خالد صقر | 29-05-2011 01:25
منذ نجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام مبارك وظهرت علي الساحة السياسية في مصر العديد من النقاشات والحوارات حول أيدولوجية النظام السياسي القادم وهوية الجمهورية الجديدة ، وهذه النقاشات أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن كل التيارات السياسية في مصر تتمتع بصحة جيدة ، إن جاز التعبير ، وتتمتع برؤية واضحة لأهداف كل منها ، وهو أمر يدعو للتفاؤل بشأن المستقبل السياسي لمصر ، ولا يجب أن ننسي أن ثورتنا كانت بمثابة الإستقلال عن احتلال داخلي دام ثلاثة عقود ، ولا يجب أن ننسي أيضاً أن ثمن الحرية والإستقلال دائماً ما يكون باهظاً ، ولنا في الثورة الفرنسية خير مثال. إذن فهذا التوتر الظاهري والإشكاليات الفكرية التي تطفو علي سطح الحياة السياسية الآن لا يجب أن تدعو للقلق ، بل تدعو للتفاؤل في حقيقة الأمر.
بيد أن ما يدعو للقلق حقاً هو الأزمات التنموية العديدة التي تمر بها مصر ، سواءاً علي المستوي الإقتصادي أو الأمني أو العلمي ، وهي أزمات لم تولد مع الثورة كما يدعي بعض المخذلين ، ولكن ولدت في حقيقة الأمر في ظل نظام عابث لا يعبأ بمصلحة الإنسان المصري ولا يهتم إلا بمصالح رجاله الشخصية ، وجعلت هذه الأزمات مصر تفقـد خط سيرها في طريق التنمية المستدامة الذي قطعت فيه العديد من الدول الأخري شوطاً جباراً خلال العقود الثلاثة الماضية. إن البحث العلمي يعتبر واحداً من أهم المجالات التي فشل النظام السابق في وضع تصور لتطويرها لتتواكب مع المستجدات العالمية ولتحقق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة للألفية الثالثة ، ويمكن القول – بالكثير من الواقعية – أن البحث العلمي في مصر يعاني حالياً من أزمة كارثية تهدد مستقبل مصر علي كل المستويات. هذا المقال يقدم وصف لأهم أعراض أزمة البحث العلمي في مصر ، وتشخيص لأسبابها.
من الضروري للغاية أن يكون هناك معايير واضحة لتقييم البحث العلمي في مصر حتي نتمكن من تشخيص ومعرفة أبعاد الأزمة العلمية التي تمر بها البلاد ، وعادة ما يقيم أداء البحث العلمي لدولة ما بمعيارين : الأول والأهم هو عدد براءات الإختراع التي تسجلها تلك الدولة سنوياً ، والثاني هو عدد البحوث العلمية التي يتم نشرها في دوريات (مجلات) علمية متخصصة ومحكمة سنوياً ، فبهذين المعيارين يمكن تقييم أداء دولة ما – بمقارنتها بدول أخري – بالنسبة للبحث العلمي ، وإذا أردنا اختيار عدد من دول لمقارنة مصر معهم بالنسبة للبحث العلمي ، فيجب أن نختار دول تشترك مع مصر في قيمة الدخل القومي حتي يكون هناك معني حقيقي للمقارنة ، وحتي نستطيع أن نتعرف - بشكل مقارن – علي مستوي البحث العلمي في مصر.
في عام 2009 كانت قيمة الدخل القومي المصري 182.23 بليون دولار ، وهو يقترب جداً من الدخل القومي لكلِ من ماليزيا وسنغافورة في نفس السنة ، فماليزيا بلغ دخلها القومي 193 بليون دولار ، وسنغافورة 182.3 بليون دولار ، أي نفس الدخل القومي المصري تقريباً ، طبقاً لإحصائيات البنك الدولي. فإذا نظرنا لعدد براءات الإختراع الدولية التي سجلت في مصر في نفس العام سنجد أنها 321 براءة اختراع ، بينما ماليزيا سجلت 2086 براءة ، وسنغافورة سجلت 5609 براءة في نفس العام طبقاً لاحصائيات المؤسسة العالمية للملكية الفكرية. أي أن أداء البحث العلمي في مصر كان أقل من نظيره في ماليزيا حوالي ستة مرات ومن نظيره في سنغافورة حوالي سبعة عشر مرة !!
