عادل أمين
نشأت «الحوثية» في اليمن كصنعة سياسية ونبته سلطوية داخل القصر الجمهوري، بحسب الكثير من المراقبين، لإحداث نوع من التوازن السياسي مع التيارات الإسلامية المناوئة تحديداً لنظام الرئيس السابق «علي عبدالله صالح»، واستخدامها بدرجة أساسية لمقارعة الخصوم، بما في ذلك مواجهة تمدد «الإصلاح والاشتراكي» في محافظة صعدة، وهو التمدد الذي أثار مخاوف النظام السابق نتيجة تزايده بشكل ملحوظ عقب إعلان الوحدة. ولم يكن بوسع النظام حينها ملء الفراغ الذي خلّفه هناك، فعمد إلى خلق بؤر ذات بعد طائفي ومذهبي، وموّلها ووفر لها الإمكانات اللازمة للحركة والانتشار، وبالتالي سُلمت للحوثيين محافظة صعدة من وقت مبكر، حتى أن حسين بدر الدين الحوثي (مؤسس الجماعة) كان يتسلم ريع المحافظة كاملاً من زكوات وضرائب، إضافة إلى ميزانية أخرى من النفقات المركزية، وكانت السلطة تظن أنها ستخلق كتلة ذات ثقل لتقف في وجه الإصلاح من الناحية المذهبية والأيديولوجية، بيد أن السحر انقلب على الساحر، وصار الحوثيون يتطلعون لبناء مشروعهم الخاص بدلاً من «علي عبدالله صالح»، وفقاً لرؤيتهم الفقهية التي تعتبره مغتصباً للسلطة كونه ليس من «البطنين» (ذرية الحسن والحسين)، وهذا شرط أساس عندهم وأصل من أصول الدين لا يمكن التنازل عنه. وطبقاً للحوثي الأب (بدر الدين) هناك نوعان من الحكم أو الرئاسة، نوع يسمى «الإمامة» وهذا خاص بآل البيت، ونوع يسمى «الاحتساب»، وهذا يمكن أن يكون في أي مؤمن عدل، أن يحتسب لدين الله ويحمي الإسلام ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو لم يكن من «البطنين»، كما جاء في مقابلته مع صحيفة «الوسط» نهاية عام 2004م، مضيفاً: لا يوجد تعارض بين الاثنين؛ لأنه إذا انعدم الإمام يكون الاحتساب، فالحسبة لها شروط مصغرة أقل من شروط الخلافة أو الإمامة، بحسب العلامة محمد عبدالعظيم الحوثي، أحد أبرز خصوم الحوثية في صعدة.
ومن هنا، فالحوثيون لا يعترفون بشرعية النظام الجمهوري اليمني الذي قام على أنقاض الحكم الإمامي البائد عقب ثورة سبتمبر 1962م، ويعتبرون أنفسهم أحق بالحكم (الإمامة) بدعوى انتسابهم لآل البيت، في ذات الوقت الذي يرون - مع بقية الزيدية - ضرورة أن يكون الحاكم في اليمن زيدياً، وإن تعذر أن يكون من آل البيت. تبادل المصالح لم يُخفِ النظام السابق دعمه لحسين الحوثي وجماعته من الشباب المؤمن (الطليعة الفكرية للحوثيين)، فقد اعترف «صالح» بذلك صراحة في لقائه بعلماء الزيدية أثناء الحرب الحوثية الأولى في 2004م، وهو ما كشفته الأحداث فيما بعد، وأكده تالياً أحد أبرز علماء بيت الحوثي، وهو العلامة محمد عبدالعظيم الحوثي - تربطه صلة قرابة بالحوثيين - في مقابلة صحفية مع «الأهالي» (العدد 170)، إلاّ أنه لفت أيضاً إلى شيء آخر مهم وهو أن «الشباب المؤمن» و«حزب الحق» الذي ضمهم قدموا تنازلات مقابل حصولهم على دعم السلطة آنذاك، وهي تنازلات فكرية على أي حال، يمكن النظر إليها من باب «التقية» التي يؤمن بها هؤلاء، حيث قال للصحيفة: «والشباب كانوا معتمدين على الحكومة اليمنية وعلى الدستور، حيث إنه يقول بالديمقراطية ولا يقول بالإمامة، كانوا يغازلون الحكومة بحيث إن الحكومة تشجعهم»، وحين سُئل بماذا غازلوها؟ أجاب: «غازلوا الحكومة بالقول: إن الإمامة ليست مقصورة على السادة ولا على أهل البيت»، مضيفاً: «عاونتهم بأربعمائة ألف ريال شهرياً».
