مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
مفاهيم في التكامل المعرفي
د. فتحي حسن ملكاوي
تأخذُ بعضُ المصطلحات موقعاً أثيراً في الكتابات الفكريَّة والثقافيَّة، ويَشيع استعمالهُا دون أن يتمَّ تحديدُ دلالاتِها بصورة واضحة. ولذلك ليس من الغريب أن تجدَ المصطلحَ يُستخدم بدلالاتٍ مختلفة، وربَّما متناقضة. ولعلَّ هذا هو الحال مع مصطلح التكامل المعرفي. ذلك أنَّ المصطلح يُستخدم في كثير من الأحيان ليعني أنَّ شخصاً ما موسوعيٌ في معرفته وثقافته؛ لأنَّه يُلمُّ بكثير من العلوم، ولو كان إلمامُه من باب الثقافة العامة وليس المعرفة التخصصية. وفي هذا السياق يجرى التنْوِيهُ ببعض العلماء المسلمين الذي اتصفوا بالتكامل المعرفي، بمعنى الموسوعية، في اللغة والأدب، والفقه، وعلوم القرآن، وعلوم الحديث، والتاريخ، وربَّما الفلك، أو الطب، أو الرياضيات. فالإمام الطبري مثلاً هو مفسِّرٌ، ومؤرِّخ، وفقيه، وعالِمُ لغةٍ وشعر. وابنُ خلدون في الأساس مغامرٌ سياسي، لكنَّه عُرف بأنَّه مؤرِّخ، وقاضي قضاة المالكية بمصر، وكثيرون ينسبون له الإبداع في علوم الاجتماع والاقتصاد والتربية وغيرها. وابنُ سينا فيلسوفٌ وطبيب، وابنُ رشد فقيهٌ وأصولي وطبيب وفيلسوف، وابنُ تيمية كَتَبَ في الفقه والأصول والسنة والتصوف والمنطق. وهكذا. ولا شكَّ في أنَّ ظاهرة الإبداع في أكثر من علمٍ واحد، كانت صفةً مميزة لكثير من علماء المسلمين، لكنَّ هذه الظاهرة كانت أيضاً معروفةً عند العلماء والمفكرين والفلاسفة الأقدمين بصورة عامة في الحضارة اليونانية وغيرها. وربَّما كانت ظاهرةُ التخصص في علم واحد والتفرغ له ظاهرةً حديثة في التاريخ الإنساني، بسبب التوسُّع الكبير الذي طرأ على المعرفة البشرية؛ حتى أصبح من غير الميسور على العالِم الواحد أن يتخصَّص في أكثر من علم، بل إنَّ العلم الواحد قد تجزّأ إلى علوم فرعية لا يكاد العالِم يتقن واحداً من هذه الأجزاء.
وفي حوالي منتصف القرن العشرين لاحظ اللورد البريطاني ’’س. ب. سنو’’ الفجوة في القدرة على التواصل بين من يتخصصون في العلوم الإنسانية ومن يتخصصون في العلوم الطبيعية والتطبيقية، حتى إنَّه وصَف كلَّ فئة من الفئتين بأنَّها تملك ثقافةً خاصة بها، لا علاقة لها بالثقافة الأخرى. وكتب تقريرَه المعروف ’’الثقافتان: the two cultures’’ داعياً إلى التكامل بين الثقافتين.
ومن قديم كان الحكماء والعلماء يتحدثون عن التكامل بين العلم والعمل. وأكَّد ابن رشد إمكانية الاتصال بين ’’الحكمة والشريعة’’، وأكَّد ابن تيمية على التكامل و’’درء التعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول’’، وجمع القشيري وغيره من المتصوفة بين ’’الطريقة والحقيقة’’. ثم جاءت محاولات بناء التكامل بين المبادئ والنظريات والبحوث العلمية من جهة وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى. وظهرت في مطلع القرن العشرين حاجة الفيزياء إلى الرياضيات، وحاجة البيولوجيا إلى الكيمياء، فظهرت العلوم البينية التي تؤكد اعتماد التطور والتقدم في علم من العلوم على علم آخر أو علوم أخرى. كما طرحت أفكار عديدة حول التكامل بين العلم والدين، وفي التربية والتعليم اعتمد التكامل واحداً من المداخل المهمة في بناء المناهج التعليمية. ثم طرأت الحاجة إلى أفكار الجمع والتكامل بين الأصالة والمعاصرة... وهكذا.
وتحاول هذه المقالة أن توضِّح بعضَ مفاهيم التكامل المعرفي في سياقاتها في التاريخ الحديث والمعاصر، وعلاقَتَها بمفاهيم أخرى مثل وحدة المعرفة، والرؤية الكونية، وتصنيف العلوم، وإسلامية المعرفة؛ وأن تبيِّن طبيعةَ قضية التكامل المعرفي، ومعيقات تحقيق هدف التكامل المعرفي. وأخيراً تقدِّمُ المقالة اقتراحاً يجمع مفهوم التكامل المعرفي وعناصره في معادلة واحدة، من خلال ملاحظة التكامل في ثلاثة مستويات: بين مصادر المعرفة، وبين أدوات المعرفة، وبين مصادر المعرفة وأدواتها.
أولاً: بين التكامل المعرفي ووحدة المعرفة
قضيّة التكامل المعرفي قضيّةٌ فكرية منهجية، من حيث إنَّها ترتبط بالنشاط الفكري والممارسة البحثية وطرق التعامل مع الأفكار. ولكنَّ الغرضَ من معالجة قضية التكامل المعرفي ومنهج هذه المعالجة سوف يحدّدان الحقل المعرفي الذي يمكن أن تصنّف فيه هذه القضية. فقد يصنّف التكامل المعرفي في الحقل الفلسفي أو في فرع أو أكثر من فروع الفلسفة: علم الوجود أو علم المعرفة أو علم القيم، ويأخذ في هذه الحالة بُعداً نظرياً تجريدياً. وقد يصنّف أيضاً في واحد من حقول النشاط الحضاري للمجتمع، عندما يكون الغرض توفير الموارد الضرورية وتحويلها إلى نشاط سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي لتيسيير سبل الحياة العملية للناس، وعندها يأخذ الموضوع بُعداً اجتماعياً تطبيقياً. لكن النظر إلى موضوع التكامل المعرفي ربَّما يقتصر على زاوية التعامل مع الحقول المعرفية المتعددة، ومستوى الحاجة إلى كل منها في تصميم برامج المؤسسات التعليمية ومناهجها، فتأخذ القضية بعداً تربوياً تعليمياً... وهكذا.
وعلى كل حال فإنَّ ثَمَّة بُعديْن لعلمية التكامل المعرفي؛ بُعْداً إنتاجياً، وبعداً استهلاكياً. فالتكامل في بعده الإنتاجي صورة من صور الإبداع الفكري الذي يحتاج إلى قدرات خاصة. فمثلاً التكامل بين معارف الوحي والعلوم الإنسانية والاجتماعية في صياغاتها الغربية المعاصرة، يحتاج إلى العالِم الباحث الذي يستلهم هداية الله سبحانه في فهم مقاصد النصوص والأحكام، وكيفية تنـزيلها على الوقائع والأحداث، ضمن إطار ثقافي حضاري معاصر، وهذا الفهم والتحديد والكيفية جهد تحليلي تفكيكي أساسي. لكنَّ الباحثَ سوف يحتاجُ في الوقت نفسه إلى فهم الواقع الذي يتعلق بمجال معرفي معين، أو قضية محددة: اقتصادية أو اجتماعية أو تربوية...كمّاً وكيفاً. وهذا يعني بالضرورة قدرة الباحث على تفكيك القضية وتحديد عناصرها وفهم آليات عملها وافتراضاتها النظرية الكامنة. وهذا التفكيك في المجالين شرط ضروري مسبق، إذا تحقق سيكون أساساً لتحقيق التكامل المعرفي بين المجالين في عملية تركيب نقدية إبداعية، يرافقها عادة تقويم للعناصر التي ستدخل في التركيب الجديد، وإنشاء شبكة العلاقات التي تصلها أو تجمعها أو توحدها لمقصد جديد، أو غاية جديدة.
أما البُعد الاستهلاكي من عَمَلية التكامل المعرفي فيتعلَّق بتوظيف الأبنية الفكرية التي يقوم عليها التكامل في فهم الظواهر أو القضايا موضع الدراسة، وتمييز العناصر المميزة للمعرفة في إطارها التكاملي، وتسهيل نَقل هذه المعرفة إلى الآخرين. والفرْق بين البُعدَيْن الإنتاجي والاستهلاكي من التكامل المعرفي، شبيه بالفرق بين العالم الفيزيائي الذي يكتشف القانون العلمي، والعالم التكنولوجي الذي يطوِّر الآلة التي يقوم عليها القانون من جهة، والمعلم الذي يعلم مادة الفيزياء، والفنِّي الذي يعمل في المصنع الذي تستخدم فيه الآلة من جهة أخرى.
ولبيان موقع التكامل وأهميته ضمن مجالات العمل العِلْمي، صنَّف ’’بوير’’ العمل العلمي في أربعة مجالات: الأول هو الاكتشاف، وهو ما يوافق الجهود المعرفية في إجراءات البحث في حقول معرفية معينة؛ والثاني هو التطبيق، وهو التأمل في إمكانية الاستعمال العملي للمعرفة المكتشفة؛ والثالث هو التعليم، وهو نقل المعرفة وتوريثها من جيل إلى الجيل الذي يليه؛ والرابع، هو التكامل بوصفه نشاطاً يتم فيه دمج التركيب بالمعني. وهو المجال الذي يعطي للعمل العلمي في مجالاته الثلاثة السابقة معانيه ودلالاته في الواقع. ويعقب على ذلك بتأكيد طبيعة التكامل وأهميته بالقول: ’’إنّه من خلال التكامل فقط يصبح البحث جديراً بالثقة.’’
ويتصل مفهوم التكامل المعرفي بمفهوم وحدة المعرفة باعتبار أنَّ وحدة المعرفة تشكِّل الأساس المنطقي لتكاملها، لكنَّ الحديث في هذا المقام سيكون مخصصاً لمفهوم التكامل المعرفي على وجه التحديد، مؤجلين الحديث عن المفاهيم العديدة التي ارتبطت بوحدة المعرفة إلى مناسبة أخرى. ومع ذلك فإنَّ مبدأ التوحيد في الإسلام، سيكون حاضراً في أيِّ حديث عن وحدة المعرفة من جهة، وعن التكامل المعرفي من جهة أخرى.
