فهمي هويدي
اكتشاف وجود 78 وكيلا بمعهد ديني في سوهاج، في الوقت الذي تعانى فيه المحافظة من النقص في المدرسين والمدرسات، يسلط الضوء على مدى الخلل في المنظومة الإدارية بمصر. وهذا الاكتشاف الذي عرفناه من جريدة الأهرام (عدد 21/2) تم مصادفة أثناء زيارة قام بها للمعهد
رئيس قطاع المعاهد الأزهرية. ولست أشك في أن أمثاله من المسئولين لو واصلوا تدقيقهم في خريطة العاملين في كل مرفق ومؤسسة لصدمتهم الحقيقية، ذلك أن التقدير المتداول يشير إلى أنه في وزارة الأوقاف وحدها هناك ما بين 10 و12 ألف موظف مسجلون على الكشوف الرسمية، ويتقاضون عدة ملايين من الجنيهات شهريا، في حين أن هؤلاء الأشخاص لا وجود لهم في حقيقة الأمر. بمعنى أنهم أشخاص وهميون أضيفوا إلى كشوف الحضور والانصراف والرواتب، إلا أن غيرهم يوقع نيابة عنهم. ويقبض رواتبهم نيابة عنهم، وهذا هو الأهم بطبيعة الحال.
ليس الأمر مقصورا على وزارة الأوقاف ولكنه وباء استشرى في الجهاز الإداري (قال لي رئيس تحرير إحدى المجلات الحكومية إن في مؤسسته 65 نائبا لرئيس التحرير، بعضهم يقيمون في الأقاليم ولا يرى وجوههم). هذا الوباء جزء من التشوهات التي تراكمت طوال سنوات الفساد والفوضى، حتى تحولت إلى عاهات يصعب الخلاص منها. وهى السنوات التي كان أمن النظام وملاحقة المعارضين ومحاربة التطرف هي الشغل الشاغل لكل أجهزة الدولة.
معلومات وزارة البترول تقول مثلا إن في مصر ما بين 2700 و2800 محطة بنزين، إلا أن منها 600 محطة على الورق فقط ولا وجود لها في حقيقة الأمر. وهذه المحطات الوهمية تصرف لها يوميا حصة من البنزين تتسرب مباشرة إلى السوق السوداء. وإلى جانب محطات البنزين هناك فروع أخرى للتوزيع تعرف باسم «طلُمبة رصيف». وهذه الطلمبات يقدر عددها بحوالي 12 ألف وحدة، منها 800 طلمبة على الورق ولا وجود لها على الأرض، وأصحابها يتلقون حصتهم اليومية بالأسعار المدعمة، ثم يوجهونها بدورهم إلى السوق السوداء.
بسبب هذه الفوضى اتسع نطاق تجارة السوق السوداء في البنزين والسولار. وخلال الأسبوع الماضي الذي شهدت فيه بعض المدن اختناقات عدة في توزيع البنزين ثم ضبط 50 ألف طن كانت معدة للتهريب إلى السوق السوداء، وللعلم فإن مصر تستهلك يوميا 36 ألف طن، ينتج منها محليا 22 ألف طن والباقي (14 ألف طن) يتم استيرادها من الخارج. وعلى مكتب رئيس الجمهورية بيان يشير إلى أنه منذ تولى سلطته في أول شهر يوليو من العام الماضي وحتى الآن ضبطت السلطات المختصة ما يعادل 400 ألف طن من المحروقات، تسرقها عصابات منتشرة في طول البلاد وعرضها.
