مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
القدس فى طور الابتذال
االسبت، 28 أبريل 2012 11:01
فهمي هويدي

لا نريد ابتذال زيارة القدس، والزج بها فى المناورات والألاعيب السياسية، ذلك أن أهمية المدينة المقدسة تكمن فى أمرين، الأول رمزيتها السياسية بالنسبة للقضية الفلسطينية حيث باتت تختزل القضية وتجسد انتصارها أو انكسارها، والثانى رمزيتها الروحية عند المسلمين والمسيحيين. وقد قدمت الرمزية السياسية لأنها تعطى معنى للرمزية الروحية.

فتعلى من شأنها أو تحط من قيمتها. إذ القدس المحررة تختلف بالكلية عن القدس الذليلة والمقهورة. حيث لا أستطيع أن أفهم كيف يتقرب المسلم مثلا إلى الله بالصلاة فى المسجد الأقصى. وهو تحت الاحتلال تدنسه أحذية المستوطنين وجرافات المتعلقين بسراب البحث عن هيكل سليمان، كما أننى لا أستطيع أن أتصور عربيا يتجول سائحا فى القدس ومتبضعا فى شوارع المدينة القديمة فى حين يلاحقه غرور جنود الاحتلال المدججين بالسلاح، ويرى بأم عينيه عربدة المستوطنين الذين يقتحمون بيوت العرب ويطردونهم منها. وربما اضطر لأن يشيح بوجه عن تجمعات العرب المطرودين الذين يحتمون بخيام نصبوها فى الشارع، وراحوا يستغيثون بضمائر المارين، عل واحدا منهم يتضامن مع مظلوميتهم ويضم صوته إلى أصواتهم المهزومة والجريحة.



إن مدينة القدس تبتذل حين تفصل رمزيتها السياسية عن رمزيتها الروحية، ويطالب قاصدوها بأن يغضوا البصر عن عرضها المستباح وكرامتها المهدورة، فيلتزمون الصمت إزاء احتلالها ولا تستوقفهم الحملة الشرسة لتهويدها وتفريغها من سكانها العرب.

قبل عدة سنوات كتبت مقالة فى الأهرام حذرت فيها من الاهتمام بالحجر دون البشر فى القدس وانتقدت التركيز على المسجد الأقصى مع إهمال الشعب الفلسطينى الذى تعرض للتشريد والافتراس من جانب الإسرائيليين. وقلت إن المسجد الأقصى له رب يحميه، مرددا فى ذلك عبارة عبدالمطلب جد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين أغار على مكة أبرهة ملك الحبشة، فقال مقولته الشهيرة «للكعبة رب يحميها».

وقتذاك علق المستشار طارق البشرى على ما كتبت، داعيا إلى عدم التهوين من شأن القدس لأنها رمز يختزل القضية الفلسطينية ويجسدها. وهو رأى اقتنعت به، ونشرته فى مكان مقالى يوم الثلاثاء، إلا أننى وجدت أن الأمر اختلف هذه الأيام، فى ظل الجهد الدءوب الذى بذل طول السنوات الخمس الأخيرة لفك ارتباط الرمز بالقضية، الأمر الذى أفقد الرمز وظيفته الأساسية. أصبحت الدعوة منصبَّة على زيارة القدس والسياحة فيها، فى حين سكت الجميع على تحريرها وإطلاق سراحها. وإذ وقع كثيرون فى الفخ وقبلوا بوعى أو بغير وعى بزيارة المدينة والصلاة فى الأقصى رغم ما حل بهما من هوان وما يكبلهما من أغلال. فإن الصدمة كانت أكبر حين تورط فى الزيارة (تحت الحراسة الإسرائيلية) مفتى مصر الدكتور على جمعة، لأن الزائر فى هذه الحالة له رمزية مختلفة عن غيره من الزائرين، فهو على رأس دار الإفتاء، فى أكبر وأهم بلد عربى، حتى إن أحد الكاتبين اعتبرها بمثابة فتوى عملية تحبذ الزيارة وتجعلها مباحة إن لم تكن مستحبة، وفى المقال الذى نشرته الشرق الأوسط فى 24/4 تحت عنوان «من يفتى للمفتى؟». اعتبر الكاتب أنه بعد زيارة الدكتور على جمعة، فلا ينبغى أن يحاول أحد أو يزايد، كأنما حسم الرجل الموضوع. وأطلق إشارة خضراء فتحت الطريق أمام كل راغب لكى يصلى فى المسجد الأقصى دون أى قلق من وجود الاحتلال.

لا أخفى أن الألتباس الذى عبرت عنه بعض الكتابات مؤخرا هو ما دعانى إلى العودة للموضوع من ثانية للتذكير بالجانب المسكوت عليه فى المسألة، وهو رمزية القدس بالنسبة للقضية الفلسطينية. خصوصا أن البعض ذهبوا فى ترحيبهم إلى القول بأن معارضة الزيارة هى دعوة إلى هجرها، فى حين أن الزيارة تسهم فى انقاذها (لا أعرف كيف)، صحيح أن وجود الزائرين يخفف بصورة نسبية من شعور الفلسطينيين بالحصار والغربة، لكنه أيضا يضعف من المقاطعة وينعش الاقتصاد الإسرائيلى، وتظل استفادة العرب منه محدودة بل وهزيلة إذا قورنت بالأضرار الجسام التى تصيب القضية الفلسطينية، حيث تصب دعوة زيارة القدس فى مجرى هجرتها والتسليم باستمرار الاحتلال والتهويد.

إنهم يلحّون على زيارة القدس والصلاة فى الأقصى، لكن أحدا من هؤلاء لم يوجه الدعوة ولو مرة واحدة لزيارة قطاع غزة الذى يعانى الاحتلال، حتى أزعم أنه فى الظروف الراهنة فإن الصلاة فيه أكثر قبولا وأعظم ثوابا عند الله من الصلاة فى الأقصى الذى يرزح تحت الاحتلال.
أضافة تعليق