شمول الأحكام التكليفية جميع الأفعال البشرية
د. مرفق آل ياسين
كل ما يقوم الإنسان بفعله أو تركه من الأقوال والأعمال المقصودة -التي عَمَدها من غير سهوٍ أو غفلةٍ أو انعدام أهليةٍ- فإنها لا تخلو من أحد الأحكام الخمسة التكليفية، التي جاءت على وزان الأفعال البشرية، وبناءً على هذه الكلية عرّف ابن العربي أفعال المكلفين بأنّها: حركاتهم التي تتعلق التكاليف بها، والمباح خامسها([1])، ويقول الرملي: «قولهم: لا يخلو فعلٌ من الأحكام الخمسة، محله في فعل المكلف»([2])، وكلُّ حكمٍ من هذه الأحكام التكليفية التي لا يخلو منها حادثةٌ ولا فعلٌ مقصودٌ للمكلفين؛ واحدٌ متعيّنٌ لله تعالى، سواءً اتفق أو اختلف في العلم به المجتهدون، كما أن جهة الكعبة واحدةٌ متعينةٌ سواءً اتفق أو اختلف في معرفتها المتّجهون، فالحق في كلّ مسألةٍ علميةٍ أو عمليةٍ واحدٌ لا متعددٌ، وحكم الله تعالى في كل كائنةٍ ونازلةٍ سابقٌ نظر المجتهدين، وليس الحكم عنده ما أدى إليه نظرهم، ولكل حكمٍ تكليفيٍّ من هذه الأحكام الاجتهادية المتعينة عند الله تعالى دليلٌ شرعيٌّ، كلّف الله تعالى المجتهدين بالوصول للأحكام عن طريقه ومن خلاله، وإصابته ممكنةٌ؛ لهذا كلفهم به، فمن أصاب الحكم المقصود لله تعالى عن طريق الدليل الشرعي فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن اجتهد في معرفته من خلال أدلته فأخطأ فمعذورٌ؛ لبذله ما بوسعه، ومأجورٌ؛ لاجتهاده([3])، ولن أُفصِّل أقوال وأدلة جميع ذلك خشية الإطالة، وسأكتفي بالأدلة على أن لكل فعلٍ بشريٍّ حكمٌ تكليفي، وهي كالتالي.
1- قال تعالى: ﭐﱡﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ...ﱠ [البقرة: ٢٨٦]، فكلَّ فعلٍ بشريٍّ كسبيٍ [أي: مقصود مقدور] لا يخلو من حكمٍ تكليفيٍّ، فإنّ "ما" في قوله تعالى: ﭐﱡﲭ ﲮ ﲯﱠ، اسم موصول بمعنى الذي يعم كل فعلٍ فيه منفعةٌ واجبةٌ أو مندوبةٌ أو مباحةٌ، و "ما" في قوله تعالى: ﭐﱡﲰ ﲱ ﲲﱠ، اسم موصول بمعنى الذي يعم كل فعلٍ متضمّنٍ مفسدةً محرمةً أو مكروهةً، ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى: ﱡﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ ﲢ ﲣ ﲤ...ﱠ [الإسراء: ٧]، وقوله: ﱡﭐﳜ ﳝ ﳞ ﳟﳠ ﳡ ﳢ ﳣﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﳨﳩﱠ [فصلت: ٤٦]، وقد مثلّ الماتريدي لعموم قوله تعالى: ﱡﭐﳜ ﳝ ﳞ ﳟﱠ: «كمن عمل في الدنيا من الأكل والشرب؛ فلنفسه يعمل، ومن جنى من جناياتٍ؛ فعلى نفسه جنى في الدنيا والآخرة؛ حيث تهلك به نفسه، ويرجع إليه وبال ذلك في الدنيا والآخرة»([4]).