لقد كان عهدُ الحداثة ناجحاً جداً في تحقيق وُعُوده بزيادة المعرفة والتقدم في متطلبات الحياة المادية الخارجية، لكنَّ الثمن كان باهضاً؛ فالحداثة ولّدت تركة هائلة من المشكلات الكونية غير المسبوقة، تهدِّد مستقبل الإنسان ومستقبل الكرة الأرضية التي يعيش عليها تهديداً جديّا. فقد نتجت عن النموِّ الأسّيّ للمعلومات والبيانات كتلةٌ ضخمة من المعرفة، كان لا بدّ من تقسيمها إلى حقول وتخصصات، من أجل التعامل معها، وكلَّما زادت ضخامة هذه الكتلة لزم الاستمرار في التجزئة والتقسيم. ’’هذه التجزئة المستمرة للمعرفة المتزايدة في النمو أنتجت أنظمة تربوية ومجتمعات مغرقة في التجزئة والتخصص الفرعي، وأنتجت بالتالي أفراداًً يركزون بطريقة مبالغ فيها على أجزاء الحقيقة المختزلة، والراهنة، والمباشرة؛ ويفتقدون بطريقة متزايدة الوحدة التاريخية للصورة الكبيرة الكلية الأقل وضوحاً. وبعبارة أخرى في الوقت الذي أصبحنا فيه أناساً نعرف أكثر فأكثر عن الأشياء الأقل فالأقل، فإنَّنا في الوقت نفسه للأسف أصبحنا أناساً نعرف أقل فأقل عن الأكثر فالأكثر.’’
إنَّ هذه الصورة ليس مبالغاً فيها، فنحن نعيش من غير شك في فترة تاريخية غير عادية مليئة بالمخاطر، ويصعب التنبؤ بما تنتهي إليه. وبعض الباحثين يرون أنَّ البشرية تنـزلق باتجاه عصر من الظلمات، وأنَّ المجتمع البشري وحضارته على خطر عظيم. والأخطر من كل ذلك، أنّنا في عصر يبدو فيه لأوَّل مرَّة في التاريخ شبحُ النهائية الذي يهدد كوكب الأرض بأجمعه.
ومع هذه الصورة القاتمة فإنّ Utke متفائل في إمكانية الدخول في عصر تاريخي جديد هو عصر ما بعد الحداثة، ويحاول أن يرسم خطَّة يصفها بأنَّها لن تكون كاملة، وأنَّ عصر الأنوار الجديد (هكذا يرى ’’أوتكي’’ عصر ما بعد الحداثة) سترافقه ثورات تتداخل فيها قوى المادة والعقل لإحداث تغييرات جذرية في سلوك الإنسان فيما يتعلق بالطبيعة، ترافقها بالضرورة تغييرات في نظرة الإنسان واتجاهه العقلي، بعيداً عمَّا عهده خلال عهد الحداثة، من التفكير السطحي بالحقيقة الراهنة الذي يتصف بالضيق واللامسؤولية وبالدغمائية والعنف، ويقترب أكثر من خصائص التفكير الشمولي عن الحقيقة المطلقة. وسوف يتضمن عصر الأنوار الجديد أيضاً انقلاباً منهجياً يبتعد عن التأكيد على الفردية سواءً كانت الأنا الشخصية، أو الأنا القومية، أو الأنا الدينية؛ وتعيد التأكيد على الـ(نحن) الإنسانية في مستقبل العالم. ويستعين هذا الباحث في تسويغ تفاؤله بملاحظة أن العلم القديم ومنهجه الاختزالي بدأ في الحقيقة منذ مطلع القرن العشرين يتشرب جرعات متزايدة مما يمكن تسميته بالوحدة الكونية، وفي هذه الوحدة الكونية يستمر التأكيد على دراسة أجزاء الحقيقة، مع إدراك إضافي أن هذه الأجزاء في نهاية المطاف هي في الحقيقة وَهم فحسب؛ لأنَّ كلَّ شيء في النهاية متداخل ومتواصل مع كلَّ شيء آخر. ويتمُّ الإدراك هنا أنَّ المعرفة والمعلومات تهبط بالكلِّ نحو الأجزاء (من الواحد إلى العديد)، وأنَّ الكلَّ في الحقيقة يساوي مقداراً أكبر من مجموع الأجزاء. ومن الأمثلة على هذه الجرعات ما أحدثتة النظرية النسبية وتطبيقاتها، وعلاقة الطاقة بالمادة، ونظرية (الكوانتم) والنظرية الكبرى للمجال الموحد الأكبرsuper grand unified field theory وغير ذلك.
إنَّ هذا العلم الجديد يعترف بأنَّ المعرفة النهائية والفهم الكلي واليقين حول الحقيقة أمور لن تتحقق أبداً. ويقدم حقيقة جديدة هي أنَّ الكون ليس في حالة بسيطة ساكنة مجزأة لا معنى له كالآلة التي لا عقل لها، وأنَّ الإنسان لم يظهر فيه عن طريق الصدفة والعشوائية، وإنَّما يبدو الكون متصلاً ببعضه، وينمو بطريقة واعية، ونظام الحقيقة فيه متكامل في بنيته وخصائصه، والإنسان فيه وسيلة لتحقيق الغرض من خلق الكون، حيث يبدو العقل الإنساني أكثر الأشياء المعروفة للإنسان تعقيداً في هذا الكون. ويمكن الادعاء بأنَّ العلم الجديد بهذه الرسالة القوية التي يقدمها عن الحقيقة الجديدة، هو إيذان ببزوغ فجر العصر الجديد المنتظر: عصر ما بعد الحداثة. وفي هذا العصر يمكن أن تتحقق فيه وحدة المعرفة.
ونختتم الأمثلة التي تم اختيارها من بين جهود العلماء الذين يرون أن مستقبل العلوم سوف ينتهي بوحدتها بالنتيجة التي توصل إليها العالم الفيزيائي المسلم محمد عبد السلام الذي عُرف بنظريته في الكهرباء الضعيفة electroweak theory. وهذه النظرية -التي نال عليها جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979م بالتشارك مع اثنين من زملائه- هي تركيب رياضي وعقلي للقوى الكهرومغناطيسية والتفاعلات الضعيفة، وهي آخر ما جرى التوصل إليه حتى ذلك الوقت، حول طرق توحيد القوى الأساسية في الطبيعة. وقد تأكَّدت صحةُ النظرية في السنوات اللاحقة من خلال التجارب المخبرية التي جرت في مختبرات المنظمة الأوروبية للبحوث النوويةCERN في جنيف، حول superprotosynchrotron، وهي التجارب التي قادت إلى اكتشاف دقيقات Wو Z. ولا تزال نظرية الكهرباء الضعيفة محور النموذج القياسي في فيزياء الطاقة العالية.
وفي سياق الخطاب الإسلامي المتعلق بوحدة العلوم، تحدَّث كثير من العلماء المسلمين في الماضي عن ضرورة المحافظة على وحدة العلوم والمعارف، بحكم ارتباطها جميعاً بمصدرها الواحد وهو الله سبحانه، سواءً أأوحى الله بها للإنسان بأساليب الوحي المعروفة أم يسّر للإنسان اكتشافها وتطويرها واكتسابها بأساليب البحث والسعي والنظر. ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى جهود الغزالي وابن رشد وابن تيمية.
أما في العصرالحديث وبعد الصدمة التي واجهت المسلمين نتيجة التفوق العلمي الصناعي للغرب، وبعد تأثُّر كثير من مثقفي المسلمين بأيديولوجية الغرب في التمييز الحاسم بين العلم والدين، فقد نهض عددٌ كبير من العلماء المعاصرين للدعوة إلى خطورة الفصل بين الإسلام والعلم، وضرورة إقامة الارتباط التوحيدي العميق بينهما، فهذا مظفر إقبال يؤكِّد ’’على وظيفة حرف العطف بين كلمتي الإسلام (و) العلم حيث يجب أن تتجاوز هذه الوظيفة مجرد بناء اتصال إلى وظيفة التوحيد؛ لأنَّ من غير المفهوم أن يتضمن الخطاب الإسلامي نظامين للحقيقة أو طريقين مستقلين إليها، وحتى حين تتعدد طرق التعبير عن الحقيقة الواحدة أو طرق الوصول إليها فإنَّها تبقى متصلة ببعضها بعقدة مركزية ذات وظيفة توحيدية.’’
وشخَّص المرحوم إسماعيل الفاروقي -ومعه مدرسة إسلامية المعرفة التي تطورت في المعهد العالمي للفكر الإسلامي وعدد من الجامعات ومراكز البحث- أزمة الأمة الإسلامية المعاصرة في أنّها تتمثل في ثنائية نظام التعليم الديني والعلماني. وأنَّ الأمة يصعب عليها الاستفادة من العلوم المعاصرة بصورتها الحالية سواءً الإنسانية أو الاجتماعية وحتى الطبيعية؛ لأنَّها جميعاً وجوه لرؤية تكاملية للحقيقة والعالم والتاريخ، وكلها غريبة عن الإسلام. وتكمن معالجة هذه الأزمة في توحيد نظامي التعليم الإسلامي (التقليدي) والعلماني (المعاصر) في نظام واحد يجمع حسنات النظامين، مع إجراء التطوير اللازمة للمعارف التي تقدمها أنظمة التعليم بصورة تتم فيها صياغتها من منظور إسلامي؛ أي أسلمتها.
ولتحقيق الهدف الحضاري نفسه للأمة، ولكن باستعمال مفردات وتعبيرات مختلفة عن مدرسة إسلامية المعرفة، أدلى ضياء الدين سردار –ومعه عدد من زملائه في مدرسة عرفت بالإجماليين- بدلوه في قضية وحدة المعرفة وتكاملها. وتعتقد هذه المدرسة أنَّ كل العلوم بما فيها العلوم الطبيعية يتمُّ بناؤها بناءً اجتماعياً، وتتصف بأنَّها أداتية أو ذرائعية؛ أي إنها أدوات ووسائل للعمل، وأنَّ فائدتها العملية هي التي تقرِّر قيمتَها، وأنَّها تنطلق من افتراضات محددة عن الحقيقة والإنسان والعلاقة بين الإنسان والطبيعة. ولما كانت كلُّ حضارة تَبْنِي علومَها الخاصَّة بها، فإنَّ جميعَ العلوم العصرية هي علوم غربية. وليس من السهل إقامة علوم إسلامية إلا في البيئة الحضارية الإسلامية من خلال عملية بناء جذرية تقيم الصلات التكاملية بين مكوناتها.
