عبد العزيز البرتاوي
كانت طروحات هذا الموضوع، مفتوحة للتّأمّل المفتوح من قبل. لكنّ واقعة الفلم المسيء، عجّلت بتدوين بعض ما يجري في أروقة هذه الفكرة، حول المقدّس الحقيقيّ، والتّدنيس المعنويّ.
من قبل، ومن سنيّ خمس ربّما، كان فراس سعد يناقش في فصل جميل، في كتابه ’’نقد العقل المغلق’’، ظاهرة التّقديس الصّوريّ، والتّعصّب الشّكليّ. المصحف الذي يقبّل كلّ رفّ يكون عليه. ويُهمل ما يدعو إليه. دخل فراس سعد إثر ذلك السّجن السّوريّ. وبقي كتابه لم يحظَ بمبيع كتب الرّواج والحميات والأبراج وأدب التّسلية.
يردّني إلى ذكر الكتاب والكاتب الآن، أمران: سوريّته التي تقتلنا كلّ مساء على نشرة الأخبار، وثورته التي كانت قبل هذه الثّورة الرّافعة نخب الموت حتى اللّحظة، وجهًا لوجه. يدًا بيد.
على فلم بائس يائس. هو نفسه الصّمت الذي كان يلازم كلّ هذه العواصم، وما جاورها من مدن الخريف والشّتاء، أمام فلم مسيء، ليس للرّسول الأعظم -عليه السّلام- وحده، بل ولله ولملائكته وكتبه ورسله وأديانه جميعًا، ثم هذا الشّارع لا ينتفض، ولا يغار، ولا يكفّ عن خلق برامج تسلية للصّوت الأجمل، والهدف الأفضل، والوجبة الأشهى، والرّقصة الأنكى، على جراحنا بالطّبع.
لستُ ضد الثّورة على أمريكا، سواء ارتكبت جرمًا حاليًّا، أو اكتفت بسجلّ جرائمها المعربد، طول عمرها القائم، على اجتثات أصلاء الأرض الهنود من أرضهم، أو من حيث استنزاف خيرات العالم من كلّ أرض، لإشباع كرش الكابويّ المريض بالشّراهة والطّمع. لذا، لا تنديد حول قتل سفير. لا ردّ حول هزّ أبواب سفارة. لا كلمة حول قذف زجاج نافذة قنصليّة. لا همسة إزاء تدمير عربة هامفي كاملة بما فيها من الجنود المرتزقة في طرقات كابول. ذلك أن ما روّع أمريكا في يومٍ واحد، ورجل واحد، يروّع كلّ بلد، بكلّ ما فيه، من ضربات لا تستحقّ حتى معرفة القاتل، فتكفي طائرة دون طيّار لاستهداف من تشاء، والتمرّن على قتل من لا تشاء. ولكون (4) ملايين عراقيّ قتيل –منذ التّسعينيّات وإلى الآن-، ليسوا مجرّد أرقام.
عودًا على مطلع الفكرة، ينتشر في غالب المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، ظاهرة التّنميط الصّوريّ. هيمنة الصّورة. الملامح الشكليّة، ليس للدّين وحده، كما يذهب التّفكير عادة، وإنّما لنمط المثقّفين اللّيبراليّين وعداهم، ونمط رجال الدّولة، ورجال المذاهب الدّينيّة فيها. فعمامة تعيّن موقفك من شخص. و’’بذلة’’ تحدّد مدى عدائه، أو اقترابه.
نمّطت الصّورة الأشخاص. صار الشّخص صورةً، حتى يثبت العكس. الموت كذلك صار صورة، ولهذا كان الانتفاض لفلم مسيء، ضمن ساعات تسجيليّة هزيلة، أكثر ترويعًا وإثارة وإغضابًا، من ’’صورة’’ لقتل مئويّ يوميّ، يعرض على وجه الشّاشة والأرض.
في البدء، تأتي أفكار من مثل: ما الفارق إذًا، هل يكون التّفكير في من أساء، أكثر منه في: ما هي الإساءة. فنقبل من شرطيّ البلد صفعتين على القفا، ولا نسكت على إيماءة من شرطيّ البلد الجار مثلاً. أم أنّ الأمر حوله شكوك تحوم في تبلّد الحس الحقيقيّ للاستنكار، حيث يصير موجّهًا، ومعروفًا، ومؤقّتًا، يُثار في حين، ويُطمر لحين آخر.