وهنا يمكن أن نستشف مقصداً آخر من مقاصد «صالح» في تمويل جماعة الشباب المؤمن (سابقاً)، الحوثيين (لاحقاً)، بما في ذلك «حزب الحق» الذي كان الحاضن لهذا التيار، وهو محاولته تعزيز مشروعيته السياسية - بإسقاط شرط البطنين - لدى التيار الزيدي عموماً، والحصول منه بصفة خاصة على نوع من التعميد (الشرعي) لحكمه، الذي سينعكس بالطبع على شكل مؤازرة وإسناد سياسي، وأمام ذلك فُتحت الأبواب على مصراعيها لحسين الحوثي وجماعته ليحظى برعاية النظام وعطفه، ويتمدد بكل حرية في المحافظات ذات الصبغة الزيدية. استدعاء إيران مثلت الزيارة التاريخية التي قام بها «صالح» لإيران عام 2000م، اللحظة الفارقة في مسيرة دعم الحوثي، إذ كانت الزيارة بمثابة استدعاء رسمي لإيران لتمارس دوراً محورياً في تنمية ورعاية الحوثية في اليمن، باعتبارها غدت القاسم المشترك لمصالح الطرفين، وكان من نتائج تلك الزيارة الاتفاق على أن تتحمل إيران أعباء التمويل إلى جانب النظام، الذي سيضطلع بالإضافة إلى ذلك بالأعباء التنظيمية للجماعة، لتفُتح الأبواب أمام إيران بمباركة وترحيب الحكومة اليمنية، ووجدت إيران فرصتها في التواجد والانسياح بهدوء داخل المجتمع اليمني عبر الخدمات الصحية في أكثر من مكان، والتي مثلت غطاءً ملائماً لتحركاتها، ووفرت لها في الوقت نفسه مصدراً مهماً لتمويل نشاطاتها، التي تُوجّت بمنحها عام 2002م مناقصة إنشاء محطة «مأرب الغازية»!
فعطاءات المشروع رست بطريقة غير مفهومة على شركة إيرانية قالت التقارير فيما بعد: إنها تفتقر لأي خبرات تقنية في هذا المجال، بدليل أنها أخذت قرابة تسع سنوات لإنجاز المشروع، وهو ما كبد الحكومة اليمنية خسائر فادحة بمئات الملايين من الدولارات. في الوقت الذي أخذت الحركة الحوثية تنمو وتزدهر وتتمدد في غفلة من المجتمع، وربما كذلك في استغفال للنظام السابق نفسه، فـ«صالح» برر ظهور الحوثية على ذلك النحو العنيف المفاجئ بالقول: إن تقارير كانت تصل من السلطة المحلية في صعدة تحذر من أنشطة وأعمال مريبة واستعدادات جارية للحوثيين خارج نطاق القانون، لكن مسؤولين مقربين منه كانوا يُهوّنون له الأمر، ويتهمون رافعي التقارير بالمبالغة وتهويل شأن الحوثي وجماعته.. وبطبيعة الحال، لا يمكن الوثوق بما قاله «صالح» آنذاك، وبخاصة بعدما تفجرت الحرب مع الحوثيين، وصار بحكم الواقع مسؤولاً عما حدث، فهو أراد تبرئة ساحته، وعدم تحمل مسؤولية صعود جماعة مسلحة متمردة تعمل خارج النظام والقانون، فيما هو متواطئ معها منذ البداية، وفي حين أرادها صالح شوكة في حنجرة خصومه، وفي خاصرة جيرانه ليسهل عليه ابتزازهم، فإن الحوثيين أصبحوا في نهاية المطاف طلاب سلطة، مدفوعين بإرث تاريخي، وتفويض إلهي يدّعون امتلاكه بانتسابهم للإمام علي رضي الله عنه .
