جميل السلحوت
جرؤت تظاهرة صاخبة في مصر، في الذكرى الثانية لتنحي حسني مبارك عن منصب الرئاسة، فرفعت صور الرئيس المخلوع وشعارات تعتذر له عن “الثورة” التي أطاحت به . ولم يكن المشاركون فيها، مثلما لاحظت ذلك وسائل الإعلام المصرية، ممن يمكن حسبانهم في جملة القاعدة
الاجتماعية والحزبية للنظام السابق، أو ممن يصفهم إعلام “الإخوان المسلمين” ب “الفلول”، وإنما كان منهم كثير ممن ثاروا عليه، قبل عامين، واعتصموا في ميداني التحرير وعبد المنعم رياض وسواهما من الساحات . ومع أن الجرأة لم تصل في الشارع التونسي إلى حدود التظاهرات الحاشدة اعتذاراً لزين العابدين بن علي، أو إشهاراً لصوره كما في مصر، إلا أن تونسيين كثراً لم يتحرجوا في التعبير عن الحنين إلى أيام رئيسهم السابق أمام عدسات الكاميرا ومراسلي الفضائيات العربية والأجنبية .
لا يمكن المرور بصمت، أو لامبالاة، أمام ظاهرة كهذه من دون التفكير في الأسباب التي تدعو قسماً كبيراً من الناس، في بلدي “الثورة”، إلى إتيان هذا الفعل من “الحنين” إلى رموز العهد البائد، ففيها من علامات الإنذار والخطورة ما يكفي للقول إن ما يجري في البلدين، منذ صعود النخب الحاكمة فيهما، ليس على ما يرام، ولا يترجم آمال وانتظارات الملايين الذين انتفضوا وأطاحوا بالنظامين السابقين، ثم عادوا اليوم إلى الشارع يطالبون بمثل ما طالبوا به قبل عامين، في تظاهرات تحولت إلى عصيان مدني .
لا يخامرنا شك في أن الأمر، في هذا الجهر ب “الحنين” إلى عهدي مبارك وابن علي، لا يتعلق فعلاً بحنين إلى زمن يصعب الحنين إليه، أو هكذا على الأقل تبدو لنا الأمور حتى الآن، وإنما هو يتعلق بإدانة معلنة لعهد “جديد” خيب الآمال، وفاقم من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية على النحو الذي فتح الحاضر والمستقبل على المجهول . لسنا نستبعد أن يكون في جملة أولئك الحاملين صور الرئيس المخلوع، اللاهجين باسمه وذكره، من كانوا ضد الثورة عليه أصلاً، وأجبرتهم تطورات الأمر الواقع على اللجوء إلى صمت اضطراري إلى حين تهيؤ ظروف الإفصاح، لكن الذي لا يرقى إليه شك أن الذين تظاهروا، حاملين الصور والشعارات تلك، إنما فعلوا ذلك على سبيل النكاية كي يقولوا إن العهد الحالي أسوأ من سابقه، وذلك هو معنى الاعتذار الذي باحوا به .
هذه واحدة، والثانية لا تقل عنها دلالة، في السياقات الجديدة للصراع السياسي والاجتماعي في تونس ومصر، هي انبعاث شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” من جديد، وتجدد التظاهرات الحاشدة في الساحات والميادين، أو على تخوم قصر الرئاسة ووزارة الداخلية، وعودة مشاهد المواجهات العنيفة بين قوات “الأمن” والمتظاهرين، ووقائع إحراق مقرات الأحزاب الحاكمة . . إلخ . نحن، إذن، في قلب المشهد عينه الذي عرفته تونس بين منتصف ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير/كانون الثاني ،2011 وعرفته مصر بين 25 يناير/كانون الثاني و11 فبراير/شباط ،2011 وكأن شيئاً لم يتغير، كأن أنظمة لم تسقط، واقتراعاً لم يحصل، ونخبة جديدة لم تصل إلى السلطة، و- بكلمة - كما لو أن شيئاً لم يتحقق من أهداف “الثورة” بعد عامين على اندلاعها . ولقد كان هذا في أساس إصرار كثيرين من الثوار، على رأسهم شباب “حركة 6 إبريل”، على تسمية ما يجري من حراك باسم الثورة، والتشديد على أنها لا تزال مستمرة، وأن شرعيتها أعلى من شرعية صناديق الاقتراع .