وثَمَّة خطابٌ إسلامي عرفاني حول وحدة المعرفة، ينظر إلى المعرفة في سياقها التقليدي، الذي عبرَّت عنه حضارات الشرق في إطار ميتافيزيقي يقوم على مبادئ مشتقة من التعاليم الخالدة للوحي الإلهي في صوره المختلفة. وهكذا فالعلوم التقليدية تتصف بالقداسة التي تمنحها إياها قداسة الطبيعة ذاتها، وهذه بدورها استمدت قداستها من الوحي، على أساس أنَّ الطبيعةَ هي آياتُ الله. فالمعرفة التي يكتسبها الإنسان عن العالمَ والمعرفة التي يتلقاها من الخالق تُشكِّل وحدةً واحدة، وحتى منهجيات هذه العلوم يمكن تلمُّس جذورِها من مصدر واحد. وهكذا فإنَّ المعرفة المتاحة للفكر الإنساني عن طريق الفلسفة العرفانية تعطي مجالاً واسعاً من الاحتمالات؛ لأنّها تفتح الطريق للربط بين جميع أفعال المعرفة التي يقوم بها الفكر، ولارتباطها في النهاية بالإله المتعالي.
ويتبنّى هذا الخطاب الفلسفي-الصوفي مجموعة من العلماء المعاصرين أشهرهم سيد حسين نصر وسيد محمد النقيب العطاس ومهدي جلشاني وتلاميذهم المنتشرون في ماليزيا وإيران وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية. وواضح أنَّ هذه الرؤية تقوم على الفلسفة التأملية، وتتجاوز المحددات الأخلاقية للعمل في الكون إلى ميتافيزيقا محددة، ترى الطبيعة كائناً ذا أهمية روحية Spiritual. ولذلك فليس غريباً أن ترى هذه الفلسفةُ أنَّ العلم المعاصر الذي يفتقد القدسية يقود الإنسانية إلى الهاوية. وهي تلتقي في هذا المجال مع كثير من العلماء الذين ينطلقون من فلسفة تحليلية مخالفة تماماً، من حيث توقعاتهم لمصير الإنسان في الكوكب الأرضي في ضوء المشكلات المنظورة وغير المنظورة وغير المعترف بها.
وترتبط جهود تصنيف العلوم بقضية وحدة المعرفة وتكاملها، فقد كان اكتشاف النظام القائم بين الحقول المعرفية والعلاقات فيما بينها هدفاً أساسياً لجهود كثير من علماء المسلمين، من مختلف التوجهات الفكرية، وشارك في ذلك الفلاسفة وعلماء الكلام وأقطاب الصوفية والفقهاء والمؤرخون وغيرهم. ويُعدُّ موضوع تصنيف العلوم واحداً من المفاتيح المهمة في فهم التراث الفكري الإسلامي. ويمكن النظر إلى جهود العلماء في التاريخ الإسلامي في هذا المجال على أنَّها محاولات لبيان صور مختلفة من العلاقة بين هذه العلوم، على أساس أنَّ هذه العلاقة هي معيار التصنيف. ومن الطبيعي أن تأخذ هذه العلاقة أحد اتجاهين: اتجاه بيان عناصر الارتباط والتجميع والوحدة، أو اتجاه بيان عناصر الاختلاف والتمايز والتعدد، وفي بعض الأحيان يلزم الأخذُ بالاتجاهين معاً.
لكنّ فكرة تصنيف العلوم موغلة في القِدم، وأكثر الأفكار التصنيفية القديمة التي لا تزال متداولةً، في الحديث عن أصناف العلوم والمعارف، تقوم على تصنيف العلوم حسب معيار التجريد، كما وردت عند أرسطو. فالعلوم الأكثر تجريداً هي الأعلى رتبة والأكثر أهمية من العلوم العملية. والملاحظة الأساسية هنا هي محاولة الفصل بين العلوم وتأكيد استقلاليتها وترتيبها في الأهمية.
وعلى الرغم من أنَّ بعض العلماء المسلمين قد تأثروا بهذا الأساس التصنيفي، وبخاصة أولئك الذين اتبعوا المنهج الفلسفي الأرسطي، إلا أنَّ معظم العلماء كانوا أكثر أصالة عندما سعوا إلى أن يكون التصنيفُ في المنظور الإسلامي انعكاساً للرؤية الإسلامية الكلية ومتطلباتها. فمثلاً انطلقت تصنيفات: الفارابي وابن القيم وطاش كبرى زاده وابن حزم وابن خلدون من النظر الواقعي إلى العلوم التي نشأت في البيئة الإسلامية، وتنظيمها في هيكل تصنيفي يخدم الأغراض التربوية التعليمية. ومع تعدُّد العلوم وتنوُّعها فإنَّ الجهود الإسلامية في تصنيفها ركزت على الخصائص المميزة للرؤية الإسلامية، ومنها: المنطقية في الترتيب، والاتساق الداخلي، والتتابع في الأهمية، والتواصل في المحتوى، والتكامل من حيث حاجة بعضها إلى الآخر، ووحدة توجهها في خدمة الحقيقة الدينية الإسلامية.
وعلى الرغم من الاختلافات المهمة بين معايير التصنيف عند علماء المسلمين ومدارسهم المعرفية –مثلاً الفارابي من المدرسة المشائية، والغزالي من المدرسة الكلامية والصوفية، وقطب الدين الشيرازي من المدرسة الإشراقية- فإنَّ أعلى مستويات المعرفة عندهم هي معرفة الله سبحانه. ومن أجل معرفة الله يسعى الإنسان إلى اكتساب العلوم الأخرى. ومن ثَمَّ فإنَّ كل المعارف الأخرى غير معرفة الله يجب أن تتواصل وتتكامل وتترابط ترابطاً عضوياً بمعرفة الله. ولمّا كانت كلُّ العلوم تأتي في النهاية من المصدر الإلهي، فإنَّ هذا يشكل -عند هؤلاء العلماء- الأساسَ المشترك لتكامل المعرفة ووحدتها في نهاية المطاف.
ثانياً: مبدأ التوحيد أساس مفهوم التكامل المعرفي
لا يختلف علماء المسلمين في أنَّ التوحيد هو أساس الإسلام، وهو الذي يعطي للحضارة الإسلامية هُويَّتَها. ويعترف كثير من العلماء غير المسلمين أيضاً بأنَّ مفهوم التوحيد في الإسلام متميِّز تماماً عن مفهومه في الديانات التوحيدية الأخرى، سواءً في تصوُّره للإله الواحد أو بانعكاسات هذا التصور على علاقة الخالق بالمخلوقات.
ويُفرِد إسماعيلُ الفاروقي كتاباً مستقلاً عن التوحيد، يُبيَّن فيه تكاملَ الرؤية التوحيدية وجمعَها بين الأبعاد الحضارية: الفلسفية والعملية. وتمتزجُ ملاحظتُه لقضية الوحدة والتكامل بين فروع المعرفة بقدر واضح من التخفُّف من الأحمال التي عرفها التراث الإسلامي باسم الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وينصرف جهدُه في هذا الشأن إلى التحريض على إصلاح الفكر الإسلامي والواقع الإسلامي المعاصر.
فالتوحيد -عند الفاروقي كما هو عند سائر علماء المسلمين- هو رؤيةٌ عامة إلى الحقيقة والكون والزمان والمكان والتاريخ الإنساني والمصير. وينسحب مبدأ التوحيد على مجمل نظام الحياة الشمولي في الإسلام. فالإسلام لا يَقْسم العالَمَ إلى مقدَّس ومدنَّس، ولا يُصنِّف قيمَ الحياة إلى ديني وعلماني، ولا يميِّز بين الناس على أنّهم رجال دين ورجال دنيا؛ فكل هذه التصنيفات في نظر الإسلام تصنيفات مصطنعة، تنتمي من ناحية تاريخية إلى تقاليد غير إسلامية.
كذلك يؤثِّر مبدأ التوحيد في كلِّ عناصر الحضارة الإسلامية، ويُقِيمُ بينها روابط محددة، وتتم إعادة الصياغة والشمول التي يحدثها الإسلام في كل عنصر من عناصر حضارته بدرجة تتراوح في العمق، من تحويل بسيط في حالة الشكل والصورة إلى تغيير جذري في حالة الوظيفة؛ لأنَّ الوظيفة هي التي تكوّن العلاقة الجوهرية. وعندما طور المسلمون علم التوحيد، جمعوا فيه مجالات المنطق ونظرية المعرفة والغيب والأخلاق.
ويميِّز التوحيدُ الإسلامي تميييزاً حاسماً بين الخالق المتعالي، والكون المخلوق. وإرادةُ الخالق هي التي تحدد وجودَ المخلوقات وسلوكَها ونظامها. وتتمثل حقيقةُ التوحيد في أنَّ الكون قائمٌ على الانتظام في السلوك، دون اضطراب أو فساد، مما يشير إلى وحدة المرجعية في هذا النظام، وهي الخالق الواحد سبحانه. ولو كان في الكون آلهة متعددة لاضطرب الكون وفسد أمره؛ لأنَّه لا يستطيع أن يأتمر بأمر سيدين في الوقت نفسه، ولذلك كان توحيد الله يمثل المقام الأعلى في الدين، وله الميزة العظمى في اعتقاد الإنسان وفي جزائه.
ويفترض الاعتراف بوحدانية الله-بالضرورة- الاعتراف بوحدة الحقيقة. فالحق والحقيقة صفة تقتضيها حقيقة التوحيد. ويبيّن الفاروفي كيف يقوم التوحيد -بوصفه مبدأ منهجياً يقتضي وحدة الحقيقة- على ثلاثة مبادئ فرعية تتعلق بطبيعة المعرفة التي يكتسبها الإنسان من مصادرها: الأول رفض جميع ما لا يوافق الحقيقة، والثاني إنكار التناقض، والثالث الانفتاح على الأدلة الجديدة.
