د. محمد بن المختار الشنقيطي
يبدو أن المحكمة الإدارية العليا واللجنة العليا للانتخابات قد أنقذتا جماعة الإخوان المسلمين في مصر من نفسها، ومن سوء اختياراتها، حينما ألغت الأولى الجمعية التأسيسية ورفضت الثانية ترشح المهندس خيرت الشاطر.
فرغم الشوائب القانونية التي أحاطت بالقرارين، والظلم الذي حاق بالشاطر جراء منعه من الترشح، فإن ثمرتهما السياسية تصب في صالح الإخوان والثورة إذا تم التعاطي معهما بروحٍ مبادرة، واستخلاص الدروس السياسية منهما. فقد فتح قرارا المحكمة الإدارية ولجنة الانتخابات الباب أمام الإخوان ليراجعوا مسيرتهم السياسية التي تعرَّجت كثيرا في الأسابيع الأخيرة.
وقد كتب المفكر الإستراتيجي الأميركي غراهام فولر مرة: ’’إن أسوأ ما فعله الاستبداد بالحركات الإسلامية حينما منعها من العمل السياسي القانوني هو حرمانها من تعلم المسار السياسي وصناعة القرار’’.
وتدل ظاهرة الناسخ والمنسوخ في قرارات الإخوان المسلمين بمصر واختياراتهم الأخيرة على صدق فولر في هذا التقدير. فتعامل الجماعة مع موضوع الانتخابات الرئاسية شابه الكثير من الارتجال وردود الأفعال التي تدل على غياب العقل التخطيطي الممسك بزمام أمره، وتوحي بالعجز عن الخروج من منظومة العمل الجماعي القديمة إلى منظومة العمل المجتمعي الجديدة.
ومن المعروف أن جماعة الإخوان المسلمين لم تشعل الثورة المصرية، لكنها لعبت دورا مجيدا في أيام العسرة من الثورة، مثل يوم موقعة الجمل وما بعده. فقد سخَّرت الجماعة قدراتها التنظيمية والمالية والطبية لصالح الثورة، ودفعت بشبابها إلى أتون المعركة، مما أسهم في حسم الخيار لصالح شعب مصر ضد الفرعون في فترة قياسية. كما أن الجماعة كانت في القلب من الشتاء العربي –شتاء المعاناة والقمع- الذي خرج من أحشائه الربيع العربي.
وقد قال الشاعر جلال الدين الرومي: ’’إن الناس يقدرون الربيع ولا يقدرون الشتاء، لكن لا يوجد ربيع دون شتاء ممهِّد له’’. وقد منح الشعب ثقته للجماعة -ولحركات إسلامية أخرى- في الانتخابات البرلمانية، جزاءً لدورها المجيد في الشتاء العربي وفي الربيع العربي على حد السواء.
لكن ظاهرة الناسخ والمنسوخ في قرارات جماعة الإخوان واختياراتها ألقت بظلال من الريبة وعدم الثقة فيها وفي خبراتها.
فقد وعدت الجماعة على لسان قادتها مرارا وتكرارا بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، ثم نكثتْ بهذا الوعد بتسويغات غير مقنعة، وكأن مصر أصبحت مُجدبة من الشخصيات الوطنية المستقلة. وقستْ الجماعة على أحد وجوهها السياسية المقبولة في المجتمع العريض -وهو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح- بسبب ترشحه للرئاسة، ففصلته من التنظيم بطريقة فجَّة تنتمي لعصر ما قبل الثورة. ثم فاجأت الجماعة كل الناس بتقديم مرشح لها للرئاسيات بعد أيام من ترداد رئيس البرلمان المنتمي لها سعد الكتاتني: ’’إن الجماعة لن ترشح أحدا للرئاسة على مسؤوليتي الشخصية’’.
ورغم أن خيرت الشاطر له تاريخ طويل من المصابرة ضد الاستبداد، ومن تحمّل معاناة السجن في سبيل ذلك، فإنه لا يمتلك الكاريزما الشخصية والخبرة السياسية، ولا يقف في منطقة الوسط الضرورية لمن سيحكم مصر في المرحلة الانتقالية.
