعلن وأكد مراراً أن “إسرائيل” هي دولة يهودية وليست دولة ديمقراطية . ولقد أصدرت محكمة “إسرائيلية” قراراً بحل “حركة كاخ” لأنها منظمة عنصرية بدليل الشعار الذي أعلنته . ولكن ها نحن اليوم نشهد الآن أن هذا المطلب تحول إلى شعار يعمل من أجله التيار الأوسع من “الإسرائيليين” .
تستوقف ظاهرة الدعم الأمريكي المتنامي للتطرف “الإسرائيلي” الكثيرين ومنهم بعض المثقفين والكتاب اليهود مثل بيتر باينارت، الأكاديمي الأمريكي الذي أصدر كتاباً بعنوان “أزمة الصهيونية” . وينتقد باينارت السياسة “الإسرائيلية” في مواضع مختلفة وفي مقدمتها أعمال الاستيطان . وهو يتهم الجماعات الصهيونية الأمريكية بأنها “بتركيزها على المحرقة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا الهتلرية، وفي تركيزها على ترصد مظاهر العداء للسامية مع غض الطرف عما يعانيه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، بأنها شريكة “لإسرائيل” في احتلالها للضفة الغربية”! وهو يقول أيضاً إن استمرار أعمال الاستيطان سوف يؤدي إلى منع قيام دولة فلسطينية، وهذا سوف يؤدي بدوره إلى تحويل “إسرائيل” من دولة ديمقراطية إلى دولة يهودية، وإذ يرفض باينارت هذا التحول فإنه يحمّل الصهاينة الأمريكيين مسؤوليته .
إن رحلة التطرف “الإسرائيلي” لن تتوقف إذا استمرت “إسرائيل” في وضعها الراهن، أي أقوى من كل الدول العربية مجتمعة، وإذا بقيت الدول العربية على حالها من التفتت والتشرذم . لقد اقتات التطرف الصهيوني من الضعف العربي . فبعد العام 1967 اتسع نشاط المنظمات الصهيونية على الصعيد العالمي، وعززت “إسرائيل” موقعها بين اليهود وغير اليهود من شعوب الأطلسي . بالمقابل فإن نتائج حرب العام 1973 لم تكن في مصلحة “إسرائيل” وبدأت الانتقادات الموجهة إليها في حفر سياسات جديدة ومواقف جديدة في المجتمع الدولي لمصلحة الفلسطينيين والعرب . ولسوف يستطيع العرب احتواء وصدّ التوسعيّة الصهيونية إذا ما حققوا نهضة ملموسة حقيقية في ديارهم، أما إذا بقيت الأوضاع العربية على حالها فإن “إسرائيل الكبرى” قادمة على الطريق .
*التجديد