أما بالنسبة لعدد البحوث العلمية المنشورة في دوريات علمية محكمة ، فأداء مصر كان أفضل نوعاً ما ، حيث نشرت الجامعات والمؤسسات البحثية المصرية 7411 بحثاً في كل أفرع المعرفة خلال عام 2009 ، بينما نشرت الجامعات والمؤسسات البحثية الماليزية 9814 بحثاً ، ونظيرتها السنغافورية 11،826 خلال نفس العام ، طبقاً لقاعدة بيانات SCImago.
إذن يتضح لنا أن مصر في أزمة كارثية للبحث العلمي ، خاصة بمراقبة المعيار الأهم لتقييم البحث العلمي وهو عدد براءات الإختراع ، وتكمن أهمية هذا المعيار في أنه يعبر عن الفرص المتاحة أمام الإستثمارات الصناعية في استغلال براءات الإختراع المسجلة في مصر لتحقيق تقدم نوعي في مجال الصناعة ، بينما يعبر عدد البحوث المحكمة فقط عن نشاط الباحثين في الجامعات والمؤسسات البحثية ، أكثر ما يعبر عن علاقة البحث العلمي بالنهضة الصناعية والتنمية المباشرة.
ماهي أسباب أزمة البحث العلمي في مصر ؟؟ في الواقع يمكن تلخيص الأسباب في سببين رئيسيين الأول هو التدني الشديد للإنفاق الحكومي علي البحث العلمي ، حيث لم يتعدي هذا الإنفاق 0.2% من إجمالي الدخل القومي (أي حوالي 0.9 بليون دولار) خلال عام 2009 ، بينما أنفقت سنغافورة حوالي 2% من قيمة دخلها القومي علي البحث العلمي في نفس السنة (أي حوالي عشرة أضعاف الإنفاق المصري) ، وأنفقت ماليزيا حوالي 0.61% من دخلها القومي (أي حوالي ثلاثة أضعاف الإنفاق المصري) ، طبقاً لإحصائيات مؤسسة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
أما السبب الثاني لتدهور البحث العلمي في مصر هو الإنخفاض في حجم الإنفاق علي التعليم الحكومي ، حيث لم تتجاوز ميزانية التعليم في مصر 3.7% من إجمالي الدخل القومي في عام 2009 ، بينما بلغ الإنفاق علي التعليم الحكومي في ماليزيا 5% من إجمالي الدخل القومي ، وفي سنغافورة تعدي حجم الإنفاق علي التعليم 3.2% من إجمالي الدخل القومي ، ولكي ندرك فداحة مشكلة الإنفاق علي التعليم الحكومي – التي قد لا تكون واضحة بالأرقام السابقة فقط – يجب أن نأخذ في الإعتبار التباين الشاهق في عدد السكان بين الدول الثلاث ، حيث يبلغ في مصر حوالي 85 مليون نسمة ، وفي ماليزيا حوالي 26 مليون نسمة وفي سنغافورة حوالي 4.5 مليون نسمة فقط !
إذن متوسط نصيب المواطن المصري من ميزانية التعليم لا يتعدي 80 دولار سنوياً ، بينما يبلغ نصيب المواطن الماليزي من ميزانية التعليم 372 دولار سنوياً ، والمواطن السنغافوري 1300 دولار سنوياً ! ياله من فارق مخيف !!
إذن ماهي الخطوات والآليات اللازمة للتعامل مع أزمة البحث العلمي في مصربما يضمن وضع مصر علي طريق التنمية المستدامة والتطور العلمي مرة أخري...؟! هذا ما أجيب عنه في المقال القادم إن شاء الله...