كما أن ترشيحه جاء مَعيبا من ناحية الإخراج، حيث ورد الترشيح -أول ما ورد- على لسان المرشد العام للجماعة في مؤتمر صحفي. وما كان ينبغي لمرشد الإخوان أن يتولى هذا الأمر، فهو ليس مرشد الثورة ولا مرشد الجمهورية -على الطريقة الإيرانية- كما أن الجماعة ليست حزبا سياسيا بالمعنى القانوني، وهي لا تزال تأنف من تسجيل نفسها جمعية ثقافية أو دعوية. ففي ظل دولة القانون التي ولدت في مصر مع الثورة لم تعرِّف الجماعة نفسها قانونيا حتى اليوم، فكيف تقدم مرشحا باسمها في مؤتمر صحفي عالمي؟
ليس من المهم محاسبة الجماعة اليوم على ارتباكها وارتجالها الذي كشف عدم تمرسها بصنعة السياسة في الفضاء المفتوح، ولا من المناسب طعنها في الظهر وهي تواجه قوى الثورة المضادة التي تملك جهاز الدولة ومالها وإعلامها. إنما المهم اليوم ألا تضيع ثمرات ثورة مصر العظيمة جراء هذه الارتجالات.
وفي هذا السياق تأتي هذه الملاحظات العجْلى، غيرةً على ثورة مصر المجيدة، وعلى تاريخ جماعة يدين لها الملايين من الشباب العربي والمسلم بمنح المعنى لحياتهم، وإلهامهم حس المسؤولية والاهتمام بالشأن العام
أولا: من الواضح أن شطارة الشاطر ما كانت لتعوض الجماعة عن انفتاح أبي الفتوح في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، التي تستلزم التحلق حول الشخصيات الإجماعية المقبولة من غالبية القوى السياسية، حمايةً للثورة من اغتيال العسكر والفلول، ورصا لصفوف المجتمع في وجه الدولة الفرعونية المتغولة. كما أن الدكتور محمد مرسي -المرشح الإخواني الذي خلف الشاطر- لا يملك الكاريزما الشخصية ولا القبول الاجتماعي العريض الذي يؤهله لحكم مصر أثناء الإعصار السياسي الجارف الذي يجتاحها اليوم.
ثانيا: من مصلحة مصر ألا تنبَتَّ العلاقة بين الإخوان والجماعات الشبابية التي أشعلت الثورة، ومنها شباب الإخوان. فرغم القلة العددية للمجموعات الشبابية الثورية، فإن قوتها المعنوية وجرأتهم العظيمة رأسمال سياسي مهم في مصر اليوم، ودرع حصين في وجه قوى الثورة المضادة.
ولا ننسى أن الجماعات الشبابية الثورية هي التي أرغمت المجلس العسكري بدمائها على إجراء الانتخابات البرلمانية وعلى الالتزام بتسليم السلطة في أمد قصير، وهي التي وفرت للإخوان وجها وطنيا لحراكهم السياسي، بعد أن نجح الاستبداد في عزلهم عن بقية النخب الوطنية مدة مديدة. فمن المهم أن يكون المرشح الذي يدعمه الإخوان للرئاسيات في النهاية وجها مقبولا لدى الحركات الشبابية الثورية.
ثالثا: لم تعد الساحة السياسية الإسلامية في مصر حكرا على جماعة الإخوان، فقد أسفرت الانتخابات البرلمانية عن صعود قوي للتيار السلفي وغيره من الجماعات الإسلامية، وبرهن السلفيون -رغم قلة زادهم وجدة تجربتهم في السياسة- على قدرة تعبوية وحيوية كبيرة، وعلى أنهم أكثر انسجاما مع أنفسهم ومع مبادئهم المعلنة من الإخوان في هذه اللحظة التاريخية. ومن مصلحة الإخوان ألا يبتعدوا عن التيار السلفي وغيره من التيارات الإسلامية في المواجهة الرئاسية. وقد عبرت القوى السلفية منذ فترة عن رغبتها في وجود مرشح إسلامي واحد لها ولغيرها، وهذه فرصة سانحة لتقارب يخدم الجميع ويحمي الثورة.
رابعا: من الواضح أن الجيش يعول على المرشح عمرو موسى، فهو رجل مدني طيِّع في وجه الجيش، ذو تاريخ طويل من العمل تحت مظلة مبارك، مقبول لدى أميركا وإسرائيل.