كيف حصل أن انتهت الأمور إلى نقطة البداية، إلى شعار “إسقاط النظام”؟ سيكون سخيفاً حقاً أن يقال، مثلما قيل فعلاً، إن عشرات آلاف المتظاهرين في شوارع القاهرة والإسكندرية، المشتبكين مع القوات النظامية، والهاتفين بشعار إسقاط النظام، والمحاصرين قصر الاتحادية، ومئات الآلاف المشيعين للشهيد بلعيد، الصادحين بمثل ما صدح به زملاؤهم في مصر من شعارات، ليسوا أكثر من “بلطجية” ومن فلول النظام السابق، ومن متآمرين على الشرعية، ففيهم كثرة كأثرة، لعلها الأغلب عدداً، ممن صوتوا لمصلحة محمد مرسي ضد أحمد شفيق، في الجولة الثانية، وممن صوتوا لحزب من أحزاب الترويكا الحاكمة في تونس، بل كان فيهم حلفاء معلنون ل “الإخوان المسلمين” في مصر مثل “حركة 6 إبريل” قبل طلاقها من الجماعة وحزبها (الحرية والعدالة) . وظني أن نعت المعارضة والمعارضين بهذه الأوصاف هو، عينه، ما كان يفعله نظاما مبارك وابن علي سابقاً، وهو ليس أكثر من محاولة يائسة للتهرب من المسؤولية عن دفع البلدين إلى هذا المنعرج الخطير الذي يهدد الاستقرار والوحدة الوطنية .
سلطة الإسلاميين في البلدين، اليوم، أمام امتحان عسير، هو امتحان الشرعية . الشرعية لا تأتي من صناديق الاقتراع فقط، وإنما من الشعور العام بأن السلطة ممثلة لإرادة الشعب . وعلى النخب الحاكمة أن تجيب، جواباً صادقاً، عن أسئلة هي في مقام نواقيس الخطر التي تدق وتسمع في الأرجاء: لماذا تخسر حلفاءها بهذه السرعة وفي شهور معدودات؟ لماذا ينتفض الشعب ضدها كل يوم؟ لماذا يذهب المتظاهرون من ضفة شعارات مطلبية إلى المطالبة بإسقاطها، أي إلى نزع الشرعية عنها؟ لن يفيدها كثيراً أن تضع المسؤولية عنها وتضعها على الشعب والمعارضة، فذلك شأن كل نظام مستبد، وإنما يفيدها أن تفكر في ما إذا كانت طريقتها في إدارة الدولة ومؤسساتها تحظى بالمقبولة، وأن تفكر في ما إذا كانت مقاربتها الأمنية - القمعية للمتظاهرين محمودة العواقب، وفي ما إذا كان تجاهلها لدعوات الحوار الوطني من المعارضة مسلكاً آمناً للاحتفاظ بالسلطة واحتكارها . وليس أمامها كثير وقت لتختار أي السبيلين أجدى، فقد تفاجئها التطورات بما لم تعلم .
*التجديد
جرؤت تظاهرة صاخبة في مصر، في الذكرى الثانية لتنحي حسني مبارك عن منصب الرئاسة، فرفعت صور الرئيس المخلوع وشعارات تعتذر له عن “الثورة” التي أطاحت به . ولم يكن المشاركون فيها، مثلما لاحظت ذلك وسائل الإعلام المصرية، ممن يمكن حسبانهم في جملة القاعدة
الاجتماعية والحزبية للنظام السابق، أو ممن يصفهم إعلام “الإخوان المسلمين” ب “الفلول”، وإنما كان منهم كثير ممن ثاروا عليه، قبل عامين، واعتصموا في ميداني التحرير وعبد المنعم رياض وسواهما من الساحات . ومع أن الجرأة لم تصل في الشارع التونسي إلى حدود التظاهرات الحاشدة اعتذاراً لزين العابدين بن علي، أو إشهاراً لصوره كما في مصر، إلا أن تونسيين كثراً لم يتحرجوا في التعبير عن الحنين إلى أيام رئيسهم السابق أمام عدسات الكاميرا ومراسلي الفضائيات العربية والأجنبية .
لا يمكن المرور بصمت، أو لامبالاة، أمام ظاهرة كهذه من دون التفكير في الأسباب التي تدعو قسماً كبيراً من الناس، في بلدي “الثورة”، إلى إتيان هذا الفعل من “الحنين” إلى رموز العهد البائد، ففيها من علامات الإنذار والخطورة ما يكفي للقول إن ما يجري في البلدين، منذ صعود النخب الحاكمة فيهما، ليس على ما يرام، ولا يترجم آمال وانتظارات الملايين الذين انتفضوا وأطاحوا بالنظامين السابقين، ثم عادوا اليوم إلى الشارع يطالبون بمثل ما طالبوا به قبل عامين، في تظاهرات تحولت إلى عصيان مدني .