2- قال تعالى: ﱡﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡﳢﱠ [النساء: ٥٩]، دلت الآيةُ الكريمةُ أن لله تعالى حكمٌ في كل حادثةٍ وفي مقدمتها حوادث ووقائع الأفعال البشرية، ووجه الدلالة: أن الله أمرنا بالطاعة في أحكام كل الحوادث المنصوصة، وأما الوقائع غير المنصوصة المختلف فيها؛ فإنها لا تخلو من أحد قولين: إما أن تكون مردودةً إلى ما يُشبهها من المنصوص، فيكون حكم الله فيها حكم المنصوص، وإما أنّه لا حكم لله تعالى في الحوادث المختلف فيها غير المنصوصة، وهو خلاف الآية، لأن أمر الله تعالى لم يأمر عباده -عند التنازع- بالرد إلى الكتاب والسنة إلا وفيهما دليلٌ على الحكم في كل حادثةٍ متفقٍ عليها أو مختلفٍ فيها، فلم يبق إلا ردها إلى ما يشبهها وهو حكم الله فيها([5]).
3- قال تعالى: ﱡﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱠ [المائدة: ٣]، فكما أن كمال حكم الله الكوني يعم كل ذرةٍ في التكوين، فإن كمال حكمه الديني يعم كل حادثةٍ من أفعال المكلفين، ما كان منها وما سيكون، قال الزركشي: «الآية صريحةٌ في أن الله تعالى قد أكمل لنا الدين أصولاً وفروعاً وبيّن لنا جميع أحكام الوقائع ما كان منها، وما يكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»([6])، والإباحة لا تخرج عن خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، ولا عن شمول كمال الشريعة والدين.
4- قال تعالى: ﱡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪﲫﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵﱠ [الأنعام: ١٦٢–١٦٣] فكل أعماله المنوطة بالموت والحياة ومنها الإباحة لا ينبغي أن تخلو من كونها لله، وما كان لله فهو لا يخرج عن أمره الديني والكوني: ﱡﲰ ﲱﱠ، فكما أن الأمر الكوني بخلق الإنسان مختصٌّ بالله تعالى، فلا تخرج عن خلقه وحكمته ذرةٌ من الأكوان، كذلك لا يخلو من الأمر الديني فعلٌ مقصودٌ للإنسان، والأمر في الآية يعم كل تقديرٍ في الكون والطبيعة، وكل حكمٍ في الديت والشريعة، ومنها ما ورد من أمره بالإباحة، فهي وإن كانت بمعنى الإذن والتخيير بين الفعل والترك، إلا إنها لا تخرج عن الخطاب بما تقتضيه المصلحة، كما أن مقتضى إسلامه القيام بالدين وامتثاله على كماله وتمامه: ﱡﲲ ﲳ ﲴﲵﱠ قال ابن العربي: «الآية: مقام التسليم لله ودرجة التفويض إلى الله بناء عن مشاهدة توحيدٍ، ومعاينة يقينٍ وتحقيق؛ فإن الكل من الإنسان لله أصلٌ ووصفٌ، وظاهرٌ وباطنٌ، واعتقادٌ وعملٌ، وابتداءٌ وانتهاءٌ، وتوقفٌ وتصرفٌ، وتقدمٌ وتخلفٌ، لا شريك له فيه، لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه»([7]).
5- قال تعالى: ﱡﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ...ﱠ [الأعراف: ٣٢]، فكل ما يتزين به الإنسان، وكل ما يستطاب فهو حلال، ومقتضى الآية الكريمة هو حل كل منفعةٍ، ولكل واقعةٍ وفعلٍ حكمٌ ودليلٌ؛ لأن كل فعلٍ وواقعةٍ تقع لا تخلو من أن يكون:
1- النفع فيها خالصاً أو راجحاً، وهو النافع الحلال الذي اقتضاه مطلق الآية.
2- الضرر خالصاً أو راجحاً، كانت المنفعة في تركه؛ لخروجه عن وصف الطيبات؛ فيلتحق بالقسم المتقدم.
3- يتساوى الضرر والنفع، أو لا وجود لهما، ففي هاتين الصورتين وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وبهذا الطريق صارت جميع أحكام الأفعال والوقائع التي لا نهاية لها داخلةً تحت النص في الحل والحرمة([8]).