[email protected]
*المصريون
منذ نجاح ثورة 25 يناير في إسقاط نظام مبارك وظهرت علي الساحة السياسية في مصر العديد من النقاشات والحوارات حول أيدولوجية النظام السياسي القادم وهوية الجمهورية الجديدة ، وهذه النقاشات أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن كل التيارات السياسية في مصر تتمتع بصحة جيدة ، إن جاز التعبير ، وتتمتع برؤية واضحة لأهداف كل منها ، وهو أمر يدعو للتفاؤل بشأن المستقبل السياسي لمصر ، ولا يجب أن ننسي أن ثورتنا كانت بمثابة الإستقلال عن احتلال داخلي دام ثلاثة عقود ، ولا يجب أن ننسي أيضاً أن ثمن الحرية والإستقلال دائماً ما يكون باهظاً ، ولنا في الثورة الفرنسية خير مثال. إذن فهذا التوتر الظاهري والإشكاليات الفكرية التي تطفو علي سطح الحياة السياسية الآن لا يجب أن تدعو للقلق ، بل تدعو للتفاؤل في حقيقة الأمر.
بيد أن ما يدعو للقلق حقاً هو الأزمات التنموية العديدة التي تمر بها مصر ، سواءاً علي المستوي الإقتصادي أو الأمني أو العلمي ، وهي أزمات لم تولد مع الثورة كما يدعي بعض المخذلين ، ولكن ولدت في حقيقة الأمر في ظل نظام عابث لا يعبأ بمصلحة الإنسان المصري ولا يهتم إلا بمصالح رجاله الشخصية ، وجعلت هذه الأزمات مصر تفقـد خط سيرها في طريق التنمية المستدامة الذي قطعت فيه العديد من الدول الأخري شوطاً جباراً خلال العقود الثلاثة الماضية. إن البحث العلمي يعتبر واحداً من أهم المجالات التي فشل النظام السابق في وضع تصور لتطويرها لتتواكب مع المستجدات العالمية ولتحقق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة للألفية الثالثة ، ويمكن القول – بالكثير من الواقعية – أن البحث العلمي في مصر يعاني حالياً من أزمة كارثية تهدد مستقبل مصر علي كل المستويات. هذا المقال يقدم وصف لأهم أعراض أزمة البحث العلمي في مصر ، وتشخيص لأسبابها.
من الضروري للغاية أن يكون هناك معايير واضحة لتقييم البحث العلمي في مصر حتي نتمكن من تشخيص ومعرفة أبعاد الأزمة العلمية التي تمر بها البلاد ، وعادة ما يقيم أداء البحث العلمي لدولة ما بمعيارين : الأول والأهم هو عدد براءات الإختراع التي تسجلها تلك الدولة سنوياً ، والثاني هو عدد البحوث العلمية التي يتم نشرها في دوريات (مجلات) علمية متخصصة ومحكمة سنوياً ، فبهذين المعيارين يمكن تقييم أداء دولة ما – بمقارنتها بدول أخري – بالنسبة للبحث العلمي ، وإذا أردنا اختيار عدد من دول لمقارنة مصر معهم بالنسبة للبحث العلمي ، فيجب أن نختار دول تشترك مع مصر في قيمة الدخل القومي حتي يكون هناك معني حقيقي للمقارنة ، وحتي نستطيع أن نتعرف - بشكل مقارن – علي مستوي البحث العلمي في مصر.
في عام 2009 كانت قيمة الدخل القومي المصري 182.23 بليون دولار ، وهو يقترب جداً من الدخل القومي لكلِ من ماليزيا وسنغافورة في نفس السنة ، فماليزيا بلغ دخلها القومي 193 بليون دولار ، وسنغافورة 182.3 بليون دولار ، أي نفس الدخل القومي المصري تقريباً ، طبقاً لإحصائيات البنك الدولي. فإذا نظرنا لعدد براءات الإختراع الدولية التي سجلت في مصر في نفس العام سنجد أنها 321 براءة اختراع ، بينما ماليزيا سجلت 2086 براءة ، وسنغافورة سجلت 5609 براءة في نفس العام طبقاً لاحصائيات المؤسسة العالمية للملكية الفكرية. أي أن أداء البحث العلمي في مصر كان أقل من نظيره في ماليزيا حوالي ستة مرات ومن نظيره في سنغافورة حوالي سبعة عشر مرة !!