كما أن القوى الليبرالية وفلول النظام البائد كلها ستدعم عمرو موسى، حرصا على تفادي وصول مرشح إسلامي إلى الرئاسة في مصر. فإذا وصل عمرو موسى إلى الرئاسة فسيعني ذلك تحكم الجيش في مصر الجديدة من وراء ستار، على طريقة الجيش التركي في الثمانينيات والتسعينيات، بكل ما يترتب على ذلك من وأد ثورة الشعب المصري وإخماد وهجها، وإبقاء مصر رهينة خيارات مبارك الداخلية والخارجية لسنين قادمات.
وفي ظل هذه المسائل الأربع، تبدو جماعة الإخوان المسلمين بمصر على مفترق طرق:
إما أن ينتصر الإخوان على الولاء للجماعة لصالح الولاء للمجتمع والثورة، فيتفقون مع القوى الثورية والجماعات السلفية والأحزاب الإسلامية الأخرى على مرشح واحد قادر على منازلة عمرو موسى بجدارة، ولا يبدو في المعسكر الثوري المصري اليوم من هو أحسن تأهيلا لهذه المهمة من الدكتور عبد المنعم أبي الفتوح والدكتور عبد الله الأشعل، فكلاهما رجل مخضرم، مأمون على منجزات الثورة، ذو خبرة سياسية واسعة.
وكلاهما يقف في الوسط، ويحظى بمصداقية وقبول عريض. لكن هذا الأمر يستلزم أن تتعالى جماعة الإخوان على كبريائها التنظيمي والحزبي، وتلقي بثقلها وراء هذا المرشح، وسيكون في هذا شيء من استرجاع مصداقية الجماعة، حينما تسحب مرشحها الحزبي وتدعم مترشحا مستقلا.
وإما أن تتمسك الجماعة بالولاء الحركي والحزبي الضيق، وتصر على مرشحها الخاص، الدكتور محمد مرسي. وفي هذه الحالة لا يبدو أن الشباب الثوري -ومنه شباب الإخوان- سيواكبها في ذلك.
كما أن السلفيين الذين قد يتنازلون لأبي الفتوح المتحرر من صرامة الولاء التنظيمي الجامد، وللأشعل المستقل عن التنظيمات، قد لا يقبلون التنازل ذاته لمحمد مرسي. فإذا نحت جماعة الإخوان هذا المنحى المتصلب، فسينقسم المعسكر الإسلامي والثوري في مصر، ويحصل قادة الجيش وظهيرهم الدولي على ما أرادوا دون أن يظهروا بمظهر الغادر بالثورة. وما أفدحها من خسارة: أن تتحول الحركة التي كانت بالأمس أعظم رافعة للثورة إلى عائق أمام تحقيق أهداف الثورة ومانع من إيصالها إلى بر الأمان.
لقد تحولت ثورة مصر المجيدة -بحسن نية أو بسوئها- إلى انقلاب عسكري منذ أيامها الأولى، فكان المجلس العسكري ولا يزال (حاميها وحراميها) في الوقت ذاته. لذلك فإن فك الارتباط بين الثورة المصرية والانقلاب العسكري الذي صاحبها، وإبعاد الجيش عن السياسة، هو أهم تحد إستراتيجي أمام الثورة اليوم.
فالصراع على مصر اليوم هو صراع بين بنية عسكرية وأمنية عتيقة تتشبث بالسلطة وتبكي -بنشيجٍ خافتٍ- على أطلال النظام البائد وشعب ثائر متوثب يبحث عن حريته بأي ثمن. وهو صراع وجودي تتوقف على نتائجه مآلات الثورة المصرية، وتتصاغر في وجهه كل الخلافات الجزئية بين القوى السياسية الداعمة للثورة.
وفي سبيل حسم هذا الصراع لصالح الشعب تهون كل التضحيات الظرفية والحزبية.
فهل يراجع الإخوان المسلمون في مصر مسارهم المتعرج الحالي، ويقودهم الحس الوطني الجامع إلى تبني الخيار الذي يصون الثورة من الاغتيال، أم تتحكم فيهم العصبية التنظيمية على حساب المشروع الوطني الكبير الذي سالت دماء الشهداء مدرارة من أجله في أرجاء مصر؟
*البيان
يبدو أن المحكمة الإدارية العليا واللجنة العليا للانتخابات قد أنقذتا جماعة الإخوان المسلمين في مصر من نفسها، ومن سوء اختياراتها، حينما ألغت الأولى الجمعية التأسيسية ورفضت الثانية ترشح المهندس خيرت الشاطر.