فالمبدأ الأول يستبعد الباطل والوهم والظن من دائرة الاعتقاد الإسلامي ويبقي المجال مفتوحاً للنقد والتمحيص. والابتعاد عن الحقيقة أو الفشل في التوافق معها يكفي لرفض أي شيء في الإسلام سواء كان تشريعاً أو مبدأً أخلاقياً شخصياً أو اجتماعياً أو أي صيغة لفهم العالم. وهذا يحمي المسلم من آثار الرأي والهوى؛ فأي زعم لا يصحبه الدليل ليس إلا ظناً لا يغني من الحق شيئاً. فالمسلم إنسان محدد لا يقول إلا الحقيقة الواضحة، ولا يقبل غير الحقيقة حتى لو خالفت هواه، أو اصطدمت بمصالحه الشخصية أو مصالح ذوي قرباه.
والمبدأ الثاني يتعلق بعدم التناقض، ويمثل هذا المبدأ جوهر العقلانية وبغيره لامناص من الشك. فالتناقض النهائي يعنى أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها. صحيح أن التناقض قد يقع في تفكير الإنسان وقوله. وقد يبدو التناقض في فهمنا الظاهري بين الوحي والعقل. وإذا كان الإسلام ينكر الإمكانية المنطقية لهذا التناقض، فإنه في الوقت نفسه يقدم توضيحاً للكيفية التي يمكن إزالة التناقض لو أنّه اختلط بفهمنا.
ويرى الفاروقي ’’أنه لا العقل ولا الوحي يسيطر أحدهما على الآخر، فلو قدم الوحي فإنه ينتفي المبدأ الذي يميز نصاً من نصوص الوحي عن نص آخر، أو يميز فكرتين يقدمهما الوحي حول موضوع واحد. وعندها لا يسهل حل ما يبدو من تناقض أو عدم انسجام في فهمنا لنصوص الوحي. إن نصوص الوحي نفسها تتصف بالانسجام الداخلي. والفهم الصحيح لها يحول دون وجود التناقض. ولكن نصاً ما من نصوص الوحي ربما يبدو مناقضاً للعقل أي لبعض نتائج الفحص والإدراك العقلي. وعندما يحدث ذلك فإن الإسلام يعلمنا أن التناقض ليس هو النهاية، ويحيل الباحث إما لمراجعة فهمه للوحي أو لنتائج بحثه العقلي أو للأمرين معاً.
ومع رفضنا لفكرة وجود تناقض نهائي فإنّ مبدأ التوحيد -بوصفه تعبيراً عن وحدة الحقيقة- يدعونا أن نعود إلى مسألة التناقض بهدف النظر فيها مرة أخرى؛ إذ إن بعداً معيناً ربما فاتنا النظر إليه، فإذا أخذناه بعين الاعتبار فربما يحل التناقض. إنّ التوحيد يتطلب من قارئ الوحي -وليس من الوحي نفسه- أن يجرب قراءة أخرى للوحي في مسألة التناقض، تزيل اللبس وتوضح المعنى غير المفهوم، فإذا حصل ذلك فإن التناقض يحسم. فمراجعة العقل أو الفهم ربما تؤثر في بناء الانسجام ليس بين نصوص الوحي نفسها، فإن هذه النصوص تستعلي على أية عملية تطويع بشرية، وإنما بين تفسير الإنسان وفهمه لهذه النصوص. بناء الانسجام هذا يجعل فهمنا للوحي يتفق مع البيّنات المتجمعة والمكتشفة عن طريق العقل. فقبول احتمال وجود التناقض لا يستهوى أكثر من ضعفاء العقل. إن الإنسان المسلم هو عقلاني عندما يصر على وحدة نوعي مصادر المعرفة الوحي والعقل.’’
ويبدو أنَّ الفاروقي يلتقي في هذا الموقف مع ابن تيمية، ويستبعد حاجتنا إلى الأخذ بآراء الرازي وابن رشد وأمثالهما من الفلاسفة المسلمين وغيرهم من المتكلمين، الذي يفترضون احتمال وجود التعارض بين النقل والعقل ويعدّون العقل هو المرجعية؛ لأنَّ به يفهم النقل. كما يستبعد حاجتنا إلى الأخذ بآراء الغزالي حول الموضوع نفسه، الذي يوافق الفلاسفة والمتكلمين في احتمال وقوع التعارض، ويقدم النقل على العقل في المرجعية.
أما المبدأ الثالث للتوحيد بوصفه تعبيراً عن وحدة الحقيقة، فهو التفتُّح لقبول البيّنات الجديدة أو المخالفة. هذا المبدأ يحمي المسلم من الحاجة إلى المذاهب الأخرى الليبرالية، والتطرف أو المحافظة المؤدية إلى التجمد والسكون، وترتفع به إلى التواضع الفكري، وتفرض عليه النطق بعبارة ’’الله أعلم’’؛ لأنه مقتنع بأن الحقيقة أكبر من أن يحيط بها الإنسان في أي وقت.
وكما أنَّ التوحيد هو إثبات الوحدة المطلقة لله عز وجل، فإنَّه أيضاً إثبات الوحدة لمصادر الحقيقة، فالله خالق الطبيعة التي يأخذ الإنسان منها المعرفة ﮋﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﮊ (يونس: 5-7). فموضوع المعرفة هو أشياء الطبيعة وأحداثها التي هي خلق لله. فمن المؤكد أنَّ الله سبحانه يعلمها، ومن المؤكد بنفس القدر أنّ الله مصدر الوحي، وهو الذي يعطي الإنسان شيئاً من علمه الواسع المحيط المطلق الكامل.
ثمّ إنّ التوحيد يدعو الإنسان إلى الربط بين الإيمان بالله الخالق من جهة، وممارسة العلم في ميادينه المختلفة من جهة أخرى؛ ذلك أنَّ الإنسان عندما يدرك فِعْلَ الله في كل الأحداث والأشياء فإنَّه يتتبّع فعل الخلق الإلهي، فعندما يشاهد فِعْلَ الله في الطبيعة فإنَّه يمارس العلوم الطبيعية؛ فالخلق الإلهي في الطبيعة ليس إلاّ السنن والقوانين التي أودعها الله في هذه الطبيعة. وعندما يشاهد الإنسان فعل الخلق الإلهي في نفسه أو مجتمعه، فإنَّه يمارس العلوم الإنسانية والاجتماعية. وإذا كان الكون بأجمعه يتكشَّف -من خلال سعي الإنسان وبحثه- عن فعل تلك القوانين والسنن باعتبارها أوامر الله وإرادته، فإنّ الكون في نظر المسلم هو ’’مسرح حيّ خلقه الله سبحانه بأمره وفعله.’’
وفي مقابل منهج الفاروقي في بيان أثر التوحيد في وحدة المعرفة وتكاملها، يقدم سيد حسين نصر وعددٌ من تلاميذه مدخلاً آخر، يتفق مع ما يقرُّه جميع العلماء المسلمين من أهمية مبدأ التوحيد، والترتيب الهرمي للعلوم، وعدّ التوحيد أعلى صور المعرفة والغاية النهائية من جميع المساعي الفكرية للإنسان المسلم، لكنَّه يختلف في التركيز الكبير على العلوم الطبيعية دون العلوم الأخرى، والإعلاء من شأن الفلسفة والميتافيزيقا الإسلامية التقليدية، التي يرون أنَّها كانت المدخل لفهم العلاقة بين المعرفة العلمية والمعرفة الدينية. ولذلك فإنَّهم يستخدمون المصطلحات الميتافيزيقية التي استخدمها الرازي وابن سينا والشيرازي وإخوان الصفا وغيرهم.
أحد هذه المصطلحات مثلاً هو ’’علم الكونيات’’ أو ’’المعرفة الكونية’’ cosmological knowledge الذي يستخدم مدخلاً إلى دراسة الطبيعة، وهو فرع من الميتافيزيقا، يقارن فيه الكون الطبيعي الكبير بالكون الإنساني الصغير، وتكون مشاهدة الطبيعة فيه هي مشاهدة لفعل الخالق، وأن مشروعية دراسة هذه العلوم باستمرار تعتمد على تعبيرها عن الاتصال والتداخل والتكامل ضمن الوحدة الكلية للخلق الإلهي. ويكون العلم الذي يتسق مع روح الإسلام هو العلم الذي يسعي في نهاية المطاف إلى تكامل الجزئيات ضمن الكل الواحد، ويأخذ مشروعيته من العقيدة الأساسية في الإسلام وهي التوحيد بجميع معانيه. ومهما تعددت التفسيرات ومستويات التفكير يبقى المبدأ القائل بأن العالم المخلوق يتكون من وحدة المتوحدات، بينما الإله الخالق يتفرد بوحدانيته الصمدانية.
إنَّ الارتباط العضوي بين العلم والمعرفة الغيبية التوحيدية يعني أنَّ العلم متضمن ومتكامل في المعرفة التوحيدية؛ لأنَّ الوحي الإلهي هو مصدر المعرفة الغيبية عن العالَم التعددي الذي تتعامل معه العلوم، ومع ذلك فإن الأدوات المفاهيمية للتكامل تحتاج إلى أن تشتق من المعرفة الكونية. وهذه المعرفة الكونية قادرة على إعطاء ’’أدوات التكامل المفاهيمي’’؛ لأنَّ هدف التكامل هو توفير العلم الذي يعرض تكامل جميع الأشياء وعلاقة مستويات الهرمية أو الترتيب في الكون ببعضها وبالملأ الأعلى. وعليه فإنَّها توفر معرفة تسمح بتكامل المتعددات في وحدة واحدة.
ويسلك عثمان بكر –وهو من تلاميذ سيد حسين نصر- المنهج نفسه في استخدام مصطلح ’’المعرفة الكونية’’ ذات ’’الطبيعة الروحية’’، فالقوانين التي تحكم الأنظمة المختلفة في الخلق ليست على درجة واحدة في العمومية والمبدئية، وثمة ترتيب هرمي لهذه العمومية والمبدئية، فالقوانين البيولوجية مثلاً أعلى رتبة من القوانين الكيميائية والفيزيائية؛ لأن القوانين البيولوجية تتعلق بالمجال البيولوجي الذي يمتلك حقيقة وجودية أعلى مما تمتلكه القوانين الأخرى. لكن هذه القوانين البيولوجية نفسها خاضعة لمجموعة أعلى من القوانين الكونية ذات الطبيعة الروحية، وعند محاولة توحيد القوانين المعروفة في الفيزياء والبيولوجيا بصورة موضوعية؛ فإن بالإمكان الوصول إلى نقطة لا تملك بعدها إلا أن تأخذ بالاعتبار قوانين لأنظمة غير طبيعية. وبمعنى آخر لا بدّ من إدراك حدود التعميم والشمولية التي تعمل فيها القوانين الطبيعية.