الحوثيون والزيدية نخلص مما تقدم، بأن الحركة الحوثية وجدت في نظام «علي صالح» السابق الحضن الدافئ، الذي أسهم بدوره لمآرب خاصة في إفساح المجال لإيران لتكون حضناً دافئاً آخر لهم؛ وهو ما أتاح للحوثيين أن يمدوا أذرعهم في الداخل والخارج، وفي حين كانوا يقدمون خدماتهم لرعاتهم، فقد كانوا يعملون من خلال ذلك لتقوية مركزهم وتمرير مشروعهم الخاص في بسط نفوذهم للوصول إلى السلطة وتقاسمها مع الحاكم والاستئثار بها فيما بعد.. وفي ذلك، قال تقرير دوري لمركز أبعاد للدراسات والبحوث (يمني): «إن الحوثيين من خلال تحركاتهم العسكرية للسيطرة على المناطق الشمالية في اليمن يهدفون على المدى القريب للتحول إلى القوة الأولى في تلك المناطق، وإرغام القوة السياسية للقبول بنظام المحاصصة كما هو حاصل في لبنان، من خلال سياسة فرض الأمر الواقع، في حين يرون أن هذا التحرك سيختصر مراحل كثيرة لتحقيق هدفهم الإستراتيجي المتمثل في إقامة دويلة جنوب المملكة العربية السعودية وشمال اليمن، تمتد بين محافظتي الجوف ومأرب النفطية شرقاً وميناء ميدي على البحر الأحمر غرباً». لكن وبعيداً عن ذلك، ثمة تساؤل يطرح نفسه، هل للحوثية علاقة بالزيدية في اليمن؟ وهل يمثل المشروع الحوثي الوجه الآخر للمذهب الزيدي؟ الأكيد أنهم لا يمثلون المذهب الزيدي في اليمن لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانوا يدّعون أنهم جزءاً منه لظروف المرحلة، وما هو ثابت أن علماء الزيدية المعتدلين يعتبرونهم خارجين على المذهب وضُلاّلاً، وبذلك قال بيان علماء الزيدية الذي استطاعت السلطة انتزاعه منهم قبيل إعلان الحرب الأولى بأيام، وهذا ما يجزم به أحد علماء الحوثية محمد عبدالعظيم الحوثي، بقوله: «أبداً هم لا يمثلون المذهب الزيدي، ولا يوجد وجه للتمثيل لا من الناحية العلمية ليسوا بأهل لها.. أما بدر الدين، فإذا كان يزعم أنه يمثل الزيدية على أسس علمية فالسيد مجد الدين أعلم منه، وكثير من علمائنا خير منه، وأما هم فليسوا بعلماء ولا يمكن أن يمثلوا المذهب الزيدي بغير علم».. ويضيف: «أما أنا فأقول: إنهم اعتدوا علينا واعتدوا على عقيدتنا وخرجوا على مذهبنا». وفي رده على صحيفة «الأهالي»: هل يمثلون الاثني عشرية؟ أجاب: «هم يمثلونه من الناحية العسكرية فقط، أما المذهب أنا لا أتهمهم بأنهم اثنا عشرية، لا ولا هم زيدية، إنما هم مارقون خرجوا عن الدين كله، ما هم زيدية ولا جعفرية ولا شافعية ولا معهم مذهب من المذاهب، والدليل على ذلك استباحتهم لأموال المسلمين ودمائهم بغير حق، فالشباب المفتون هم أعداء الإسلام كله وأعداء الدين وأعداء المؤمنين»..
