فهمي هويدي
لن ترحمك الحكومة إذا كنت معارضا سياسيا،
ولن يرحمك المثقفون إذا كنت نزيها ومتجردا،
والأولى فهمناها وحفظناها جيدا.
أما الثانية فقد باتت بحاجة إلى تحرير، خصوصا في الأجواء الراهنة بمصر. المشحونة بالانفعالات والحساسيات، والمسكونة بقدر هائل من الغضب والحزن.
تلك خلفية دفعت كثيرين إلى إبداء مشاعر التضامن والتعاطف مع ضحايا المذبحة وذويهم، وهو أمر مشروع ومطلوب اكتفى به البعض،
في حين أن آخرين رأوا في المذبحة أنها ليست فاجعة أصابت فئة بذاتها دائما هي أيضا بمثابة طعنة في قلب الوطن. من ثم فإن قلوبهم كانت مع الضحايا حقا، في حين ظلت أعينهم معلقة بخريطة الوطن.
ومن موقعهم ذاك تعاملوا مع المشهد وتداعياته بقدر أكبر من التوازن والعقلانية، وبقدر أقل من الاندفاع العاطفي. وهو ما مكنهم من أن ينبهوا إلى الأخطاء التي وقع فيها الجميع، الحكومة والمسلمون والأقباط.
تحدثوا عن ضعف الحكومة وتراخيها الأمني، وعن تعصب بعض المسلمين وجنوح بعضهم إلى التطرف والإرهاب، وعن استقواء الكنيسة القبطية ورياح التعصب التي هبت على بعض أركانها ورعاياها.
هذا التجرد لم يعجب قطاعات من المثقفين، ولم تتعود عليه الجماهير المفتقدة إلى ثقافة التجرد. إذ لم تعد ترى من الألوان غير الأبيض والأسود، بحيث أصبح الناس عندهم إما مع أو ضد.
غاب عن هؤلاء وهؤلاء أن الواحد يمكن أن يكون مع طرف آخر وينتقده، وأن هناك فرقا بين التعاطف والتحيز.
والتعاطف يسمح بالنقد في حين أن التحيز لا يحتمله.
والتعاطف يسمح لك بأن ترى الحدث في ضوء الظروف والمصالح المحيطة به،
أما التحيز فإنه يضيق من زاوية النظر، بحيث يحصره في الحدث منفصلا عن محيطه.
ليس لي أن أتحدث عن النوايا، فضلا عن أنني لا أشك في إخلاص وصدق المثقفين الذين انفعلوا بما جرى ــ وبعضهم مسلمون محترمون ــ فتحاملوا على المسلمين وضاقت صدورهم بالنقد الذي وجه إلى الكنيسة القبطية،
ولأنهم ذهبوا في تعاطفهم إلى حد التحيز، فقد شنوا هجوما قاسيا على الذين اختاروا أن يقفوا في الوسط وأن يتجردوا في التعبير عن آرائهم، حين شغلوا بالوطن ومستقبله واستعلوا فوق مشاعر الطائفة.
ولا أريد أن أقلل من قدر مشاعر الغيرة على الطائفة. واعتبرها مشاعر نبيلة ومقدرة: لكننا لا ينبغي أن نوجه أصابع الاتهام إلى من عبروا عن غيرتهم على الوطن أيضا.
إنني لا أفهم مثلا لماذا نحتمل نقدا لرئيس الدولة والحكومة وللرموز والجماعات والمؤسسات الإسلامية، في حين ينتفض البعض غضبا إذا وجه أي نقد للكنيسة الأرثوذكسية ورئيسها.
ولماذا يعد ذكر بعض الأخطاء، التي تمس هيبة الدولة إخلالا بالوحدة الوطنية، كأن كتمانها والمداراة عليها وتحويلها إلى قنابل موقوتة يعزز الوحدة ويحميها،
ولماذا تضيق صدور البعض إذا حاولنا أن نعطي مذبحة الإسكندرية حجمها الحقيقي بلا زيادة أو نقصان، فاعتبرناها جريمة بشعة حقا، ولكنها حدث استثنائي في التاريخ المصري المعاصر. فلا مصر صارت كالعراق، ولا هي تحولت إلى معسكرات وطوائف مثل لبنان، ولا «القاعدة» هيمنت على مقدراتها واستولت على عقول شبابها.
حين ضربت التفجيرات لندن قبل خمس سنوات، وقتل بسببها 59 شخصا وجرح 700، فإن البلد صدم حقا، لكنه لم يصب باللوثة التي نشهد أصداءها في مصر الآن، وإنما أعطى الحدث حجمه وتم التعامل مع الجريمة برصانة وهدوء، واعتقل في الحادث رغم فداحته ثمانية أشخاص لا غير، أخذ القانون مجراه في التعامل معهم.
إن الترهيب لم يعد مقصورا على الحكومات والأجهزة الأمنية فقط، ولكن هناك أيضا إرهاب المثقفين الذي تفرضه عليهم تحيزاتهم على نحو يضيق بالتجرد والاستقامة الفكرية.
وهناك كذلك إرهاب الجماهير التي شحنت بالتحيزات وفتنت بالتصنيفات، ووفرت لها ثورة الاتصال إمكانات الجهر بالتلاسن ومحاكمة كل صاحب رأي مخالف.
من المفارقات أن المثقفين الذين يثير غضبهم النقد النزيه هم أنفسهم الذين لا يكفون عن إعطائنا دروسا في ضرورة احترام الرأي الآخر، ودروسا أخرى في الغيرة على البلد وضرورة الارتفاع بمصالح الوطن فوق حسابات الفئة أو الطائفة.