إن العلوم الطبيعية والرياضية هي علوم محددة تتعلق بمجالات محددة من الحقيقة. بينما الحقيقة العليا للتوحيد هي علم ميتافيزيقي يتعلق بالغيب. وهو أكثر العلوم عمومية؛ لأنه يتعلق بالحقيقة العليا التي تشتمل على كل الحقائق الأخرى. وبين المعرفة العليا للتوحيد والعلوم المحددة يوجد نوع من المعرفة يسمى المعرفة الكونية. ونعني بالمعرفة الكونية هنا ذلك العلم الذي يتعلق ببنية الكون ومحتواه النوعي. وفي العلوم الإسلامية التقليدية كان علم الكون جزءاً من (الميتافيزيقا) الإسلامية كما في إحصاء العلوم للفارابي. ومنه تشتق العلوم الأخرى المحددة. وهذه المعرفة الكونية هي التي تشكل الإطار المفاهيمي لوحدة العلوم المادية والروحية.
وعلى المنهج ذاته يستخدم عثمان بكر مصطلح ’’المعرفة الروحية’’spiritual knowledge و’’النفس الكونية’’ universal soul، فالمعرفة الروحية تشير إلى معرفة الإله ووحدانيته. وهذه المعرفة لا تتعلق بالضرورة بذات الخالق سبحانه، فهو أمر منهي عن التفكير فيه، ولكنَّها تتعلق بآثار الخالق وفعله في صور الحقيقة المختلفة التي تتبدى في جميع أجزاء الكون المخلوق. ويؤكد أنَّ المحتوى الإسلامي لمعرفة المسلم عن الخالق سبحانه هو معرفة الكون بوصفه أثراً من آثار الخالق وفعله. ومعرفة العلاقة بين الله الخالق والكون المخلوق، أو بين مبدأ الألوهية وتمظهرات الكون، تشكل الأساس الأكثر أهمية لوحدة المعرفة العلمية والمعرفية الروحية.
ويتطلب فهمُ هذه العلاقة الرجوعَ إلى مصدر المعرفة الأساسي في الإسلام، وهو الوحي الذي يتضمن القرآن والسنة النبوية. ويعدُّ القرآن بالنسبة للمسلم منبعَ الطاقة الفكرية والروحية في الوقت نفسه، ومن ثَمَّ منبع جميع المعارف والعلوم، ليس لأنَّ فيه محتوى المعرفة نفسها، وإنَّما لأنَّه يوحي إلى المسلم برؤية متميزة حول وحدة مجالات المعرفة. وفكرة هذه الوحدة هي نتيجة لفكرة وحدة الألوهية وتطبيقاتها في ميادين المعرفة البشرية. فالإنسان يكتسب المعرفة من مصادر مختلفة وبأساليب متنوعة. ولكنَّ جميع المعارف تأتي في النهاية من الله العليم. فالرؤية القرآنية تؤكد أنَّ معرفة الإنسان للأشياء المادية والمسائل الروحية ممكنة؛ لأنَّ الله أعطى للإنسان القدرات الضرورية لامتلاك المعرفة.
إنَّ علم الكونيات عند علماء المسلمين يتطلب أن يتمَّ التعامل مع العالَم الطبيعي بصورة غير منفصلة عن الأنظمة الأعلى من الحقيقة. ويؤكدون على علاقة الموجودات الروحية الغيبية عند دراسة العالَم الطبيعي، وكذلك فإنَّ العلوم البيولوجية على علاقة وثيقة بعوالم الغيب؛ فمسألة أصل الحياة على الأرض لا يمكن حلُّها بدلالة الموجودات الطبيعية وحسب؛ لأنَّ الحياة ليست وجوداً مادياً طبيعياً، إنَّما قدرة أو طاقة حيوية اخترقت عالَم الأشياء المادية. أمَّا النشاطات الفيسيولوجية الجُُزيْئِيَّة المرتبطة بصور الحياة فليست مصدر الحياة نفسها، وإنَّما هي تمثلات للحياة في المستوى الطبيعي. والمبدأ الكوني الإسلامي الذي يعدُّ أساساً لفهم لغز الحياة هو فكرة ’’النفس الكلية’’. إنَّ هذه النفس الكونية هي روح النظام الطبيعي. وهي بالنسبة للنظام الطبيعي مثل روح الإنسان بالنسبة لجسده.
هذه الروح الكلية هي التي تعطي الطاقة الحيوية للكون كله مما تراه في حياة النباتات والحيوانات. هذه الروح الكلية في مخلوقات الله سبحانه وعلاقتها بمعرفة الإنسان عن وظائف الكون وطاقاته وخصائصه وعلاقاتها بالنظام الطبيعي، لا يُستَغْني عنها في تكامل العلوم البيولوجية، وهي كما هو واضح أثر لاعتقادنا بالتوحيد.
إنّ أهمية تطوير علم الكونيات وعلاقته بوحدة المعرفة لا يستدعي التخلي عن الطريقة التجريبية والأدوات الحديثة في البحث والاستقصاء العلمي، التي أظهرت نجاحها في الدراسة الكمية للطبيعة. ولكنها تستدعي تغيرات جوهرية في اتجاهاتنا الحديثة نحو الحقيقة والمعرفة. إنَّ قبول فكرة علم الكونيات له أثر كبير على منهجية البحث؛ إذ يجب على الطريقة العلمية أن تتخلى عن الزعم بأنَّها الطريقة الوحيدة لمعرفة الأشياء ونعترف بوجود طرق أخرى للمعرفة.
ثالثاً: التكامل المعرفي في الرؤية الكونية الإسلامية
ينطلق الحديث عن التكامل المعرفي في سياق هذه الورقة من الرؤية الكونية الإسلامية التي مكنت العقل المسلم من تطوير الفهم السليم للكون والحياة والإنسان. والرؤية الكونية مصطلح فلسفي حديث يعني النظرة الشاملة إلى العالَم التي تأخد بعين الاعتبار جميع الأجزاء والعناصر والمكونات والنظم بعين الاعتبار، فهي رؤية لحقائق الأشياء في إطارها الأشمل، وهي قواعد وأطر مرجعية للفكر والسلوك ضمن نظام القيم العام للمجتمع، وهي الصورة التي يدرك فيها العقل الإنساني حقائق الكون والحياة والإنسان، وإجابات الأسئلة الوجودية والمعرفية والقيمية بخصوص هذه الحقائق والعلاقات بينها.
والعقل الإنساني بطبيعته يميز الأشياء المتعددة والمنفصلة بخصائصها المميزة لكل منها، وهو يدركها أيضاً على أنَّها تنتمي إلى فئة أو مجموعة من الأشياء التي تمثّل وحدة أكبر، وتوجد في إحداثيات محددة للزمان والمكان، وبينها علاقات معيّنة. مثل هذه الخصائص يدركها العقل الإنساني فيما يتعلق بأشكال السلوك الإنساني وقضايا المجتمع البشري وقيم الدين وغيرها.
فأيُّ سلوك أو نشاط بشري يقوم به الفرد أو يسود الجماعة في مجتمع ما، يتمُّ فهمه في ضوء رؤية كونية كلية تحكمه وتشكّله، ’’أي أنَّ الصورة المنعكسة في أذهاننا عن الوجود لها تأثير مباشر في عملنا وسلوكنا الاجتماعي وحياتنا الفردية والاجتماعية؛ أي أنَّ كل شخص يعيش وفق رؤيته للكون.’’
والرؤية الكونية في إطارها الإسلامي تعبير عن التصور الاعتقادي الكلي الذي تقدمه العقيدة الإسلامية، ويتضمن هذه التصور تفسيراً شاملاً للوجود وقضاياه وحقائقه، وينبثق عن هذا التصور منهج الحياة الواقعي للإنسان ودستور نشاطه في ضوء فهم الإنسان لمركزه في الكون وغاية وجوده الإنساني في هذا الكون.
ومِن أشمل ما كتب حول التكامل المعرفي في ضوء الرؤية الكونية الإسلامية تلك الدراسة التفصيلية التي تبناها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بعنوان: ’’التكامل المعرفي وتطبيقاته في المناهج الجامعية’’، وقد أنجزها أبو بكر محمد أحمد إبراهيم، في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا ونشرها المعهد بعد إنجازها، وقد اعتمد الباحث على تحليل نقدي لكثير من الكتابات ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بمفهوم التكامل المعرفة والمفاهيم ذات العلاقة به، ولا سيّما مفهوم إسلامية المعرفة، كما تضمَّنت الدراسة مقابلات أجراها الباحثُ مع عدد من الباحثين والمفكرين، ثم قدَّم عرضاً للبرامج الأكاديمية والممارسات التعليمية في ’’كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية’’ في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وهي الكلية التي تبنت مفهوم التكامل المعرفي ومارسته. وقد توصل إلى أنَّ التكامل المعرفي يرتبط إلى حد كبير بإسلامية المعرفة،’’ وإذا جاز وصف إسلامية المعرفة بأنَّها رؤية، فإنَّ التكامل المعرفي يجوز وصفه بأنَّه حالة تتسم بها العملية التعليمية في المؤسسات الأكاديمية التي تتبنى تلك الرؤية.’’
أما الرؤية نفسها فهي في حقيقتها رؤية كونية تستدعي مشروعاً إصلاحاً فكرياً حضارياً من منظور إسلامي. ويتطلب هذا المشروع ثلاث خطوات أساسية: الخطوة الأولى هي: إعادة فهم مصادر الإسلام في ضوء القيم الحاكمة والمقاصد العامة، ونقد التراث الذي دار حول هذه المصادر على أساس تلك القيم والمقاصد. والخطوة الثانية هي التفاعل الإيجابي مع المعرفة الإنسانية المعاصرة والكشف عمَّا تمثله هذه المعرفة من حقائق الفطرة والسنن والوقائع والطبائع، مع إعمال المنهج التحليلي النقدي لتخليص هذه المعرفة مما علق بها من إحالات فلسفية تتناقض مع تلك الحقائق. وتتَّصف هاتان الخطوتان بطبيعة تحليلية تفكيكية. أمَّا الخطوة الثالثة فهي صياغة المعرفة الراهنة وإنتاج معارف جديدة ضمن الرؤية الكونية الإسلامية تقوم على التكامل بين هداية الوحي وسنن الفطرة، وسعي الإنسان لفهم الكون الطبيعي والاجتماعي والنفسي، وتتصف هذه الخطوة بأنَّها ذات طبيعة تركيبية إبداعية، قادرة على الخروج بالإنسان المسلم والأمة المسلمة من حالة التخلف، وليس ذلك فحسب، وإنَّما الانتقال بالإنسان المسلم والأمة المسلمة إلى موقع الإسهام الحضاري المتميز وترشيد الحضارة الإنسانية.