6- قال تعالى: ﱡﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ...ﱠ[النحل: ٨٩]، وقال تعالى: ﱡ...ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ...ﱠ[يوسف: ١١١]، فجاء القرآن الكريم تبياناً وتفصيلاً لكل شيءٍ: «فلم يترك شيئًا من أمور الدين، وقواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله، إلا بينه وبلّغه على كماله وتمامه»([9])، وأولى هذه الأشياء بالبيان والتفصيل أحكام أفعال المكلفين المقصودة: «إذ إن ضبطها حسب أوامر الله، هو المقصود، الأول من نزول القرآن»([10])، والإباحة أوسع أبواب الشريعة، وأكثر أفعال البشرية، فهي أحقها بشمول بيان وتفاصيل التكليف، وأفعال البشرية متجددةٌ بتجدد الحوادث الحاصلة، والوقائع النازلة، لهذا جاءت الشريعة مستوفيةً بيان أحكام تلك المستجدات التكليفية؛ ليبقى التكليف شاملاً جميع أفعالهم الثابتة المتكررة، والنازلة المتغيرة، قال الإمام الشافعي: «فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها»([11]).
7- عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)([12])، فمباح الكلام لا يخلو من حكمٍ تكليفيٍّ؛ قال ابن حجر: «ومعنى الحديث أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدةٌ ولا يجر إلى محرمٍ ولا مكروهٍ فليتكلم، وإن كان مباحاً فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم»([13]).
8- عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: (كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ)([14])، فكلام المكلفين لا يخرج جزءٌ منه عن حكمٍ تكليفي، فهو إما له ويشمل ما يجب عليه أو يندب له فعله، أو أباحه الله لمنفعته، وإما عليه وهو ما حرمه الله أو كره فعله.
د. مرفق آل ياسين
كل ما يقوم الإنسان بفعله أو تركه من الأقوال والأعمال المقصودة -التي عَمَدها من غير سهوٍ أو غفلةٍ أو انعدام أهليةٍ- فإنها لا تخلو من أحد الأحكام الخمسة التكليفية، التي جاءت على وزان الأفعال البشرية، وبناءً على هذه الكلية عرّف ابن العربي أفعال المكلفين بأنّها: حركاتهم التي تتعلق التكاليف بها، والمباح خامسها([1])، ويقول الرملي: «قولهم: لا يخلو فعلٌ من الأحكام الخمسة، محله في فعل المكلف»([2])، وكلُّ حكمٍ من هذه الأحكام التكليفية التي لا يخلو منها حادثةٌ ولا فعلٌ مقصودٌ للمكلفين؛ واحدٌ متعيّنٌ لله تعالى، سواءً اتفق أو اختلف في العلم به المجتهدون، كما أن جهة الكعبة واحدةٌ متعينةٌ سواءً اتفق أو اختلف في معرفتها المتّجهون، فالحق في كلّ مسألةٍ علميةٍ أو عمليةٍ واحدٌ لا متعددٌ، وحكم الله تعالى في كل كائنةٍ ونازلةٍ سابقٌ نظر المجتهدين، وليس الحكم عنده ما أدى إليه نظرهم، ولكل حكمٍ تكليفيٍّ من هذه الأحكام الاجتهادية المتعينة عند الله تعالى دليلٌ شرعيٌّ، كلّف الله تعالى المجتهدين بالوصول للأحكام عن طريقه ومن خلاله، وإصابته ممكنةٌ؛ لهذا كلفهم به، فمن أصاب الحكم المقصود لله تعالى عن طريق الدليل الشرعي فله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ومن اجتهد في معرفته من خلال أدلته فأخطأ فمعذورٌ؛ لبذله ما بوسعه، ومأجورٌ؛ لاجتهاده([3])، ولن أُفصِّل أقوال وأدلة جميع ذلك خشية الإطالة، وسأكتفي بالأدلة على أن لكل فعلٍ بشريٍّ حكمٌ تكليفي، وهي كالتالي.