مؤكداً في الوقت نفسه على خطورتهم ووجوب التصدي لهم قائلاً: «ونحن مصممون على جهادهم، والله إن جهادهم أفضل من جهاد اليهود، وأنهم أخبث من «إسرائيل» وأضر على الإسلام». هذه بعض آراء أحد علماء الزيدية المنتسبين للبيت الحوثي نفسه، وربما حملت قدراً من المبالغة بحكم العداء المستحكم بينه وبينهم، إلاّ أن الحوثيين لم يقدموا حتى الآن الصورة المثلى التي يمكن الوثوق بها لمجادلة منتقديهم والرد عليهم، وثمة مسألة أخرى، فالحوثية لا يمكن اعتبارها مدرسة فكرية جديدة، وهي وإن كانت لا تمثل امتداداً فكرياً أو مذهبياً للزيدية، إلاّ أنها تلتقي مع إحدى فرق الزيدية المندثرة وهي الجارودية في بّ الصحابة، وهي بذلك تكون أقرب إلى الاثني عشرية منها للزيدية.
الحاجة للتحالفات الحوثية بطبيعة نشأتها لا تستطيع البقاء خارج نطاق التحالفات الداخلية أو الخارجية، ولا يمكنها العيش بمعزل عن دعم حلفائها، وهي لن تستطيع تمرير مشروعها الخاص بقدرات ذاتية، لذا تظل بحاجة دائماً لعقد تحالفات مع هذا الطرف أو ذاك، حيث إن تقاطع المصلحة بين «صالح» والحوثيين تركز في سعي الطرفين لإفشال «المبادرة الخليجية»، فهي عند الأول كانت الآلية السلسة والآمنة لضياع الحكم منه ومن عائلته، وهي عند الثاني آلية سعودية مغضوب عليها من الحليف الإيراني الداعم ولابد من تقويضها.. وفي هذا السياق، كانت مصادر صحفية قد أشارت إلى أن «صالح» «المخلوع» كان قد قدم دعماً سخياً للحوثيين بقيمة 4مليارات ريال لإفشال «المبادرة الخليجية»، واحتواء الثورة الشعبية وتشتيت جهودها، ولأجل هذه الغاية عاد الحوثيون للتحالف مع فلول نظام «صالح» المنهار بعدما أيقنوا أن الثورة الشعبية التي كنسته ستكنس حتماً كل مخلفاته الأخرى، والحوثية هي أحد مخلفات «صالح»، شأنها في ذلك شأن «القاعدة» في اليمن التي افتضح تواطؤه معها. ثورة مضادة لقد تأكد للجميع بمن فيهم الحوثيون، أن نظام «صالح» إلى زوال، وهذا من شأنه إنهاء كل مظاهر النظام السابق وبناء نظام سياسي جديد، والذي بدوره سيلتفت إلى الجيوب التي تركها «صالح» وراءه، وفي مقدمتها الحوثية، التي ستكون بعد استقرار النظام السياسي ونجاح الثورة الشعبية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تقرر إلقاء سلاحها طوعاً والتحول للعمل السياسي والفكري، والعيش في ظل دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية، وإما أن تُصر على البقاء حركة تمرد خارجة عن النظام والشرعية الدستورية، ساعتها سيكون عليها ليس مواجهة المجتمع اليمني وحسب، بل والمجتمع الدولي بأسره كما «القاعدة تماماً»، ولكي لا تجد الحوثية نفسها في مثل هذا المأزق، فقد سارعت لعقد تحالفات جديدة في الساحة، مع فلول نظام «صالح» المنهار، ومع بعض القوى الناقمة التي لا وزن لها في الساحة، والتي تدّعي تمثيل الحداثة والليبرالية، هؤلاء الذين ينطلقون في تحالفهم مع الحوثيين من عداء متوارث للإسلاميين، فالحوثيون يقودون ثورة مضادة للثورة الشعبية، لحرف الثورة ومحاولة الاستيلاء عليها، وأيضاً لإسقاط حكومة الوفاق، وبذر الخلاف.