والتكامل المعرفي بهذا المعنى ليس عملية معرفية وحسب، وإنَّما هي عملية نفسية تربوية تستهدف تحرير العقل المسلم وتربي الوجدان المسلم وتنمي دافعية المسلم للإنجاز والإبداع والإصلاح.
وقد أصدر عبد الحميد أبو سليمان مجموعة من الأعمال التي استهدفت تحليل أزمة العقل المسلم وأزمة الإرادة الوجدان المسلم، واقتراح الإجراءات العلاجية اللازمة لمعالجة هذه الأزمات. ثم نشر كتاباً مستقلاً حول ’’الرؤية الكونية الحضارية الإسلامية’’ التي كان متلبساً بها ’’ولو بشكل غير واع ولا كامل’’ حين أنجز كتاباته السابقة. ويوضح الكتاب في كثير من المواقع البعد التوحيدي والتكاملي في الرؤية الكونية، فهي: ’’رؤية شمولية علمية سننية، وهي رؤية إيجابية ورؤية حبٍّ وخير وتسخير وإعمار، وهي تمثل أساس تفعيل القوة والدافعية الإعمارية لدى الإنسان المسلم؛ الذي تتضافر في تكوينه وفطرته السوية وفقاً للرؤية القرآنية قوى الحب والضمير والعقل والمعرفة، وقوى الإرادة الخيرة، والوجدان السليم، وقوى العقيدة الصحيحة، والإيمان الصادق، ليجسد الإنسان المسلم فطرياً، كلَّ ذلك في واقع المجتمع وعلاقاته التوحيدية التكاملية، وفي بناء صرح الحضارة الإنسانية الإعمارية الروحانية الخيّرة.’’
لقد استطاع العقل المسلم أن يطوّر فهماً واضحاً سليماً للكون والحياة والإنسان عبر رؤية إسلامية كونية شمولية، تضمنت قراءة متدبرة لكتابين متلازمين: كتاب منظور هو الكون بأشيائه وأحداثه وظواهره وعلاقاته التي ذللت لاستخلاف الإنسان في الأرض، وكتاب مسطور هو القرآن بهديه وعلمه وحكمته وأحكامه. وقد قرأ العقل المسلم الكون الطبيعي والاجتماعي والنفسي بعقله وحسه، واستدخل في هذه القراءة عالمي الغيب والشهادة لتوظيف علمه ومعرفته بالكون؛ لبناء أسس حضارة إنسانية راشدة متميزة عما سبقها ولحقها من حضارات. كما قرأ الوحي الكريم قراناً وسنة قراءة رواية ودراية. وقد تحقق التكامل المعرفي في هاتين ’’القراءتين المتدبّرين المتلازمتين’’ من ظلال الجمع بين جوانب الكون المادي (مثل الأشياء والأحداث والظواهر) والكون الاجتماعي (مثل سنن التغيير والتدافع والتداول) والكون النفسي (مثل الهدى والفجور والإيمان والثقافة والكفر) والجمع بين جوانب الوحي القرآني والسنة والرواية والدراية، والجمع بين توظيف أدوات المشاهدة الحسية، وفعل العقل في الإدراك والفهم والتفسير. والجمع بين جانب الشهادة في كل الكون المنظور والكتاب المسطور، وجانب الغيب في أصل الكون وصيرورته، وفي علم الوحي وأخباره ورواياته.
ونتيجة لهذا الجمع بين القراءتين تحقق لهذه الأمة: ’’الريادة والشهادة والخيرية والقيادة، وبقيت تتمتع بذلك ردحاً من الزمان حتى طال عليها الأمد، وقست القلوب فاستوردت من الأمم الأخرى التي لم تحسن غير قراءة ظاهر من الحياة الدنيا معركة العقل والنقل، فاختلت قراءتها واضطرب فهمها وتخلف إدراكها، وبدأت مسيرة تراجعها...’’
والرؤية الكونية القرآنية هي التي تمكنت من بناء جيل الصحابة رضوان الله عليهم، فحققوا بها ما حققوه من ’’إنجاز حضاري كان لمنطلقاته القرآنية أعظم الأثر في تجديد الحضارة الإنسانية وارتقاء العقل السنني والأخلاقي إلى آفاق علمية وإنسانية سامية واسعة، بدأ معها عهدٌ جديد من التعامل مع السنن الكونية في التسخير والإبداع المادي، وفي الوعي بوجوب التزام القيم والغايات الروحية والأخلاقية في تسخير تلك السنن الكونية وترشيد مسيرة الإنسان الحضارية.’’ ’’ومن دون هذا الوضوح وهذا التكامل في الرؤية والبناء، والتزام المنهج الإسلامي العلمي السنني، الذي يقوم على تكامل مصادر المعرفة الإسلامية في الوحي والفطرة والسنن والواقع، والتزام ميزان العقل العلمي السنني الموضوعي، فإنَّه لا فائدة ولا جدوى من الجهود المجزأة العشوائية التي لا تدرك طبيعة المنظومة الإسلامية الحضارية، ولا القوانين التي تحكم تفاعلها مع بيئتها، وتمثل مدخلاتها، والذي كان ذلك الجهل والغفلة العلمية الفكرية من أهم أسباب فشل جهود الإصلاحيين في إحياء الأمة، واستنهاضها على الرغم من تعدد تلك المحاولات، ومضي القرون، والحال لا يزال هو الحال...’’ وهذه الرؤية ’’تنطلق من مفهوم توحيد الذات الإلهية المطلق، ومن مبدأ التوحيد تنطلق الرؤية القرآنية إلى مبدأ التوحُّد والتكامل في فهم علاقات الكون والحياة... وأن بناء الكون والحياة والإنسان؛ وحدة في تنوُّع متكامل، وتنوُّع متكامل في وحدة.’’
ويمكن أن نلاحظ أنَّ الرؤية الكونية الإسلامية توظِّف في تعاملها مع مسألة التكامل المعرفي مدخلاً توحيدياً فريداً. هذا المدخل التوحيدي هو مدخل قرآني خالص، يبدأ من وحدة الإله الخالق، ووحدة الكون المخلوق، ووحدة الإنسان المستخلف، ووحدة العطاء الإلهي للإنسان بتعليمه الأسماء، ثم بتواصل الوحي الإلهي لهداية الإنسان بالكلمة المسطورة: ﮋﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮊ (الأعراف: 26-27) ويتواصل الوحي الإلهي أيضاً بالواقعة المشهودة: ﮋﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅﮊ (المائدة:31)
ويتضمن المدخل التوحيدي إقامة التقابل والتكامل والتداخل بين الوحي الإلهي في الكتابين المسطور والمنظور، الأمر الذي تتلاشى معه مشكلات التقابل بين العقل والنقل. كما يتضمن ذلك إقامة التكامل بين علوم الوحي كما يفهمها الإنسان، والعلوم المكتسبة في مجال الكون الطبيعي والاجتماعي والنفسي، بوصفها من ضرورات الاستخلاف والتمكين في الكون والعمران البشري. ويبدو أنَّ استعمال هذا المدخل في السعي لتحقيق التكامل يميل بالإنسان نحو الوسطية في الأمور، فلا تطرُّف بين العناصر أو الاتجاهات المتقابلة: الفرد والجماعة، المادة والروح، الدنيا والآخرة، الذات والآخر، الحق والواجب، المسؤولية والجزاء.
ومع ذلك فإنَّ التكامل بين العلوم المختلفة لا يعني أنَّها جميعاً في مرتبة واحدة من حيث علاقتها بالحقيقة أو من حيث أهميتها وأولويتها. فتكامل أعضاء الجسم البشري في أدائها لوظائفها لا تجعل أطراف الجسم في أهمية القلب أو الدماغ مثلاً.
ومع أنَّ الله سبحانه هو المصدر النهائي للمعرفة، إلا أنه عز وجل أتاحها للإنسان من خلال مصدرين لا ثالث لهما: الوحي والكون، وزوَّد الإنسان بأداتين لا ثالث لهما: العقل والحس. ويعمل العقل في المصدرين معاً من أجل فهمهما وتوظفيهما في تحقيق الاستخلاف الإنساني في الأرض، وكذلك يعمل الحس في المصدرين معاً من خلال توظيف أدوات الحس في المشاهدة والتجريب في أشياء الكون وأحداثه وظواهره، وتوظيف الإدراك الحسي لدلالات نصوص الوحي في الخبرة البشرية.
وتتضح الرؤية الكونية التوحيدية من الربط الدائم بين المجالات المعرفية التي يتحدث عنها القرآن الكريم، إلى الحد الذي تكاد تختفي فيه الحدود الفاصلة بين هذه المجالات وتختفي معها أيضاً اهتمامات المسلم في حياته الفعلية، فالآيات القرآنية تصل الدنيا بالآخرة وعالَم الغيب بعالَم الشهادة، وهكذا. لكنَّ الأهم من ذلك هو بيان الوحدة والتكامل بين مصادر المعرفة وغاياتها. ولعلّ من أهم ما يبين ذلك استعمال لفظ (آية) في القرآن لتدلّ على العبارة المسطورة في المصحف، وعلى الظاهرة الكونية المنظورة في المجال المادي أو الاجتماعي أو النفسي. فعندما يدعو القرآن الكريم إلى السير في الأرض للنظر والبحث في بدء الخلق، فكأنَّ الله سبحانه يربط قصة خلق الإنسان كما روتها الآيات القرآنية، بما قد يجده الإنسان في علوم الحياة وطبقات الأرض والمستحاثات وأمثالها. وعندما يدعو إلى السير في الأرض والنظر في مصائر الأقوام والحضارات السابقة ليأخذ العظة الحاضرة، فإنَّ ذلك يعني أنَّ الهداية التي يريد القرآن للإنسان أن يحصل عليها، مع أنَّها فضلٌ من الله ورحمة، لكنَّه يمكن أن يستعين في اكتسابها بهذا الجهد المعرفي المتمثل في السير والبحث في التاريخ والآثار والأديان المقارنة وعلم الاجتماع وغير ذلك. وبالمثل عندما يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، أي علوم الكون وعلوم النفس، فإنَّه يبني علاقة التكامل بين هذه العلوم وعلوم الوحي.