1- قال تعالى: ﭐﱡﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ...ﱠ [البقرة: ٢٨٦]، فكلَّ فعلٍ بشريٍّ كسبيٍ [أي: مقصود مقدور] لا يخلو من حكمٍ تكليفيٍّ، فإنّ "ما" في قوله تعالى: ﭐﱡﲭ ﲮ ﲯﱠ، اسم موصول بمعنى الذي يعم كل فعلٍ فيه منفعةٌ واجبةٌ أو مندوبةٌ أو مباحةٌ، و "ما" في قوله تعالى: ﭐﱡﲰ ﲱ ﲲﱠ، اسم موصول بمعنى الذي يعم كل فعلٍ متضمّنٍ مفسدةً محرمةً أو مكروهةً، ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى: ﱡﲝ ﲞ ﲟ ﲠﲡ ﲢ ﲣ ﲤ...ﱠ [الإسراء: ٧]، وقوله: ﱡﭐﳜ ﳝ ﳞ ﳟﳠ ﳡ ﳢ ﳣﳤ ﳥ ﳦ ﳧ ﳨﳩﱠ [فصلت: ٤٦]، وقد مثلّ الماتريدي لعموم قوله تعالى: ﱡﭐﳜ ﳝ ﳞ ﳟﱠ: «كمن عمل في الدنيا من الأكل والشرب؛ فلنفسه يعمل، ومن جنى من جناياتٍ؛ فعلى نفسه جنى في الدنيا والآخرة؛ حيث تهلك به نفسه، ويرجع إليه وبال ذلك في الدنيا والآخرة»([4]).
2- قال تعالى: ﱡﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜﳝ ﳞ ﳟ ﳠ ﳡﳢﱠ [النساء: ٥٩]، دلت الآيةُ الكريمةُ أن لله تعالى حكمٌ في كل حادثةٍ وفي مقدمتها حوادث ووقائع الأفعال البشرية، ووجه الدلالة: أن الله أمرنا بالطاعة في أحكام كل الحوادث المنصوصة، وأما الوقائع غير المنصوصة المختلف فيها؛ فإنها لا تخلو من أحد قولين: إما أن تكون مردودةً إلى ما يُشبهها من المنصوص، فيكون حكم الله فيها حكم المنصوص، وإما أنّه لا حكم لله تعالى في الحوادث المختلف فيها غير المنصوصة، وهو خلاف الآية، لأن أمر الله تعالى لم يأمر عباده -عند التنازع- بالرد إلى الكتاب والسنة إلا وفيهما دليلٌ على الحكم في كل حادثةٍ متفقٍ عليها أو مختلفٍ فيها، فلم يبق إلا ردها إلى ما يشبهها وهو حكم الله فيها([5]).
3- قال تعالى: ﱡﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱠ [المائدة: ٣]، فكما أن كمال حكم الله الكوني يعم كل ذرةٍ في التكوين، فإن كمال حكمه الديني يعم كل حادثةٍ من أفعال المكلفين، ما كان منها وما سيكون، قال الزركشي: «الآية صريحةٌ في أن الله تعالى قد أكمل لنا الدين أصولاً وفروعاً وبيّن لنا جميع أحكام الوقائع ما كان منها، وما يكون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها»([6])، والإباحة لا تخرج عن خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين، ولا عن شمول كمال الشريعة والدين.
4- قال تعالى: ﱡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪﲫﲬ ﲭ ﲮﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴﲵﱠ [الأنعام: ١٦٢–١٦٣] فكل أعماله المنوطة بالموت والحياة ومنها الإباحة لا ينبغي أن تخلو من كونها لله، وما كان لله فهو لا يخرج عن أمره الديني والكوني: ﱡﲰ ﲱﱠ، فكما أن الأمر الكوني بخلق الإنسان مختصٌّ بالله تعالى، فلا تخرج عن خلقه وحكمته ذرةٌ من الأكوان، كذلك لا يخلو من الأمر الديني فعلٌ مقصودٌ للإنسان، والأمر في الآية يعم كل تقديرٍ في الكون والطبيعة، وكل حكمٍ في الديت والشريعة، ومنها ما ورد من أمره بالإباحة، فهي وإن كانت بمعنى الإذن والتخيير بين الفعل والترك، إلا إنها لا تخرج عن الخطاب بما تقتضيه المصلحة، كما أن مقتضى إسلامه القيام بالدين وامتثاله على كماله وتمامه: ﱡﲲ ﲳ ﲴﲵﱠ قال ابن العربي: «الآية: مقام التسليم لله ودرجة التفويض إلى الله بناء عن مشاهدة توحيدٍ، ومعاينة يقينٍ وتحقيق؛ فإن الكل من الإنسان لله أصلٌ ووصفٌ، وظاهرٌ وباطنٌ، واعتقادٌ وعملٌ، وابتداءٌ وانتهاءٌ، وتوقفٌ وتصرفٌ، وتقدمٌ وتخلفٌ، لا شريك له فيه، لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه»([7]).