فرغم الشوائب القانونية التي أحاطت بالقرارين، والظلم الذي حاق بالشاطر جراء منعه من الترشح، فإن ثمرتهما السياسية تصب في صالح الإخوان والثورة إذا تم التعاطي معهما بروحٍ مبادرة، واستخلاص الدروس السياسية منهما. فقد فتح قرارا المحكمة الإدارية ولجنة الانتخابات الباب أمام الإخوان ليراجعوا مسيرتهم السياسية التي تعرَّجت كثيرا في الأسابيع الأخيرة.
وقد كتب المفكر الإستراتيجي الأميركي غراهام فولر مرة: ’’إن أسوأ ما فعله الاستبداد بالحركات الإسلامية حينما منعها من العمل السياسي القانوني هو حرمانها من تعلم المسار السياسي وصناعة القرار’’.
وتدل ظاهرة الناسخ والمنسوخ في قرارات الإخوان المسلمين بمصر واختياراتهم الأخيرة على صدق فولر في هذا التقدير. فتعامل الجماعة مع موضوع الانتخابات الرئاسية شابه الكثير من الارتجال وردود الأفعال التي تدل على غياب العقل التخطيطي الممسك بزمام أمره، وتوحي بالعجز عن الخروج من منظومة العمل الجماعي القديمة إلى منظومة العمل المجتمعي الجديدة.
ومن المعروف أن جماعة الإخوان المسلمين لم تشعل الثورة المصرية، لكنها لعبت دورا مجيدا في أيام العسرة من الثورة، مثل يوم موقعة الجمل وما بعده. فقد سخَّرت الجماعة قدراتها التنظيمية والمالية والطبية لصالح الثورة، ودفعت بشبابها إلى أتون المعركة، مما أسهم في حسم الخيار لصالح شعب مصر ضد الفرعون في فترة قياسية. كما أن الجماعة كانت في القلب من الشتاء العربي –شتاء المعاناة والقمع- الذي خرج من أحشائه الربيع العربي.
وقد قال الشاعر جلال الدين الرومي: ’’إن الناس يقدرون الربيع ولا يقدرون الشتاء، لكن لا يوجد ربيع دون شتاء ممهِّد له’’. وقد منح الشعب ثقته للجماعة -ولحركات إسلامية أخرى- في الانتخابات البرلمانية، جزاءً لدورها المجيد في الشتاء العربي وفي الربيع العربي على حد السواء.
لكن ظاهرة الناسخ والمنسوخ في قرارات جماعة الإخوان واختياراتها ألقت بظلال من الريبة وعدم الثقة فيها وفي خبراتها.
فقد وعدت الجماعة على لسان قادتها مرارا وتكرارا بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، ثم نكثتْ بهذا الوعد بتسويغات غير مقنعة، وكأن مصر أصبحت مُجدبة من الشخصيات الوطنية المستقلة. وقستْ الجماعة على أحد وجوهها السياسية المقبولة في المجتمع العريض -وهو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح- بسبب ترشحه للرئاسة، ففصلته من التنظيم بطريقة فجَّة تنتمي لعصر ما قبل الثورة. ثم فاجأت الجماعة كل الناس بتقديم مرشح لها للرئاسيات بعد أيام من ترداد رئيس البرلمان المنتمي لها سعد الكتاتني: ’’إن الجماعة لن ترشح أحدا للرئاسة على مسؤوليتي الشخصية’’.
ورغم أن خيرت الشاطر له تاريخ طويل من المصابرة ضد الاستبداد، ومن تحمّل معاناة السجن في سبيل ذلك، فإنه لا يمتلك الكاريزما الشخصية والخبرة السياسية، ولا يقف في منطقة الوسط الضرورية لمن سيحكم مصر في المرحلة الانتقالية.