*ينابيع تربوية
نشأت «الحوثية» في اليمن كصنعة سياسية ونبته سلطوية داخل القصر الجمهوري، بحسب الكثير من المراقبين، لإحداث نوع من التوازن السياسي مع التيارات الإسلامية المناوئة تحديداً لنظام الرئيس السابق «علي عبدالله صالح»، واستخدامها بدرجة أساسية لمقارعة الخصوم، بما في ذلك مواجهة تمدد «الإصلاح والاشتراكي» في محافظة صعدة، وهو التمدد الذي أثار مخاوف النظام السابق نتيجة تزايده بشكل ملحوظ عقب إعلان الوحدة. ولم يكن بوسع النظام حينها ملء الفراغ الذي خلّفه هناك، فعمد إلى خلق بؤر ذات بعد طائفي ومذهبي، وموّلها ووفر لها الإمكانات اللازمة للحركة والانتشار، وبالتالي سُلمت للحوثيين محافظة صعدة من وقت مبكر، حتى أن حسين بدر الدين الحوثي (مؤسس الجماعة) كان يتسلم ريع المحافظة كاملاً من زكوات وضرائب، إضافة إلى ميزانية أخرى من النفقات المركزية، وكانت السلطة تظن أنها ستخلق كتلة ذات ثقل لتقف في وجه الإصلاح من الناحية المذهبية والأيديولوجية، بيد أن السحر انقلب على الساحر، وصار الحوثيون يتطلعون لبناء مشروعهم الخاص بدلاً من «علي عبدالله صالح»، وفقاً لرؤيتهم الفقهية التي تعتبره مغتصباً للسلطة كونه ليس من «البطنين» (ذرية الحسن والحسين)، وهذا شرط أساس عندهم وأصل من أصول الدين لا يمكن التنازل عنه. وطبقاً للحوثي الأب (بدر الدين) هناك نوعان من الحكم أو الرئاسة، نوع يسمى «الإمامة» وهذا خاص بآل البيت، ونوع يسمى «الاحتساب»، وهذا يمكن أن يكون في أي مؤمن عدل، أن يحتسب لدين الله ويحمي الإسلام ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولو لم يكن من «البطنين»، كما جاء في مقابلته مع صحيفة «الوسط» نهاية عام 2004م، مضيفاً: لا يوجد تعارض بين الاثنين؛ لأنه إذا انعدم الإمام يكون الاحتساب، فالحسبة لها شروط مصغرة أقل من شروط الخلافة أو الإمامة، بحسب العلامة محمد عبدالعظيم الحوثي، أحد أبرز خصوم الحوثية في صعدة.
ومن هنا، فالحوثيون لا يعترفون بشرعية النظام الجمهوري اليمني الذي قام على أنقاض الحكم الإمامي البائد عقب ثورة سبتمبر 1962م، ويعتبرون أنفسهم أحق بالحكم (الإمامة) بدعوى انتسابهم لآل البيت، في ذات الوقت الذي يرون - مع بقية الزيدية - ضرورة أن يكون الحاكم في اليمن زيدياً، وإن تعذر أن يكون من آل البيت. تبادل المصالح لم يُخفِ النظام السابق دعمه لحسين الحوثي وجماعته من الشباب المؤمن (الطليعة الفكرية للحوثيين)، فقد اعترف «صالح» بذلك صراحة في لقائه بعلماء الزيدية أثناء الحرب الحوثية الأولى في 2004م، وهو ما كشفته الأحداث فيما بعد، وأكده تالياً أحد أبرز علماء بيت الحوثي، وهو العلامة محمد عبدالعظيم الحوثي - تربطه صلة قرابة بالحوثيين - في مقابلة صحفية مع «الأهالي» (العدد 170)، إلاّ أنه لفت أيضاً إلى شيء آخر مهم وهو أن «الشباب المؤمن» و«حزب الحق» الذي ضمهم قدموا تنازلات مقابل حصولهم على دعم السلطة آنذاك، وهي تنازلات فكرية على أي حال، يمكن النظر إليها من باب «التقية» التي يؤمن بها هؤلاء، حيث قال للصحيفة: «والشباب كانوا معتمدين على الحكومة اليمنية وعلى الدستور، حيث إنه يقول بالديمقراطية ولا يقول بالإمامة، كانوا يغازلون الحكومة بحيث إن الحكومة تشجعهم»، وحين سُئل بماذا غازلوها؟ أجاب: «غازلوا الحكومة بالقول: إن الإمامة ليست مقصورة على السادة ولا على أهل البيت»، مضيفاً: «عاونتهم بأربعمائة ألف ريال شهرياً».