قال الإمام الرازي المفسر رحمه الله تعالى: ’’روي أنَّ عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي (لمؤلفه بطليموس في القرن الرابع قبل الميلاد) على أستاذه عمر الأبهري، فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرؤه، فقال (عمر): أفسِّر آيةً من القرآن وهي قوله تعالى ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ ق6؛ فأنَا أفسِّر كيفية بنيانها، ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإنَّ كلَّ من كان أكثر توغلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمته.’’
وقد أكَّد ابنُ رشد مسألة التكامل هذه في غير ما موقع من أعماله المعروفة، يقول: ’’فإنَّ الموجودات، إنَّما تدلُّ على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنَّه كلَّما كانت المعرفة بصنعتها أتمّ كانت المعرفة بالصانع أتمّ.’’ ثم يقول: ’’وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحثَّ على ذلك، فبيَّن أنَّ ما يدلُّ عليه هذا الاسم إمَّا واجب بالشرع، وإمَّا مندوب إليه. فأمَّا أنَّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به فذلك بيِّنٌ في غير ما آية من كتاب الله تبارك وتعالى، مثل قوله: ﮋﯡ ﯢ ﯣﮊ (الحشر:2)... ومثل قوله: ﮋﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ...ﮊ (الأعراف: 185) وهذا نصٌّ بالحثِّ على النظر في جميع الموجودات... فيجب على المؤمن بالشرع الممتثل أمره بالنظر في الموجودات أن يتقدم قبل النظر فيعرف هذه الأشياء التي تتنـزل من النظر منـزلة الآلات من العمل... .’’
كما عالج أبو حامد الغزالي مسألة الوحدة البنائية في المعرفة، وأكَّد على الآيات القرآنية التي تتحدث عن أنّ النجوم لا تفهم إلا بمعونة علم الفلك، والآيات التي تتعلق بالصحة لا تفهم إلا بعلم الطب. يقول أبو حامد: ’’...ثُمَّ إنَّ هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها، ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإنَّها جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار الله تعالى وهو بحر الأفعال... فمِنْ أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلاً الشفاء والمرض...وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله... ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان...ولا يعرف حقيقة الشمس والقمر بحسبان وخسوفهما وولوج الليل في النهار وكيفية تكور أحدهما على الآخر إلا من عرف هيئات تركيب السموات والأرض، وهو علم برأسه...’’
وعلى ما بيْن الغزالي وابنِ رشد من تفاوت في الموقف المعرفي، فإنَّهما يلتقيان في الدعوة إلى تكامل المعرفة، وإن كان الغزالي يرى التكامل في البنية المعرفية نفسها integrality، بينما يراها ابن رشد في حاجة العلوم إلى بعضها بعضاً complementarity.
أمّا ابن تيمية فقد استفاض في بحث مسألة العلوم التي يأتي بها العقل سواءً الفلسفية أو الطبيعية، بالمقارنة من النصوص النقلية، وذلك في كتاب متخصص من كتبه بلغ حجمه أحد عشر مجلداً. وخلاصة موقفه أنّه يستحيل وجود التعارض بين نوعي العلوم أصلاً؛ فما هو من صريح المعقول لا يتناقض من صحيح المنقول. يقول ابن تيمية: ’’وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدتُ ما خالفَ النصوصَ الصحيحة الصريحة شبهات يُعلم بالعقل بطلانها، بل يُعلم بالعقل ثبوت نفيضها الموافق للشرع.’’
رابعاً: محاذير ومعيقات في طريق التكامل المعرفي:
ثَمَّة حاجةٌ فطرية ملحة ودائمة عند الإنسان إلى تصنيف الأشياء وتنظيمها في فئات، وتحليلها إلى أجزائها وتجميع هذه الأجزاء، إلخ. ولعلّ هذه الحاجة هي التي قادت ولا تزال تقود إلى تشكيل الحقول المعرفية وفروعها الدقيقة. ومن المعروف أنَّ أكثر الاكتشافات العلمية والصناعية في العهود الأخيرة من تاريخ العلم والتكنولوجيا كانت تأتي من جهود علماء متخصصين يعملون في مجالات تخصصاتهم الضيقة. صحيح أنَّ كلَّ عالِم منهم ربَّما كان لديه العقل المهيئ للاكتشاف، لكنَّ أياً منهم لم يكن بحاجة في الغالب إلى أكثر من إتقان تخصصه والاطّلاع على جهود البحث فيه. ومهما كان سعي علماء آخرين يعملون على حدود هذه الحقول المتخصصة وعَبْرَها، محاولين تأكيد عناصر الوحدة بين العلوم، يجب أن لا نتجاهل حقيقة أنَّ علماء التخصصات الدقيقة سوف يستمرون في تحقيق إنجازات علمية مهمة. وستبقى هذه الحقيقة تدفع الغالبية العظمي من العلماء -والشباب منهم بخاصة- إلى إثبات وجودهم في العمل المتخصص الدقيق، وربَّما يشعرون بأنَّ العمل في مجالات التكامل والتداخل والتوحيد يكون على حساب فرص التنافس والتفوق العلمي، الأمر الذي يهدد مستقبلهم.
ويتعزز هذا التخوف من جانب آخر، حين تتجه بعض جهود التكامل المعرفي الرامية إلى معالجة مشكلات الإغراق في التجزئة المعرفية بطريقة تنتج شخصيات تفهم الأمور بطريقة سطحية، ولا تكون نتائج التكامل مشجعة. فليس أكثر معوقاً للتقدم من أولئك الثرثارين الذين يكثرون الكلام حول العموميات في أي موضوع، لكنهم لا يستطيعون الدخول في عمق أي منها.
ومن المحاذير التي يخشى الوقوع فيها أن تتجه جهود بعض المؤيدين لجهود التكامل -تحت ضغط البحث عن مواقف تدعم مقولات الوحدة والتكامل- إلى التفتيش عن صلات بين العلوم أو علاقات بين البيانات لا وجود حقيقياً لها. وقد تأتي هذه الجهود بنتائج عبثية ومضحكة، كما قد تتلّون بعض النتائج بمظاهر الصرامة المنهجية والرطانة التخصصية، لتخفي سطحيتَها وتهافتَها. لكنَّ الأخطر من ذلك أن تأتي بعض النتائج من قبيل الميل الطبيعي عند الإنسان للوقوع على ما يبحث عنه ويتوقع الحصول عليه، فيقع في المحذور دون وعي به، وهذا ما يُصَنَّف في البحوث ضمن مهددات الصدق الخارجي للتصاميم البحثية.
وتعدُّ صعوبة وجود علماء يقدمون نماذج للبحث العلمي ضمن رؤية وحدة العلوم وتكاملها، أحد المعيقات المهمة في تعميم العمل ضمن هذه الرؤية وتوسيع مجال تطبيقاتها. وتَظهر هذه الصعوبة بوجه خاص عند البحث عند مدرسين يحسنون تدريس مادة معينة من منهجية التخصصات المتداخلة interdisciplinary، أو المنهجية العابرة للتخصصات cross-disciplinary.
قد يكون من أخطر ما يقف عائقاً أمام الأفكار الجيدة، والمدى الذي يمكن أن تتحقق فيه، سوء فهم دعاة هذه الأفكار أو سوء تمثيلها وتطبيقها، فالرغبة الصادقة في الانتساب إلى الفكرة والدعوة إليها لا تكفي لإقناع الآخرين وتوفير الظروف المناسبة لتطبيق الفكرة، إذا لم يتوافر إضافة إلى ذلك حسن الفهم والتمثيل والإعداد الفني القادر على إنتاج متميز. فمن بين صور سوء الفهم: الظنُّ بأن التكامل المعرفي يتحقق مثلاً بوضع برنامج دراسي جامعي يتمكن فيه الطالب من دراسة مواد من ميادين معرفية مختلفة مثلاً مواد شرعية ومواد اجتماعية، على أمل أن يتمَّ التكامل في البنية الفكرية للطالب. ومن هذه الصور أن يتضمن الكتاب المنهجي على المادة المتخصصة من المعرفة الراهنة بصياغاتها المعاصرة المبنية على منطلقات ربَّما تكون غير منسجمة مع التفكير الديني، ويتضمن في الوقت نفسه نصوصاً من المصادر الدينية يُظَنُّ أنَّ لها علاقة بالمادة المتخصصة، أو إسهامات العلماء والمفكرين المسلمين في التاريخ حول موضوع المادة. هذا التجميع لا يعني بالضرورة تكاملاً معرفياً، وإنَّما هو جمع جبري، ربَّما يكون تشويهاً للموضوع، وربَّما يقود إلى نتائج معاكسة لما كان يتوقع للتكامل المعرفي أن يحققه.
وعندما تُبذل الجهود الكافية وتتوافر الإرادة المطلوبة للتعامل مع العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، على أساس إبراز الوحدة التكامل بينها في برامج التعليم، فسوف تجد الجامعاتُ نفسَها بحاجة ماسة إلى إعادة تصميم برامجها، بحيث يكون المتخصص في المجالات العلمية مثلاً أكثر قدرة على اتخاذ قرارات حكيمة في بحثه في قضايا العلوم وفي تصميمه لتطبيقاتها في الصناعة والأعمال والخدمات، وبحيث يكون المتخصص في العلوم الإنسانية والاجتماعية قادراً على المشاركة الواعية في الاختيار الحكيم واتخاذ الموقف إزاء قضايا ذات علاقة بالعلوم.
وسوف تقفز بعض التخصصات وبعض الحقول المعرفية، وبخاصة تلك المتعلقة بطبيعة الفكر الإنساني، وتاريخ العلوم، والاقتراض الثقافي، وطبيعة القيم، ومبادئ الأخلاق، وعلم الجمال، وأنماط التنمية البيئية والبشرية، والأديان المقارنة، وغيرها من الموضوعات، التي تَطرح أسئلةً جوهرية حول الوجود الإنساني: أصله وسيرورته ومصيره، إلى دائرة الاهتمام والنظر في تصميم البرامج المناهج الدراسية.