كما أن ترشيحه جاء مَعيبا من ناحية الإخراج، حيث ورد الترشيح -أول ما ورد- على لسان المرشد العام للجماعة في مؤتمر صحفي. وما كان ينبغي لمرشد الإخوان أن يتولى هذا الأمر، فهو ليس مرشد الثورة ولا مرشد الجمهورية -على الطريقة الإيرانية- كما أن الجماعة ليست حزبا سياسيا بالمعنى القانوني، وهي لا تزال تأنف من تسجيل نفسها جمعية ثقافية أو دعوية. ففي ظل دولة القانون التي ولدت في مصر مع الثورة لم تعرِّف الجماعة نفسها قانونيا حتى اليوم، فكيف تقدم مرشحا باسمها في مؤتمر صحفي عالمي؟
ليس من المهم محاسبة الجماعة اليوم على ارتباكها وارتجالها الذي كشف عدم تمرسها بصنعة السياسة في الفضاء المفتوح، ولا من المناسب طعنها في الظهر وهي تواجه قوى الثورة المضادة التي تملك جهاز الدولة ومالها وإعلامها. إنما المهم اليوم ألا تضيع ثمرات ثورة مصر العظيمة جراء هذه الارتجالات.
وفي هذا السياق تأتي هذه الملاحظات العجْلى، غيرةً على ثورة مصر المجيدة، وعلى تاريخ جماعة يدين لها الملايين من الشباب العربي والمسلم بمنح المعنى لحياتهم، وإلهامهم حس المسؤولية والاهتمام بالشأن العام
أولا: من الواضح أن شطارة الشاطر ما كانت لتعوض الجماعة عن انفتاح أبي الفتوح في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، التي تستلزم التحلق حول الشخصيات الإجماعية المقبولة من غالبية القوى السياسية، حمايةً للثورة من اغتيال العسكر والفلول، ورصا لصفوف المجتمع في وجه الدولة الفرعونية المتغولة. كما أن الدكتور محمد مرسي -المرشح الإخواني الذي خلف الشاطر- لا يملك الكاريزما الشخصية ولا القبول الاجتماعي العريض الذي يؤهله لحكم مصر أثناء الإعصار السياسي الجارف الذي يجتاحها اليوم.
ثانيا: من مصلحة مصر ألا تنبَتَّ العلاقة بين الإخوان والجماعات الشبابية التي أشعلت الثورة، ومنها شباب الإخوان. فرغم القلة العددية للمجموعات الشبابية الثورية، فإن قوتها المعنوية وجرأتهم العظيمة رأسمال سياسي مهم في مصر اليوم، ودرع حصين في وجه قوى الثورة المضادة.
ولا ننسى أن الجماعات الشبابية الثورية هي التي أرغمت المجلس العسكري بدمائها على إجراء الانتخابات البرلمانية وعلى الالتزام بتسليم السلطة في أمد قصير، وهي التي وفرت للإخوان وجها وطنيا لحراكهم السياسي، بعد أن نجح الاستبداد في عزلهم عن بقية النخب الوطنية مدة مديدة. فمن المهم أن يكون المرشح الذي يدعمه الإخوان للرئاسيات في النهاية وجها مقبولا لدى الحركات الشبابية الثورية.
ثالثا: لم تعد الساحة السياسية الإسلامية في مصر حكرا على جماعة الإخوان، فقد أسفرت الانتخابات البرلمانية عن صعود قوي للتيار السلفي وغيره من الجماعات الإسلامية، وبرهن السلفيون -رغم قلة زادهم وجدة تجربتهم في السياسة- على قدرة تعبوية وحيوية كبيرة، وعلى أنهم أكثر انسجاما مع أنفسهم ومع مبادئهم المعلنة من الإخوان في هذه اللحظة التاريخية. ومن مصلحة الإخوان ألا يبتعدوا عن التيار السلفي وغيره من التيارات الإسلامية في المواجهة الرئاسية. وقد عبرت القوى السلفية منذ فترة عن رغبتها في وجود مرشح إسلامي واحد لها ولغيرها، وهذه فرصة سانحة لتقارب يخدم الجميع ويحمي الثورة.
رابعا: من الواضح أن الجيش يعول على المرشح عمرو موسى، فهو رجل مدني طيِّع في وجه الجيش، ذو تاريخ طويل من العمل تحت مظلة مبارك، مقبول لدى أميركا وإسرائيل.