وهنا يمكن أن نستشف مقصداً آخر من مقاصد «صالح» في تمويل جماعة الشباب المؤمن (سابقاً)، الحوثيين (لاحقاً)، بما في ذلك «حزب الحق» الذي كان الحاضن لهذا التيار، وهو محاولته تعزيز مشروعيته السياسية - بإسقاط شرط البطنين - لدى التيار الزيدي عموماً، والحصول منه بصفة خاصة على نوع من التعميد (الشرعي) لحكمه، الذي سينعكس بالطبع على شكل مؤازرة وإسناد سياسي، وأمام ذلك فُتحت الأبواب على مصراعيها لحسين الحوثي وجماعته ليحظى برعاية النظام وعطفه، ويتمدد بكل حرية في المحافظات ذات الصبغة الزيدية. استدعاء إيران مثلت الزيارة التاريخية التي قام بها «صالح» لإيران عام 2000م، اللحظة الفارقة في مسيرة دعم الحوثي، إذ كانت الزيارة بمثابة استدعاء رسمي لإيران لتمارس دوراً محورياً في تنمية ورعاية الحوثية في اليمن، باعتبارها غدت القاسم المشترك لمصالح الطرفين، وكان من نتائج تلك الزيارة الاتفاق على أن تتحمل إيران أعباء التمويل إلى جانب النظام، الذي سيضطلع بالإضافة إلى ذلك بالأعباء التنظيمية للجماعة، لتفُتح الأبواب أمام إيران بمباركة وترحيب الحكومة اليمنية، ووجدت إيران فرصتها في التواجد والانسياح بهدوء داخل المجتمع اليمني عبر الخدمات الصحية في أكثر من مكان، والتي مثلت غطاءً ملائماً لتحركاتها، ووفرت لها في الوقت نفسه مصدراً مهماً لتمويل نشاطاتها، التي تُوجّت بمنحها عام 2002م مناقصة إنشاء محطة «مأرب الغازية»!
فعطاءات المشروع رست بطريقة غير مفهومة على شركة إيرانية قالت التقارير فيما بعد: إنها تفتقر لأي خبرات تقنية في هذا المجال، بدليل أنها أخذت قرابة تسع سنوات لإنجاز المشروع، وهو ما كبد الحكومة اليمنية خسائر فادحة بمئات الملايين من الدولارات. في الوقت الذي أخذت الحركة الحوثية تنمو وتزدهر وتتمدد في غفلة من المجتمع، وربما كذلك في استغفال للنظام السابق نفسه، فـ«صالح» برر ظهور الحوثية على ذلك النحو العنيف المفاجئ بالقول: إن تقارير كانت تصل من السلطة المحلية في صعدة تحذر من أنشطة وأعمال مريبة واستعدادات جارية للحوثيين خارج نطاق القانون، لكن مسؤولين مقربين منه كانوا يُهوّنون له الأمر، ويتهمون رافعي التقارير بالمبالغة وتهويل شأن الحوثي وجماعته.. وبطبيعة الحال، لا يمكن الوثوق بما قاله «صالح» آنذاك، وبخاصة بعدما تفجرت الحرب مع الحوثيين، وصار بحكم الواقع مسؤولاً عما حدث، فهو أراد تبرئة ساحته، وعدم تحمل مسؤولية صعود جماعة مسلحة متمردة تعمل خارج النظام والقانون، فيما هو متواطئ معها منذ البداية، وفي حين أرادها صالح شوكة في حنجرة خصومه، وفي خاصرة جيرانه ليسهل عليه ابتزازهم، فإن الحوثيين أصبحوا في نهاية المطاف طلاب سلطة، مدفوعين بإرث تاريخي، وتفويض إلهي يدّعون امتلاكه بانتسابهم للإمام علي رضي الله عنه .