في سياق آخر: لا ينكر أحد أنّ ما يجري في السّجون العربيّة، أنّى كان مكانها، فلم مسيء، لكلّ الحياة. ولكلّ ما يمكن تقديسه من مذهب أرضيّ، أو سماويّ. لكن فلم الزّنزانة هذا، وإن كانت ذريعة عدم ظهوره، لم تعد باقية أمام كاميرات الفرد، وحساباته الشّخصيّة، لم يثر حركة هنا أو هناك، ليس بموازاة من جرى من نفير عامّ أمام الفلم المسيء، وإنّما بما يكفي لأن تكون قضيّة. فترى السّجن يفتح بابه لالتهام، لا نقصان له، ويغلقه على طحن آخرين قابعين من آماد، وما من ردّة فعل أكثر من توجّع خفيّ وسكوت.
من ثغرة أخرى: لا تدُسْ مصحفًا، وإلاّ ستقطع جموع الشّارع قدميك قبل رأسك. بينما ترى هذه الجموع، دوْس المصحف اليوميّ، في انتهاك كلّ مقدّساته فعليًّا، وماديًّا، بالقتل والفساد والتّرويع والسّجن والإقصاء والنّفي والمطاردة، في أيّ بلد عربيّ مسلم، يجعل من القرآن بالطّبع دستوره، ويملك جوقة مشايخ، يعلّلون لِمَ كانت مخالفة القرآن هنا جائزة، وكيف أن الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن، وفي حكمة وليّ الأمر، في ردّ هذه الآية ومخالفة الأخرى، وفي نفس الوقت: الحكم على صبيّ وآخر، بالإلحاد والردّة، لمجاهرتهم بشتم مقدّس، أو إهانة آخر.
إذًا، من أساء. لا ما الإساءة، تأخذ دورها هنا، في تشكيل الوعي الصّوريّ. الذي يرى شاتمًا، ويعمى عن قاتلين. يناكف نباحًا، ولا يحسّ بأنياب. والأمر الآخر: التّجييش المتعمّد إزاء إساءة، والسّكوت الأكثر تعمّدًا وقصدًا، أمام إساءات. قد تكون هي في منطق الحقّ وميزال العدل، أكثر مدًى، وأعظم أثرًا.
وثالثًا: دور رجل الدّين الأكيد، كممثّل للمقدّس، وكمرآة واضحة، لإثبات ملامح التّدنيس أو نفيه، وخطورة ما يمكن كمونه في ذلك من التواء ومحايلة مع السّياسيّ ومطمع المكسب الحاليّ، الدّنيويّ بالطّبع لا الدّينيّ.
في البعد الدّينيّ للأمر، نستذكر جميعًا، الحديث الشريف: ’’لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون عند الله من أن يُراق دم امرئ مسلم’’، لكن في الواقع غير الشريف، يقتل المرء المسلم هذا، بالمئات كلّ نشرة أنباء يوميّة. مع كون ’’بوستر’’ سابق، لاستهداف الكعبة، في عمل متخيّل، أثار، ولا يزال من الاستنكار والتّنديد، ما لم يفعله كلّ هذا القتل. وهذا جزء من تقديس الصّورة المقدّسة، وتدنيسها في نفس الوقت. إذًا مخالفة الأمر الواضح، لم تثر أمرًا، وتخيّل الأمر غير الواضح أثارت كلّ هذه الردود.
ملاحظة: الحديث جاء حوله أكثر من قول، بالردّ والبطلان، وآزرته معانٍ من أحاديث أخرى، لدى كتب الصّحاح. حتى لا يلتفت أحد إلى تقديس النّصّ، وترك الفكرة الآتي النّصّ في سياقها.
كم مسجدًا حتى الآن، هدمت قوات التّحالف الأمريكيّ، في أفغاستان والعراق وبلدان ’’الشرّ’’ هذه. وطالعت قبل أعوام كتابًا رفضت جهات الفسح في السّعوديّة ترقيمه ضمن كتبها، عن إحصائيّة شاملة لكمّ المساجد التي أُبيدت في العراق وحده. ثم لم يكن هنالك استنكار يكفي لهذه الأفلام المذلّة للإسلام ومنائره وشعائره، بالفعل والقول والحدث المستمرّ المضارع. ثم يرحل المشاهد المسلم، ووصف المشاهد هذا بالطّبع ليس مديحًا، لكنّه توصيف يقتضيه الحال، للمناكفة حول قداسة أمور أجمع الغرب والشّرق على تقديسها، لا يضرّها نباح غريب ضلّ قافلة العقل، وينسى كلّ مهازل القتل المستمرّ بحقّ كرامة الإنسان، وحياته وحريّته.
جاء هذا المقدّس، لهداية وتحرير وتنوير هذا الإنسان. لهذا، قبل الالتفات إلى حماية المقدّس وصيانته، عزيزي الغاضب، إنّه إن استمرّ الأمر تجاوزًا هكذا، فاعلم أنّه لا وجود سيكون لهذا الإنسان.