كما أن القوى الليبرالية وفلول النظام البائد كلها ستدعم عمرو موسى، حرصا على تفادي وصول مرشح إسلامي إلى الرئاسة في مصر. فإذا وصل عمرو موسى إلى الرئاسة فسيعني ذلك تحكم الجيش في مصر الجديدة من وراء ستار، على طريقة الجيش التركي في الثمانينيات والتسعينيات، بكل ما يترتب على ذلك من وأد ثورة الشعب المصري وإخماد وهجها، وإبقاء مصر رهينة خيارات مبارك الداخلية والخارجية لسنين قادمات.
وفي ظل هذه المسائل الأربع، تبدو جماعة الإخوان المسلمين بمصر على مفترق طرق:
إما أن ينتصر الإخوان على الولاء للجماعة لصالح الولاء للمجتمع والثورة، فيتفقون مع القوى الثورية والجماعات السلفية والأحزاب الإسلامية الأخرى على مرشح واحد قادر على منازلة عمرو موسى بجدارة، ولا يبدو في المعسكر الثوري المصري اليوم من هو أحسن تأهيلا لهذه المهمة من الدكتور عبد المنعم أبي الفتوح والدكتور عبد الله الأشعل، فكلاهما رجل مخضرم، مأمون على منجزات الثورة، ذو خبرة سياسية واسعة.
وكلاهما يقف في الوسط، ويحظى بمصداقية وقبول عريض. لكن هذا الأمر يستلزم أن تتعالى جماعة الإخوان على كبريائها التنظيمي والحزبي، وتلقي بثقلها وراء هذا المرشح، وسيكون في هذا شيء من استرجاع مصداقية الجماعة، حينما تسحب مرشحها الحزبي وتدعم مترشحا مستقلا.
وإما أن تتمسك الجماعة بالولاء الحركي والحزبي الضيق، وتصر على مرشحها الخاص، الدكتور محمد مرسي. وفي هذه الحالة لا يبدو أن الشباب الثوري -ومنه شباب الإخوان- سيواكبها في ذلك.
كما أن السلفيين الذين قد يتنازلون لأبي الفتوح المتحرر من صرامة الولاء التنظيمي الجامد، وللأشعل المستقل عن التنظيمات، قد لا يقبلون التنازل ذاته لمحمد مرسي. فإذا نحت جماعة الإخوان هذا المنحى المتصلب، فسينقسم المعسكر الإسلامي والثوري في مصر، ويحصل قادة الجيش وظهيرهم الدولي على ما أرادوا دون أن يظهروا بمظهر الغادر بالثورة. وما أفدحها من خسارة: أن تتحول الحركة التي كانت بالأمس أعظم رافعة للثورة إلى عائق أمام تحقيق أهداف الثورة ومانع من إيصالها إلى بر الأمان.
لقد تحولت ثورة مصر المجيدة -بحسن نية أو بسوئها- إلى انقلاب عسكري منذ أيامها الأولى، فكان المجلس العسكري ولا يزال (حاميها وحراميها) في الوقت ذاته. لذلك فإن فك الارتباط بين الثورة المصرية والانقلاب العسكري الذي صاحبها، وإبعاد الجيش عن السياسة، هو أهم تحد إستراتيجي أمام الثورة اليوم.
فالصراع على مصر اليوم هو صراع بين بنية عسكرية وأمنية عتيقة تتشبث بالسلطة وتبكي -بنشيجٍ خافتٍ- على أطلال النظام البائد وشعب ثائر متوثب يبحث عن حريته بأي ثمن. وهو صراع وجودي تتوقف على نتائجه مآلات الثورة المصرية، وتتصاغر في وجهه كل الخلافات الجزئية بين القوى السياسية الداعمة للثورة.
وفي سبيل حسم هذا الصراع لصالح الشعب تهون كل التضحيات الظرفية والحزبية.
فهل يراجع الإخوان المسلمون في مصر مسارهم المتعرج الحالي، ويقودهم الحس الوطني الجامع إلى تبني الخيار الذي يصون الثورة من الاغتيال، أم تتحكم فيهم العصبية التنظيمية على حساب المشروع الوطني الكبير الذي سالت دماء الشهداء مدرارة من أجله في أرجاء مصر؟
*البيان