الحوثيون والزيدية نخلص مما تقدم، بأن الحركة الحوثية وجدت في نظام «علي صالح» السابق الحضن الدافئ، الذي أسهم بدوره لمآرب خاصة في إفساح المجال لإيران لتكون حضناً دافئاً آخر لهم؛ وهو ما أتاح للحوثيين أن يمدوا أذرعهم في الداخل والخارج، وفي حين كانوا يقدمون خدماتهم لرعاتهم، فقد كانوا يعملون من خلال ذلك لتقوية مركزهم وتمرير مشروعهم الخاص في بسط نفوذهم للوصول إلى السلطة وتقاسمها مع الحاكم والاستئثار بها فيما بعد.. وفي ذلك، قال تقرير دوري لمركز أبعاد للدراسات والبحوث (يمني): «إن الحوثيين من خلال تحركاتهم العسكرية للسيطرة على المناطق الشمالية في اليمن يهدفون على المدى القريب للتحول إلى القوة الأولى في تلك المناطق، وإرغام القوة السياسية للقبول بنظام المحاصصة كما هو حاصل في لبنان، من خلال سياسة فرض الأمر الواقع، في حين يرون أن هذا التحرك سيختصر مراحل كثيرة لتحقيق هدفهم الإستراتيجي المتمثل في إقامة دويلة جنوب المملكة العربية السعودية وشمال اليمن، تمتد بين محافظتي الجوف ومأرب النفطية شرقاً وميناء ميدي على البحر الأحمر غرباً». لكن وبعيداً عن ذلك، ثمة تساؤل يطرح نفسه، هل للحوثية علاقة بالزيدية في اليمن؟ وهل يمثل المشروع الحوثي الوجه الآخر للمذهب الزيدي؟ الأكيد أنهم لا يمثلون المذهب الزيدي في اليمن لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانوا يدّعون أنهم جزءاً منه لظروف المرحلة، وما هو ثابت أن علماء الزيدية المعتدلين يعتبرونهم خارجين على المذهب وضُلاّلاً، وبذلك قال بيان علماء الزيدية الذي استطاعت السلطة انتزاعه منهم قبيل إعلان الحرب الأولى بأيام، وهذا ما يجزم به أحد علماء الحوثية محمد عبدالعظيم الحوثي، بقوله: «أبداً هم لا يمثلون المذهب الزيدي، ولا يوجد وجه للتمثيل لا من الناحية العلمية ليسوا بأهل لها.. أما بدر الدين، فإذا كان يزعم أنه يمثل الزيدية على أسس علمية فالسيد مجد الدين أعلم منه، وكثير من علمائنا خير منه، وأما هم فليسوا بعلماء ولا يمكن أن يمثلوا المذهب الزيدي بغير علم».. ويضيف: «أما أنا فأقول: إنهم اعتدوا علينا واعتدوا على عقيدتنا وخرجوا على مذهبنا». وفي رده على صحيفة «الأهالي»: هل يمثلون الاثني عشرية؟ أجاب: «هم يمثلونه من الناحية العسكرية فقط، أما المذهب أنا لا أتهمهم بأنهم اثنا عشرية، لا ولا هم زيدية، إنما هم مارقون خرجوا عن الدين كله، ما هم زيدية ولا جعفرية ولا شافعية ولا معهم مذهب من المذاهب، والدليل على ذلك استباحتهم لأموال المسلمين ودمائهم بغير حق، فالشباب المفتون هم أعداء الإسلام كله وأعداء الدين وأعداء المؤمنين»..