لن ترحمك الحكومة إذا كنت معارضا سياسيا،
ولن يرحمك المثقفون إذا كنت نزيها ومتجردا،
والأولى فهمناها وحفظناها جيدا.
أما الثانية فقد باتت بحاجة إلى تحرير، خصوصا في الأجواء الراهنة بمصر. المشحونة بالانفعالات والحساسيات، والمسكونة بقدر هائل من الغضب والحزن.
تلك خلفية دفعت كثيرين إلى إبداء مشاعر التضامن والتعاطف مع ضحايا المذبحة وذويهم، وهو أمر مشروع ومطلوب اكتفى به البعض،
في حين أن آخرين رأوا في المذبحة أنها ليست فاجعة أصابت فئة بذاتها دائما هي أيضا بمثابة طعنة في قلب الوطن. من ثم فإن قلوبهم كانت مع الضحايا حقا، في حين ظلت أعينهم معلقة بخريطة الوطن.
ومن موقعهم ذاك تعاملوا مع المشهد وتداعياته بقدر أكبر من التوازن والعقلانية، وبقدر أقل من الاندفاع العاطفي. وهو ما مكنهم من أن ينبهوا إلى الأخطاء التي وقع فيها الجميع، الحكومة والمسلمون والأقباط.
تحدثوا عن ضعف الحكومة وتراخيها الأمني، وعن تعصب بعض المسلمين وجنوح بعضهم إلى التطرف والإرهاب، وعن استقواء الكنيسة القبطية ورياح التعصب التي هبت على بعض أركانها ورعاياها.
هذا التجرد لم يعجب قطاعات من المثقفين، ولم تتعود عليه الجماهير المفتقدة إلى ثقافة التجرد. إذ لم تعد ترى من الألوان غير الأبيض والأسود، بحيث أصبح الناس عندهم إما مع أو ضد.
غاب عن هؤلاء وهؤلاء أن الواحد يمكن أن يكون مع طرف آخر وينتقده، وأن هناك فرقا بين التعاطف والتحيز.
والتعاطف يسمح بالنقد في حين أن التحيز لا يحتمله.
والتعاطف يسمح لك بأن ترى الحدث في ضوء الظروف والمصالح المحيطة به،
أما التحيز فإنه يضيق من زاوية النظر، بحيث يحصره في الحدث منفصلا عن محيطه.
ليس لي أن أتحدث عن النوايا، فضلا عن أنني لا أشك في إخلاص وصدق المثقفين الذين انفعلوا بما جرى ــ وبعضهم مسلمون محترمون ــ فتحاملوا على المسلمين وضاقت صدورهم بالنقد الذي وجه إلى الكنيسة القبطية،
ولأنهم ذهبوا في تعاطفهم إلى حد التحيز، فقد شنوا هجوما قاسيا على الذين اختاروا أن يقفوا في الوسط وأن يتجردوا في التعبير عن آرائهم، حين شغلوا بالوطن ومستقبله واستعلوا فوق مشاعر الطائفة.
ولا أريد أن أقلل من قدر مشاعر الغيرة على الطائفة. واعتبرها مشاعر نبيلة ومقدرة: لكننا لا ينبغي أن نوجه أصابع الاتهام إلى من عبروا عن غيرتهم على الوطن أيضا.
إنني لا أفهم مثلا لماذا نحتمل نقدا لرئيس الدولة والحكومة وللرموز والجماعات والمؤسسات الإسلامية، في حين ينتفض البعض غضبا إذا وجه أي نقد للكنيسة الأرثوذكسية ورئيسها.
ولماذا يعد ذكر بعض الأخطاء، التي تمس هيبة الدولة إخلالا بالوحدة الوطنية، كأن كتمانها والمداراة عليها وتحويلها إلى قنابل موقوتة يعزز الوحدة ويحميها،
ولماذا تضيق صدور البعض إذا حاولنا أن نعطي مذبحة الإسكندرية حجمها الحقيقي بلا زيادة أو نقصان، فاعتبرناها جريمة بشعة حقا، ولكنها حدث استثنائي في التاريخ المصري المعاصر. فلا مصر صارت كالعراق، ولا هي تحولت إلى معسكرات وطوائف مثل لبنان، ولا «القاعدة» هيمنت على مقدراتها واستولت على عقول شبابها.
حين ضربت التفجيرات لندن قبل خمس سنوات، وقتل بسببها 59 شخصا وجرح 700، فإن البلد صدم حقا، لكنه لم يصب باللوثة التي نشهد أصداءها في مصر الآن، وإنما أعطى الحدث حجمه وتم التعامل مع الجريمة برصانة وهدوء، واعتقل في الحادث رغم فداحته ثمانية أشخاص لا غير، أخذ القانون مجراه في التعامل معهم.
إن الترهيب لم يعد مقصورا على الحكومات والأجهزة الأمنية فقط، ولكن هناك أيضا إرهاب المثقفين الذي تفرضه عليهم تحيزاتهم على نحو يضيق بالتجرد والاستقامة الفكرية.
وهناك كذلك إرهاب الجماهير التي شحنت بالتحيزات وفتنت بالتصنيفات، ووفرت لها ثورة الاتصال إمكانات الجهر بالتلاسن ومحاكمة كل صاحب رأي مخالف.
من المفارقات أن المثقفين الذين يثير غضبهم النقد النزيه هم أنفسهم الذين لا يكفون عن إعطائنا دروسا في ضرورة احترام الرأي الآخر، ودروسا أخرى في الغيرة على البلد وضرورة الارتفاع بمصالح الوطن فوق حسابات الفئة أو الطائفة.