لا يخامرنا شك في أن الأمر، في هذا الجهر ب “الحنين” إلى عهدي مبارك وابن علي، لا يتعلق فعلاً بحنين إلى زمن يصعب الحنين إليه، أو هكذا على الأقل تبدو لنا الأمور حتى الآن، وإنما هو يتعلق بإدانة معلنة لعهد “جديد” خيب الآمال، وفاقم من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية على النحو الذي فتح الحاضر والمستقبل على المجهول . لسنا نستبعد أن يكون في جملة أولئك الحاملين صور الرئيس المخلوع، اللاهجين باسمه وذكره، من كانوا ضد الثورة عليه أصلاً، وأجبرتهم تطورات الأمر الواقع على اللجوء إلى صمت اضطراري إلى حين تهيؤ ظروف الإفصاح، لكن الذي لا يرقى إليه شك أن الذين تظاهروا، حاملين الصور والشعارات تلك، إنما فعلوا ذلك على سبيل النكاية كي يقولوا إن العهد الحالي أسوأ من سابقه، وذلك هو معنى الاعتذار الذي باحوا به .
هذه واحدة، والثانية لا تقل عنها دلالة، في السياقات الجديدة للصراع السياسي والاجتماعي في تونس ومصر، هي انبعاث شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” من جديد، وتجدد التظاهرات الحاشدة في الساحات والميادين، أو على تخوم قصر الرئاسة ووزارة الداخلية، وعودة مشاهد المواجهات العنيفة بين قوات “الأمن” والمتظاهرين، ووقائع إحراق مقرات الأحزاب الحاكمة . . إلخ . نحن، إذن، في قلب المشهد عينه الذي عرفته تونس بين منتصف ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير/كانون الثاني ،2011 وعرفته مصر بين 25 يناير/كانون الثاني و11 فبراير/شباط ،2011 وكأن شيئاً لم يتغير، كأن أنظمة لم تسقط، واقتراعاً لم يحصل، ونخبة جديدة لم تصل إلى السلطة، و- بكلمة - كما لو أن شيئاً لم يتحقق من أهداف “الثورة” بعد عامين على اندلاعها . ولقد كان هذا في أساس إصرار كثيرين من الثوار، على رأسهم شباب “حركة 6 إبريل”، على تسمية ما يجري من حراك باسم الثورة، والتشديد على أنها لا تزال مستمرة، وأن شرعيتها أعلى من شرعية صناديق الاقتراع .
كيف حصل أن انتهت الأمور إلى نقطة البداية، إلى شعار “إسقاط النظام”؟ سيكون سخيفاً حقاً أن يقال، مثلما قيل فعلاً، إن عشرات آلاف المتظاهرين في شوارع القاهرة والإسكندرية، المشتبكين مع القوات النظامية، والهاتفين بشعار إسقاط النظام، والمحاصرين قصر الاتحادية، ومئات الآلاف المشيعين للشهيد بلعيد، الصادحين بمثل ما صدح به زملاؤهم في مصر من شعارات، ليسوا أكثر من “بلطجية” ومن فلول النظام السابق، ومن متآمرين على الشرعية، ففيهم كثرة كأثرة، لعلها الأغلب عدداً، ممن صوتوا لمصلحة محمد مرسي ضد أحمد شفيق، في الجولة الثانية، وممن صوتوا لحزب من أحزاب الترويكا الحاكمة في تونس، بل كان فيهم حلفاء معلنون ل “الإخوان المسلمين” في مصر مثل “حركة 6 إبريل” قبل طلاقها من الجماعة وحزبها (الحرية والعدالة) . وظني أن نعت المعارضة والمعارضين بهذه الأوصاف هو، عينه، ما كان يفعله نظاما مبارك وابن علي سابقاً، وهو ليس أكثر من محاولة يائسة للتهرب من المسؤولية عن دفع البلدين إلى هذا المنعرج الخطير الذي يهدد الاستقرار والوحدة الوطنية .
سلطة الإسلاميين في البلدين، اليوم، أمام امتحان عسير، هو امتحان الشرعية . الشرعية لا تأتي من صناديق الاقتراع فقط، وإنما من الشعور العام بأن السلطة ممثلة لإرادة الشعب . وعلى النخب الحاكمة أن تجيب، جواباً صادقاً، عن أسئلة هي في مقام نواقيس الخطر التي تدق وتسمع في الأرجاء: لماذا تخسر حلفاءها بهذه السرعة وفي شهور معدودات؟ لماذا ينتفض الشعب ضدها كل يوم؟ لماذا يذهب المتظاهرون من ضفة شعارات مطلبية إلى المطالبة بإسقاطها، أي إلى نزع الشرعية عنها؟ لن يفيدها كثيراً أن تضع المسؤولية عنها وتضعها على الشعب والمعارضة، فذلك شأن كل نظام مستبد، وإنما يفيدها أن تفكر في ما إذا كانت طريقتها في إدارة الدولة ومؤسساتها تحظى بالمقبولة، وأن تفكر في ما إذا كانت مقاربتها الأمنية - القمعية للمتظاهرين محمودة العواقب، وفي ما إذا كان تجاهلها لدعوات الحوار الوطني من المعارضة مسلكاً آمناً للاحتفاظ بالسلطة واحتكارها . وليس أمامها كثير وقت لتختار أي السبيلين أجدى، فقد تفاجئها التطورات بما لم تعلم .
*التجديد