مؤكداً في الوقت نفسه على خطورتهم ووجوب التصدي لهم قائلاً: «ونحن مصممون على جهادهم، والله إن جهادهم أفضل من جهاد اليهود، وأنهم أخبث من «إسرائيل» وأضر على الإسلام». هذه بعض آراء أحد علماء الزيدية المنتسبين للبيت الحوثي نفسه، وربما حملت قدراً من المبالغة بحكم العداء المستحكم بينه وبينهم، إلاّ أن الحوثيين لم يقدموا حتى الآن الصورة المثلى التي يمكن الوثوق بها لمجادلة منتقديهم والرد عليهم، وثمة مسألة أخرى، فالحوثية لا يمكن اعتبارها مدرسة فكرية جديدة، وهي وإن كانت لا تمثل امتداداً فكرياً أو مذهبياً للزيدية، إلاّ أنها تلتقي مع إحدى فرق الزيدية المندثرة وهي الجارودية في بّ الصحابة، وهي بذلك تكون أقرب إلى الاثني عشرية منها للزيدية.
الحاجة للتحالفات الحوثية بطبيعة نشأتها لا تستطيع البقاء خارج نطاق التحالفات الداخلية أو الخارجية، ولا يمكنها العيش بمعزل عن دعم حلفائها، وهي لن تستطيع تمرير مشروعها الخاص بقدرات ذاتية، لذا تظل بحاجة دائماً لعقد تحالفات مع هذا الطرف أو ذاك، حيث إن تقاطع المصلحة بين «صالح» والحوثيين تركز في سعي الطرفين لإفشال «المبادرة الخليجية»، فهي عند الأول كانت الآلية السلسة والآمنة لضياع الحكم منه ومن عائلته، وهي عند الثاني آلية سعودية مغضوب عليها من الحليف الإيراني الداعم ولابد من تقويضها.. وفي هذا السياق، كانت مصادر صحفية قد أشارت إلى أن «صالح» «المخلوع» كان قد قدم دعماً سخياً للحوثيين بقيمة 4مليارات ريال لإفشال «المبادرة الخليجية»، واحتواء الثورة الشعبية وتشتيت جهودها، ولأجل هذه الغاية عاد الحوثيون للتحالف مع فلول نظام «صالح» المنهار بعدما أيقنوا أن الثورة الشعبية التي كنسته ستكنس حتماً كل مخلفاته الأخرى، والحوثية هي أحد مخلفات «صالح»، شأنها في ذلك شأن «القاعدة» في اليمن التي افتضح تواطؤه معها. ثورة مضادة لقد تأكد للجميع بمن فيهم الحوثيون، أن نظام «صالح» إلى زوال، وهذا من شأنه إنهاء كل مظاهر النظام السابق وبناء نظام سياسي جديد، والذي بدوره سيلتفت إلى الجيوب التي تركها «صالح» وراءه، وفي مقدمتها الحوثية، التي ستكون بعد استقرار النظام السياسي ونجاح الثورة الشعبية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تقرر إلقاء سلاحها طوعاً والتحول للعمل السياسي والفكري، والعيش في ظل دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية، وإما أن تُصر على البقاء حركة تمرد خارجة عن النظام والشرعية الدستورية، ساعتها سيكون عليها ليس مواجهة المجتمع اليمني وحسب، بل والمجتمع الدولي بأسره كما «القاعدة تماماً»، ولكي لا تجد الحوثية نفسها في مثل هذا المأزق، فقد سارعت لعقد تحالفات جديدة في الساحة، مع فلول نظام «صالح» المنهار، ومع بعض القوى الناقمة التي لا وزن لها في الساحة، والتي تدّعي تمثيل الحداثة والليبرالية، هؤلاء الذين ينطلقون في تحالفهم مع الحوثيين من عداء متوارث للإسلاميين، فالحوثيون يقودون ثورة مضادة للثورة الشعبية، لحرف الثورة ومحاولة الاستيلاء عليها، وأيضاً لإسقاط حكومة الوفاق، وبذر الخلاف.
*ينابيع تربوية