الحاصل في وزارة البترول له نظيره في بقية الوزارات، الأمر الذي ينبهنا إلى أن الكبار الذين تسلطوا على مقدرات مصر طوال ثلاثين سنة على الأقل لم ينهبوا ثروة البلد ومواردها فقط، وإنما شكلوا نموذجا للنهب والاستباحة احتذاه آخرون في مختلف الوظائف الدنيا. وهو ما يصور مدى جسامة مهمة تطهير الجهاز الحكومي من الخبائث التي علقت به طوال تلك الفترة. في هذا الصدد يلاحظ أن ثمة حديثا متواترا حول تطهير الداخلية وتطهير القضاء أو غير ذلك، إلا أن تطهير الجهاز الحكومي الذي يضم نحو 6 ملايين موظف ظل ملفا مؤجلا ومسكوتا عليه. في هذا الصدد ينبغي ألا نتجاهل الدور الذي قام به الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية الأسبق الذي يحسب له أنه طرق ذلك الباب، لكنه لم يمكن من استكمال مهمته، لأن الأجهزة صاحبة المصلحة انقضت على محاولته ونجحت في إيقافها وإفشالها. وكانت فكرته في ذلك بسيطة للغاية وتتلخص في أن مال الحكومة لا ينبغي أن يصرف بواسطة التوقيعات أو التوكيلات التي يسهل التلاعب فيها، ولكنه يصرف فقط بناء على بطاقة الرقم القومي. ذلك أنها وحدها الكفيلة بتحديد ما هو حقيقي وما هو وهمي في وظائف الحكومة. وبواسطتها يمكن التعرف على المبالغ التي يعرفها كل فرد والوظائف التي يشغلها لأن بعض العاملين يعينون في أكثر من جهة حكومية في وقت واحد. ليس ذلك فحسب، ولكن اشتراط إبراز بطاقة الرقم القومي يصبح ضروريا أيضا إذا ما كنا جادين في تطبيق نظام الحد الأقصى والأدنى للأجور، إذ بغيرها سيمكن التلاعب بذلك النظام وتفريغه من مضمونه.
لست أشك في أن الخبراء لهم اجتهادات متعددة في الموضوع، وبالتالي فهم أصحاب الكلمة الأخيرة في صدده، ويظل المهم في نهاية المطاف أن يوقف ذلك الإهدار والعبث الذي يضيع الموارد والحقوق، من خلال تفكير حازم ومسئول، ومن المسئولية أن يعاد النظر في هيكل الأجور في نفس الوقت لتوفير بديل كريم للذين يتحايلون ويسرقون لأنهم مضطرون.
*التجديد
اكتشاف وجود 78 وكيلا بمعهد ديني في سوهاج، في الوقت الذي تعانى فيه المحافظة من النقص في المدرسين والمدرسات، يسلط الضوء على مدى الخلل في المنظومة الإدارية بمصر. وهذا الاكتشاف الذي عرفناه من جريدة الأهرام (عدد 21/2) تم مصادفة أثناء زيارة قام بها للمعهد
رئيس قطاع المعاهد الأزهرية. ولست أشك في أن أمثاله من المسئولين لو واصلوا تدقيقهم في خريطة العاملين في كل مرفق ومؤسسة لصدمتهم الحقيقية، ذلك أن التقدير المتداول يشير إلى أنه في وزارة الأوقاف وحدها هناك ما بين 10 و12 ألف موظف مسجلون على الكشوف الرسمية، ويتقاضون عدة ملايين من الجنيهات شهريا، في حين أن هؤلاء الأشخاص لا وجود لهم في حقيقة الأمر. بمعنى أنهم أشخاص وهميون أضيفوا إلى كشوف الحضور والانصراف والرواتب، إلا أن غيرهم يوقع نيابة عنهم. ويقبض رواتبهم نيابة عنهم، وهذا هو الأهم بطبيعة الحال.
ليس الأمر مقصورا على وزارة الأوقاف ولكنه وباء استشرى في الجهاز الإداري (قال لي رئيس تحرير إحدى المجلات الحكومية إن في مؤسسته 65 نائبا لرئيس التحرير، بعضهم يقيمون في الأقاليم ولا يرى وجوههم). هذا الوباء جزء من التشوهات التي تراكمت طوال سنوات الفساد والفوضى، حتى تحولت إلى عاهات يصعب الخلاص منها. وهى السنوات التي كان أمن النظام وملاحقة المعارضين ومحاربة التطرف هي الشغل الشاغل لكل أجهزة الدولة.