*نوافذ
كانت طروحات هذا الموضوع، مفتوحة للتّأمّل المفتوح من قبل. لكنّ واقعة الفلم المسيء، عجّلت بتدوين بعض ما يجري في أروقة هذه الفكرة، حول المقدّس الحقيقيّ، والتّدنيس المعنويّ.
من قبل، ومن سنيّ خمس ربّما، كان فراس سعد يناقش في فصل جميل، في كتابه ’’نقد العقل المغلق’’، ظاهرة التّقديس الصّوريّ، والتّعصّب الشّكليّ. المصحف الذي يقبّل كلّ رفّ يكون عليه. ويُهمل ما يدعو إليه. دخل فراس سعد إثر ذلك السّجن السّوريّ. وبقي كتابه لم يحظَ بمبيع كتب الرّواج والحميات والأبراج وأدب التّسلية.
يردّني إلى ذكر الكتاب والكاتب الآن، أمران: سوريّته التي تقتلنا كلّ مساء على نشرة الأخبار، وثورته التي كانت قبل هذه الثّورة الرّافعة نخب الموت حتى اللّحظة، وجهًا لوجه. يدًا بيد.
على فلم بائس يائس. هو نفسه الصّمت الذي كان يلازم كلّ هذه العواصم، وما جاورها من مدن الخريف والشّتاء، أمام فلم مسيء، ليس للرّسول الأعظم -عليه السّلام- وحده، بل ولله ولملائكته وكتبه ورسله وأديانه جميعًا، ثم هذا الشّارع لا ينتفض، ولا يغار، ولا يكفّ عن خلق برامج تسلية للصّوت الأجمل، والهدف الأفضل، والوجبة الأشهى، والرّقصة الأنكى، على جراحنا بالطّبع.
لستُ ضد الثّورة على أمريكا، سواء ارتكبت جرمًا حاليًّا، أو اكتفت بسجلّ جرائمها المعربد، طول عمرها القائم، على اجتثات أصلاء الأرض الهنود من أرضهم، أو من حيث استنزاف خيرات العالم من كلّ أرض، لإشباع كرش الكابويّ المريض بالشّراهة والطّمع. لذا، لا تنديد حول قتل سفير. لا ردّ حول هزّ أبواب سفارة. لا كلمة حول قذف زجاج نافذة قنصليّة. لا همسة إزاء تدمير عربة هامفي كاملة بما فيها من الجنود المرتزقة في طرقات كابول. ذلك أن ما روّع أمريكا في يومٍ واحد، ورجل واحد، يروّع كلّ بلد، بكلّ ما فيه، من ضربات لا تستحقّ حتى معرفة القاتل، فتكفي طائرة دون طيّار لاستهداف من تشاء، والتمرّن على قتل من لا تشاء. ولكون (4) ملايين عراقيّ قتيل –منذ التّسعينيّات وإلى الآن-، ليسوا مجرّد أرقام.
عودًا على مطلع الفكرة، ينتشر في غالب المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، ظاهرة التّنميط الصّوريّ. هيمنة الصّورة. الملامح الشكليّة، ليس للدّين وحده، كما يذهب التّفكير عادة، وإنّما لنمط المثقّفين اللّيبراليّين وعداهم، ونمط رجال الدّولة، ورجال المذاهب الدّينيّة فيها. فعمامة تعيّن موقفك من شخص. و’’بذلة’’ تحدّد مدى عدائه، أو اقترابه.
نمّطت الصّورة الأشخاص. صار الشّخص صورةً، حتى يثبت العكس. الموت كذلك صار صورة، ولهذا كان الانتفاض لفلم مسيء، ضمن ساعات تسجيليّة هزيلة، أكثر ترويعًا وإثارة وإغضابًا، من ’’صورة’’ لقتل مئويّ يوميّ، يعرض على وجه الشّاشة والأرض.
في البدء، تأتي أفكار من مثل: ما الفارق إذًا، هل يكون التّفكير في من أساء، أكثر منه في: ما هي الإساءة. فنقبل من شرطيّ البلد صفعتين على القفا، ولا نسكت على إيماءة من شرطيّ البلد الجار مثلاً. أم أنّ الأمر حوله شكوك تحوم في تبلّد الحس الحقيقيّ للاستنكار، حيث يصير موجّهًا، ومعروفًا، ومؤقّتًا، يُثار في حين، ويُطمر لحين آخر.