إنَّ على التعليم الجامعي أن يوضح للطلبة أنَّ الخريجين الذين سيعملون في المهن المختلفة في العقود التي أمامهم من مطلع القرن الحادي والعشرين، لن تكفي فيها وفرة المعلومات. فقد أصبح الحصول على المعلومات ميسراً، وسوف يصبح أكثر يسراً مع تزايد اتجاهات عولمة التعليم العالي. ’’إننا نغرق في المعلومات ونموت جوعاً إلى الحكمة.’’ وعندها ستكون الحاجة إلى نوع آخر من المهارة والكفاءة. إنَّها التركيب والتأليف بين المعلومات المطلوبة في الوقت المطلوب، والتفكير النقدي فيها، ووزن البدائل المحتملة، وعمل الاختيارات الحكيمة.
إنَّ مهمة توحيد العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الطبيعة ليست مهمة سهلة بالتأكيد. ولكن كم من المهام البالغة الصعوبة أمكن تذليلها؟ لقد أصبحت العمليات الجراحية في القلب المفتوح، وتصميم سفن الفضاء، وتحديد خريطة المورثات البشرية، إجراءات روتينية، مع أنَّها مهمات في غاية الصعوبة من حيث طبيعة المعارف اللازمة لإتقان مهاراتها، وحجم الجهود المتكاتفة والمتكاملة لتنفيذها، والأموال الطائلة اللازمة للإنفاق عليها. وقد تَمَّ ذلك لإنَّ إدارة حازمة كانت وراءها، وعلماء يمتلكون الكفاءة تفرغوا لها.
خامساً: معادلة التكامل المعرفي
هذه المعادلة هي محاولة لتلخيص مجمل ما يمكن فهمه عن مصادر المعرفة وأدواتها من منظور إسلامي، والربط بين العناصر المختلفة التي يمكن أن يتضمنها ذلك الفهم. وتتكون هذه المعادلة من قسمين الأول هو المصادر والثاني هو الأدوات، وصفة التكامل المعرفي في المنظور الإسلامي تظهر في ثلاثة مستويات: تكامل المصادر، وتكامل الأدوات، وتكامل المصادر والأدوات.
فللمنهجية من منظور إسلامي مصدران لا ثالث لهما هما: الوحي والوجود، وأيُّ تعامل معرفي ومنهجي في هذا المنظور لا بدَّ فيه من مراعاة التكامل بين المصدرين؛ لأنَّ الإنسان المخلوق في هذا الوجود لا يملك إلا أن يتعامل معه في مستوياته الثلاثة: الوجود الطبيعي والوجود الاجتماعي والوجود النفسي. والإنسانُ يتعامل مع مستويات الوجود بصرف النظر عن مرجعياته الفكرية والدينية. والإنسانُ المسلم الذي يؤمن بالوحي الإلهي هو في موقع التكليف والتمكين للتعامل مع الوجود في ضوء هداية الوحي، وهدايةُ الوحي هي في الأساس ترشيد لوعي الإنسان حول الوجود وسعيه فيه.
تلك هي حقيقة التكامل بين الوحي والوجود بوصفهما مصدرين للمعرفة والتعامل المنهجي.
وللمنهجية من منظور إسلامي أداتان لا ثالث لهما، هما العقل والحسّ، وليس ثَمَّة طريقة لعمل الحس دون عمل العقل، وليس ثَمَّة وسيلة للعقل في أن يمارس عمله خارج إطار الواقع المحسوس، حتى إنَّ القضايا الذهنية المجردة يتصورها العقل البشري في سياق خبرته الحسية، ويُنصح العقل في الإطار الإسلامي أن لا يبذل أيَّ جهد فيما لا طائل من ورائه، أو لا ينبي عليه عمل، فالله سبحانه ’’ليس كمثله شئ’’ لذلك لا داعي للتفكير في ذاته، وحسب الإنسان أن يفكر في مخلوقات الله التي تدل عليه سبحانه.
وتلك هي حقيقة التكامل المعرفي بين العقل والحسّ.
وتظهر المعادلة أنَّ استمداد المعرفة من مصدر الوحي يتطلب عمل كلٍ من العقل والحسّ معاً، كذلك فإنَّ استمداد المعرفة من الوجود يتطلب عمل كل من العقل والحسّ معاً.
وتلك هي حقيقة التكامل المعرفي بين المصادر والأدوات.
والمخطط الآتي يحاول تمثيل هذه الأنواع الثلاثة من التكامل.

الو


خاتمة
كثير من الذي تحدَّثوا عن وحدة المعرفة (أو وحدة العلوم) سواءً من علماء الطبيعة أو المتخصصين في الفلسفة أو تاريخ العلوم أو الأديان، يشتركون في رؤية هذه الوحدة على صورة اختزالية تجمع جميع أنواع المعارف والعلوم في نهاية المطاف في نوع واحد من هذه العلوم: العلوم الطبيعية أو العلوم الدينية مثلاً. ويتم هذا الاختزال من خلال تفسير حقائق العلوم ونظرياتها أو تحديد المرجعية الأخيرة في هذا التفسير أو بدلالة وحدة المنبع الذي تصدر عنه هذه العلوم.
ويستندُ الاعتقاد بهذا النوع من الوحدة –عادةً- إلى رؤية كونية شمولية، وتشتركُ هذه الرؤية في بعض عناصرها، وتتفاوتُ في عناصر أخرى حسب طبيعة المرجعية الميتافيزيقية التي يصدر عنها العلماء. ولا تظهر نتائج القول بوحدة العلوم أو تكاملها في السياق العلمي التطبيقي بشكل واضح، وإنَّما تكون كامنةً مستترة في صياغة هذه العلوم من خلال تعبيرات مفتاحية تدل عليها دلالة غير مباشرة، أو من خلال التحليل التفصيلي العميق للافتراضات الفلسفية الكامنة وراء النص.
ونظراً لتعدُّد مفاهيم الوحدة والتكامل بين العلوم وارتباطها بمرجعيات ميتافيزيقية، فإنَّ هذه المفاهيم يصاحبها في كثير من الأحيان قدْرٌ من التشويش بصورة لا تتحقق من ورائها أغراض عملية مهمة. وربَّما يكون مصطلح التكامل أكثر وضوحاً في دلالته من مصطلح الوحدة، وبخاصة إذا كان التكامل يعني أنَّ علماً معيناً يحتاج إلى أن يتكامل مع علم آخر أو أكثر، من أجل تطويره وتقدمه؛ أو يعني حاجة الإنسان في فهمه لعلم معين إلى علوم أخرى تعين في تحقيق هذا الفهم. وتبدو مسألة التكامل في هذه الحالة أكثر وضوحاً، ويكون المفهوم مفتوحاً بحيث تضاف إليه أبعاد جديدة كلما لزم. فمثلاً يسهل القول بضرورة تكامل جهود العلماء من التخصص العلمي نفسه، الذين يسعون إلى حل مشكلة علمية معينة وتحقيق إنجاز فيها. ويكون التكامل هنا منصباً على اجتماع الجهود الفردية للعلماء؛ لبناء رؤية جماعية أكثر عمقاً واتساعاً وموضوعية، مما يعين في تحقيق إنجاز ملموس، ويسهِّل أمر قبوله والاعتراف به من (الجماعة العلمية). ومثال ذلك ما ذكره محمد عبد السلام في خطاب تسلمه لجائزة نوبل في الفيزياء عام 1979؛ إذ ذكر أسماء أكثر من خمسين عالماً في مجال البحث المتخصص في الفيزياء الذي حصل فيه على الجائزة. وقد أشار إلى أنّ هؤلاء العلماء بَنَوْا على أعمال بعضهم بعضاً وتحاوَرُوا واختلفوا واتفقوا، وقد جرَّب بعضهم مقولات الآخرين واختبرها، قبل أن يصل عبد السلام وزملاؤه إلى نظريتهم في توحيد القوى.
وقد يعني التكاملُ المعرفي تكاملَ جهود العلماء من تخصصات مختلفة، ولكنَّها ضرورية لمعالجة مشكلة معينة، وبخاصة في القضايا الاستراتيجية الكبيرة والتطوير العلمي والتكنولوجي المعاصر في مجالات مثل الطب وغزو الفضاء، وقد يتعلق أحدُ الجوانب الأساسية في هذا النوع من التكامل بإدارة المشروع العلمي وتنظيم أدوار العاملين فيه، لتوفير المعلومة الضرورية لكل خطوة من خطوات المشروع وفي الوقت المناسب، إضافة إلى مواجهة الطوارئ والمستجدات.
ويمكن التوسع في بيان صور التكامل ليتضمن ذلك تكامل جهود العلماء في الأجيال المختلفة، بحيث يبني كل جيل على خبرة الجيل الذي سبقه، حتّى إنّه ليصعب تصور تحقيق إنجازات جيل لاحق لو لم يعتمد على إنجازات الجيل السابق. وكذلك الأمر في تكامل جهود الشعوب والأمم؛ إذ ينبئُنا التاريخ أنَّ حضارة أيَّةِ أمَّةٍ كانت في الغالب نتيجة التفاعل والاستيعاب والاقتراض الثقافي والحضاري من الأمم الأخرى، المعاصرة لها أو السابقة عليها. وفي هذا المجال يرى أبو الوليد ابن رشد أنَّه يلزم الاستعانة ببعض العطاء الفكري والعلمي الذي توصل إليه اليونانيون، وأنَّ كونهم وثنيين لا يمنع من الانتفاع بالحقائق العلمية التي كشفوا عنها، وذلك حتى نوفِّر على أنفسنا كثيراً من الجهود، ونبدأ من حيث انتهى الآخرون. وليس من السهل على فرد واحد، أو جيل واحد، أو أمة واحدة، أن تحصِّل كلَّ ما يلزم لبناء العمران البشري. وبلفظ ابن رشد: إنَّه ’’عسيرٌ أو غير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقائه على جميع ما يحتاج إليه من ذلك.’’
وعلى كل حال فإنَّ التمييز بين وحدة العلوم وتكاملها لا يثبت صفة لينفي أخرى، فالقول بوحدة العلوم لا ينفي تكاملها، وكذلك العكس، لكنَّ استخدام أحد المفهومين يتعلق بمنهج المعالجة، فيكون القولُ بوحدة العلوم أقربَ إلى وصف العلاقة بين هذه العلوم على المستوى الوجودي (الأنتولوجي)، وتتوجَّه المعالجةُ وجهةً ميتافيزيفية نظرية؛ بينما يكون القولُ بالتكامل أقربَ إلى وصف العلاقة بين العلوم على المستوى المعرفي (الإبيستمولوجي)، وعندها تأخذ معالجةُ الموضوع وجهةً منهجية عملية وتعليمية.
والله أعلم.
*المعهد العالمي للفكر الإسلامي
أضافة تعليق