أما بالنسبة لعدد البحوث العلمية المنشورة في دوريات علمية محكمة ، فأداء مصر كان أفضل نوعاً ما ، حيث نشرت الجامعات والمؤسسات البحثية المصرية 7411 بحثاً في كل أفرع المعرفة خلال عام 2009 ، بينما نشرت الجامعات والمؤسسات البحثية الماليزية 9814 بحثاً ، ونظيرتها السنغافورية 11،826 خلال نفس العام ، طبقاً لقاعدة بيانات SCImago.
إذن يتضح لنا أن مصر في أزمة كارثية للبحث العلمي ، خاصة بمراقبة المعيار الأهم لتقييم البحث العلمي وهو عدد براءات الإختراع ، وتكمن أهمية هذا المعيار في أنه يعبر عن الفرص المتاحة أمام الإستثمارات الصناعية في استغلال براءات الإختراع المسجلة في مصر لتحقيق تقدم نوعي في مجال الصناعة ، بينما يعبر عدد البحوث المحكمة فقط عن نشاط الباحثين في الجامعات والمؤسسات البحثية ، أكثر ما يعبر عن علاقة البحث العلمي بالنهضة الصناعية والتنمية المباشرة.
ماهي أسباب أزمة البحث العلمي في مصر ؟؟ في الواقع يمكن تلخيص الأسباب في سببين رئيسيين الأول هو التدني الشديد للإنفاق الحكومي علي البحث العلمي ، حيث لم يتعدي هذا الإنفاق 0.2% من إجمالي الدخل القومي (أي حوالي 0.9 بليون دولار) خلال عام 2009 ، بينما أنفقت سنغافورة حوالي 2% من قيمة دخلها القومي علي البحث العلمي في نفس السنة (أي حوالي عشرة أضعاف الإنفاق المصري) ، وأنفقت ماليزيا حوالي 0.61% من دخلها القومي (أي حوالي ثلاثة أضعاف الإنفاق المصري) ، طبقاً لإحصائيات مؤسسة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
أما السبب الثاني لتدهور البحث العلمي في مصر هو الإنخفاض في حجم الإنفاق علي التعليم الحكومي ، حيث لم تتجاوز ميزانية التعليم في مصر 3.7% من إجمالي الدخل القومي في عام 2009 ، بينما بلغ الإنفاق علي التعليم الحكومي في ماليزيا 5% من إجمالي الدخل القومي ، وفي سنغافورة تعدي حجم الإنفاق علي التعليم 3.2% من إجمالي الدخل القومي ، ولكي ندرك فداحة مشكلة الإنفاق علي التعليم الحكومي – التي قد لا تكون واضحة بالأرقام السابقة فقط – يجب أن نأخذ في الإعتبار التباين الشاهق في عدد السكان بين الدول الثلاث ، حيث يبلغ في مصر حوالي 85 مليون نسمة ، وفي ماليزيا حوالي 26 مليون نسمة وفي سنغافورة حوالي 4.5 مليون نسمة فقط !
إذن متوسط نصيب المواطن المصري من ميزانية التعليم لا يتعدي 80 دولار سنوياً ، بينما يبلغ نصيب المواطن الماليزي من ميزانية التعليم 372 دولار سنوياً ، والمواطن السنغافوري 1300 دولار سنوياً ! ياله من فارق مخيف !!
إذن ماهي الخطوات والآليات اللازمة للتعامل مع أزمة البحث العلمي في مصربما يضمن وضع مصر علي طريق التنمية المستدامة والتطور العلمي مرة أخري...؟! هذا ما أجيب عنه في المقال القادم إن شاء الله...
[email protected]
*المصريون