في سياق آخر: لا ينكر أحد أنّ ما يجري في السّجون العربيّة، أنّى كان مكانها، فلم مسيء، لكلّ الحياة. ولكلّ ما يمكن تقديسه من مذهب أرضيّ، أو سماويّ. لكن فلم الزّنزانة هذا، وإن كانت ذريعة عدم ظهوره، لم تعد باقية أمام كاميرات الفرد، وحساباته الشّخصيّة، لم يثر حركة هنا أو هناك، ليس بموازاة من جرى من نفير عامّ أمام الفلم المسيء، وإنّما بما يكفي لأن تكون قضيّة. فترى السّجن يفتح بابه لالتهام، لا نقصان له، ويغلقه على طحن آخرين قابعين من آماد، وما من ردّة فعل أكثر من توجّع خفيّ وسكوت.
من ثغرة أخرى: لا تدُسْ مصحفًا، وإلاّ ستقطع جموع الشّارع قدميك قبل رأسك. بينما ترى هذه الجموع، دوْس المصحف اليوميّ، في انتهاك كلّ مقدّساته فعليًّا، وماديًّا، بالقتل والفساد والتّرويع والسّجن والإقصاء والنّفي والمطاردة، في أيّ بلد عربيّ مسلم، يجعل من القرآن بالطّبع دستوره، ويملك جوقة مشايخ، يعلّلون لِمَ كانت مخالفة القرآن هنا جائزة، وكيف أن الله يزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن، وفي حكمة وليّ الأمر، في ردّ هذه الآية ومخالفة الأخرى، وفي نفس الوقت: الحكم على صبيّ وآخر، بالإلحاد والردّة، لمجاهرتهم بشتم مقدّس، أو إهانة آخر.
إذًا، من أساء. لا ما الإساءة، تأخذ دورها هنا، في تشكيل الوعي الصّوريّ. الذي يرى شاتمًا، ويعمى عن قاتلين. يناكف نباحًا، ولا يحسّ بأنياب. والأمر الآخر: التّجييش المتعمّد إزاء إساءة، والسّكوت الأكثر تعمّدًا وقصدًا، أمام إساءات. قد تكون هي في منطق الحقّ وميزال العدل، أكثر مدًى، وأعظم أثرًا.
وثالثًا: دور رجل الدّين الأكيد، كممثّل للمقدّس، وكمرآة واضحة، لإثبات ملامح التّدنيس أو نفيه، وخطورة ما يمكن كمونه في ذلك من التواء ومحايلة مع السّياسيّ ومطمع المكسب الحاليّ، الدّنيويّ بالطّبع لا الدّينيّ.
في البعد الدّينيّ للأمر، نستذكر جميعًا، الحديث الشريف: ’’لأن تهدم الكعبة حجرًا حجرًا أهون عند الله من أن يُراق دم امرئ مسلم’’، لكن في الواقع غير الشريف، يقتل المرء المسلم هذا، بالمئات كلّ نشرة أنباء يوميّة. مع كون ’’بوستر’’ سابق، لاستهداف الكعبة، في عمل متخيّل، أثار، ولا يزال من الاستنكار والتّنديد، ما لم يفعله كلّ هذا القتل. وهذا جزء من تقديس الصّورة المقدّسة، وتدنيسها في نفس الوقت. إذًا مخالفة الأمر الواضح، لم تثر أمرًا، وتخيّل الأمر غير الواضح أثارت كلّ هذه الردود.
ملاحظة: الحديث جاء حوله أكثر من قول، بالردّ والبطلان، وآزرته معانٍ من أحاديث أخرى، لدى كتب الصّحاح. حتى لا يلتفت أحد إلى تقديس النّصّ، وترك الفكرة الآتي النّصّ في سياقها.
كم مسجدًا حتى الآن، هدمت قوات التّحالف الأمريكيّ، في أفغاستان والعراق وبلدان ’’الشرّ’’ هذه. وطالعت قبل أعوام كتابًا رفضت جهات الفسح في السّعوديّة ترقيمه ضمن كتبها، عن إحصائيّة شاملة لكمّ المساجد التي أُبيدت في العراق وحده. ثم لم يكن هنالك استنكار يكفي لهذه الأفلام المذلّة للإسلام ومنائره وشعائره، بالفعل والقول والحدث المستمرّ المضارع. ثم يرحل المشاهد المسلم، ووصف المشاهد هذا بالطّبع ليس مديحًا، لكنّه توصيف يقتضيه الحال، للمناكفة حول قداسة أمور أجمع الغرب والشّرق على تقديسها، لا يضرّها نباح غريب ضلّ قافلة العقل، وينسى كلّ مهازل القتل المستمرّ بحقّ كرامة الإنسان، وحياته وحريّته.
جاء هذا المقدّس، لهداية وتحرير وتنوير هذا الإنسان. لهذا، قبل الالتفات إلى حماية المقدّس وصيانته، عزيزي الغاضب، إنّه إن استمرّ الأمر تجاوزًا هكذا، فاعلم أنّه لا وجود سيكون لهذا الإنسان.
*نوافذ