5- قال تعالى: ﱡﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ...ﱠ [الأعراف: ٣٢]، فكل ما يتزين به الإنسان، وكل ما يستطاب فهو حلال، ومقتضى الآية الكريمة هو حل كل منفعةٍ، ولكل واقعةٍ وفعلٍ حكمٌ ودليلٌ؛ لأن كل فعلٍ وواقعةٍ تقع لا تخلو من أن يكون:
1- النفع فيها خالصاً أو راجحاً، وهو النافع الحلال الذي اقتضاه مطلق الآية.
2- الضرر خالصاً أو راجحاً، كانت المنفعة في تركه؛ لخروجه عن وصف الطيبات؛ فيلتحق بالقسم المتقدم.
3- يتساوى الضرر والنفع، أو لا وجود لهما، ففي هاتين الصورتين وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وبهذا الطريق صارت جميع أحكام الأفعال والوقائع التي لا نهاية لها داخلةً تحت النص في الحل والحرمة([8]).
6- قال تعالى: ﱡﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ...ﱠ[النحل: ٨٩]، وقال تعالى: ﱡ...ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ...ﱠ[يوسف: ١١١]، فجاء القرآن الكريم تبياناً وتفصيلاً لكل شيءٍ: «فلم يترك شيئًا من أمور الدين، وقواعده، وأصوله، وشرائعه، وفصوله، إلا بينه وبلّغه على كماله وتمامه»([9])، وأولى هذه الأشياء بالبيان والتفصيل أحكام أفعال المكلفين المقصودة: «إذ إن ضبطها حسب أوامر الله، هو المقصود، الأول من نزول القرآن»([10])، والإباحة أوسع أبواب الشريعة، وأكثر أفعال البشرية، فهي أحقها بشمول بيان وتفاصيل التكليف، وأفعال البشرية متجددةٌ بتجدد الحوادث الحاصلة، والوقائع النازلة، لهذا جاءت الشريعة مستوفيةً بيان أحكام تلك المستجدات التكليفية؛ ليبقى التكليف شاملاً جميع أفعالهم الثابتة المتكررة، والنازلة المتغيرة، قال الإمام الشافعي: «فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها»([11]).
7- عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)([12])، فمباح الكلام لا يخلو من حكمٍ تكليفيٍّ؛ قال ابن حجر: «ومعنى الحديث أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدةٌ ولا يجر إلى محرمٍ ولا مكروهٍ فليتكلم، وإن كان مباحاً فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم»([13]).
8- عن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: (كَلَامُ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرُ اللَّهِ)([14])، فكلام المكلفين لا يخرج جزءٌ منه عن حكمٍ تكليفي، فهو إما له ويشمل ما يجب عليه أو يندب له فعله، أو أباحه الله لمنفعته، وإما عليه وهو ما حرمه الله أو كره فعله.
([1]) انظر: المحصول (ص21).
([2]) نهاية المحتاج (6/230).
([3]) انظر: نهاية السول (ص399)، شرح التلويح (2/236)، البحر المحيط (8/296)، الغيث الهامع (ص707).
([4]) مجموع الفتاوى (7/50).
([5]) انظر: الذب عن مذهب الإمام مالك، ابن أبي زيد القيرواني (1/262).
([6]) تشنيف المسامع بجمع الجوامع (3/43).
([7]) انظر: مجموع الفتاوى (7/43-44).
([8]) انظر: مفاتيح الغيب، الرازي (14/231).
([9]) بيان تلبيس الجهمية (2/155).
([10]) أفعال الرسول r ودلالتها على الأحكام الشرعية (1/132).
([11]) الرسالة (1/20).
([12]) أخرجه البخاري (8/100) برقم: 6475، ومسلم (1/68) برقم: 47.
([13]) فتح الباري لابن حجر (10/532).
([14]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/556)، برقم: 3892، وسكت عنه الذهبي في التلخيص.