معلومات وزارة البترول تقول مثلا إن في مصر ما بين 2700 و2800 محطة بنزين، إلا أن منها 600 محطة على الورق فقط ولا وجود لها في حقيقة الأمر. وهذه المحطات الوهمية تصرف لها يوميا حصة من البنزين تتسرب مباشرة إلى السوق السوداء. وإلى جانب محطات البنزين هناك فروع أخرى للتوزيع تعرف باسم «طلُمبة رصيف». وهذه الطلمبات يقدر عددها بحوالي 12 ألف وحدة، منها 800 طلمبة على الورق ولا وجود لها على الأرض، وأصحابها يتلقون حصتهم اليومية بالأسعار المدعمة، ثم يوجهونها بدورهم إلى السوق السوداء.
بسبب هذه الفوضى اتسع نطاق تجارة السوق السوداء في البنزين والسولار. وخلال الأسبوع الماضي الذي شهدت فيه بعض المدن اختناقات عدة في توزيع البنزين ثم ضبط 50 ألف طن كانت معدة للتهريب إلى السوق السوداء، وللعلم فإن مصر تستهلك يوميا 36 ألف طن، ينتج منها محليا 22 ألف طن والباقي (14 ألف طن) يتم استيرادها من الخارج. وعلى مكتب رئيس الجمهورية بيان يشير إلى أنه منذ تولى سلطته في أول شهر يوليو من العام الماضي وحتى الآن ضبطت السلطات المختصة ما يعادل 400 ألف طن من المحروقات، تسرقها عصابات منتشرة في طول البلاد وعرضها.
الحاصل في وزارة البترول له نظيره في بقية الوزارات، الأمر الذي ينبهنا إلى أن الكبار الذين تسلطوا على مقدرات مصر طوال ثلاثين سنة على الأقل لم ينهبوا ثروة البلد ومواردها فقط، وإنما شكلوا نموذجا للنهب والاستباحة احتذاه آخرون في مختلف الوظائف الدنيا. وهو ما يصور مدى جسامة مهمة تطهير الجهاز الحكومي من الخبائث التي علقت به طوال تلك الفترة. في هذا الصدد يلاحظ أن ثمة حديثا متواترا حول تطهير الداخلية وتطهير القضاء أو غير ذلك، إلا أن تطهير الجهاز الحكومي الذي يضم نحو 6 ملايين موظف ظل ملفا مؤجلا ومسكوتا عليه. في هذا الصدد ينبغي ألا نتجاهل الدور الذي قام به الدكتور أحمد درويش وزير التنمية الإدارية الأسبق الذي يحسب له أنه طرق ذلك الباب، لكنه لم يمكن من استكمال مهمته، لأن الأجهزة صاحبة المصلحة انقضت على محاولته ونجحت في إيقافها وإفشالها. وكانت فكرته في ذلك بسيطة للغاية وتتلخص في أن مال الحكومة لا ينبغي أن يصرف بواسطة التوقيعات أو التوكيلات التي يسهل التلاعب فيها، ولكنه يصرف فقط بناء على بطاقة الرقم القومي. ذلك أنها وحدها الكفيلة بتحديد ما هو حقيقي وما هو وهمي في وظائف الحكومة. وبواسطتها يمكن التعرف على المبالغ التي يعرفها كل فرد والوظائف التي يشغلها لأن بعض العاملين يعينون في أكثر من جهة حكومية في وقت واحد. ليس ذلك فحسب، ولكن اشتراط إبراز بطاقة الرقم القومي يصبح ضروريا أيضا إذا ما كنا جادين في تطبيق نظام الحد الأقصى والأدنى للأجور، إذ بغيرها سيمكن التلاعب بذلك النظام وتفريغه من مضمونه.
لست أشك في أن الخبراء لهم اجتهادات متعددة في الموضوع، وبالتالي فهم أصحاب الكلمة الأخيرة في صدده، ويظل المهم في نهاية المطاف أن يوقف ذلك الإهدار والعبث الذي يضيع الموارد والحقوق، من خلال تفكير حازم ومسئول، ومن المسئولية أن يعاد النظر في هيكل الأجور في نفس الوقت لتوفير بديل كريم للذين يتحايلون ويسرقون لأنهم مضطرون.
*التجديد