د. محمد بن موسى الشريف
هذا شهر الجود والصدقة، يجود الله تعالى فيه على عباده بالغفران، ويجود العباد بما في أيديهم ابتغاء المغفرة والرحمة، وكان النبي [ أجود الناس وكان له في رمضان زيادة من الجود والعطاء والكرم، فعن ابن عباس - رضي الله عنه عنهما - أنه قال: «كان النبي [ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه». فينبغي على المرء أن يجود في هذا الشهر العظيم، خاصة أن النكبات تلاحق هذه الأمة الطاهرة، فنكبتها في فلسطين قائمة، ونكبتها في الشيشان مشهورة ذائعة، وفي كشمير ولبنان الصومال والفلبين وفي أماكن أخرى كثيرة هذه النكبات العسكرية، وحدِّث ولا حرج عن نكبات الأمة الاقتصادية التي تحيط بها من كل جانب، وحدِّث ولا حرج عن القصور في الجوانب التعليمية والإعلامية والاجتماعية، كل ذلك في حاجة ماسة للمال حتى يُتدارك الخلل، وليس أحسن من هذا الشهر مناسبة للإنفاق والبذل والعطاء. ويفسر ابن رجب العلاقة بين القرآن والجود فيقول: «كان يلتقي هو وجبريل - وهو أفضل الملائكة وأكرمهم - وبدراسة الكتاب الذي جاء به إليه وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان رسول الله [ هذا الكتاب له خُلُقاً؛ بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حثّ عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثّر وتورّث أخلاقاً من المخالط». ولعل من أسباب جوده [ في هذا الشهر العظيم هو سروره بالقرآن حين يقرأه هو وجبريل كاملاً، وإذا سُرَّ المرء فإنه يجود، فكيف بسيد الأجواد [، فينبغي على المرء أن يجود في رمضان حين تعظم علاقته بكتاب الله تعالى قراءة وتدبراً وفهماً وحفظاً، وينبغي أيضاً أن يعظم جوده حين يقرأ آيات الإنفاق في القرآن الكريم في هذا الشهر العظيم، فما الفائدة إن قرأ المرء آيات الإنفاق ألف مرة ثم لا يكاد يلتفت إلى تطبيقها وجعلها واقعاً في حياته وأسلوباً لمعيشته، فإن لم يصنع فلبئس قارئ القرآن هو.. والسلف - يرحمهم الله تعالى - يكثرون من التصدق في رمضان اقتداء بالنبي الأعظم [، واستجابة للأوامر والمرغبات الكثيرة المبثوثة في الكتاب والسنة بالصدقة واحتسابها لوجه الله تعالى، وكان كثير من السلف يواسون الفقراء فيشاركونهم إفطارهم، أو يتصدقون بإفطارهم كله ابتغاء الوصول إلى درجة الإيثار، قال تعالى: {$ّيٍؤًثٌرٍونّ عّلّى» أّنفٍسٌهٌمً $ّلّوً كّانّ بٌهٌمً خّصّاصّةِ $ّمّن يٍوقّ شٍحَّ نّفًسٌهٌ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ پًمٍفًلٌحٍونّ (9)}(الحشر). كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله لم يَتَعَشَّ تلك الليلة. وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجَفْنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً. واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوُضِع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقرض المَلِيَّ الوَفِيَّ الغَنِيَّ؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً. وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدها لفطره ثم طوى وأصبح صائماً. ولقد ذكرت هذه الأمثلة تبياناً لما كان عليه السلف من الإيثار والتراحم، إلا أن هذه الوجوه من التصدق قد قلَّت في أيامنا، أو أصبحت نادرة؛ وذلك لأسباب، منها أن الطعام أصبح مشاعاً للفقراء في المساجد والبيوت، وهذا مشاهد ومعلوم، فينبغي على المتصدقين أن يبحثوا عن طرائق أخرى للتصدق، وحبذا لو أنشئت مؤسسات للصدقات تجمعها وتصرفها في وجوهها؛ فتحفظ بذلك على الناس وجوههم، وتمنع غير المستحقين من الهجوم على مال ليس لهم فيه حظ ولا نصيب؛ كما نرى اليوم كثيراً من الدخلاء الذين لا يعانون من الفقر بقدر ما يعانون من الذلة والمهانة واعتياد الكسب الحرام، وإنك لتجد طوائف من الميسورين ومتوسطي الناس يرغبون في مؤسسات مثل هذه تحفظ عليهم إنفاقهم وتشجيعهم على البذل والعطاء المرتب المتقن المنظَّم؛ إذ التنظيم والترتيب سمة العصر، فلا يصح أن تتخلف هذه المسألة المهمة عنه، وللدولة أن تنشئ هذه المؤسسات أو تأذن لأفراد أمناء ذوي ديانة ومروءة أن ينشئوها ويقوموا على شؤونها، ففي ذلك كل الخير - إن شاء الله - ولعلنا في هذا الشهر الكريم نشرع في التفكير بإنشاء مؤسسات الصدقة لتعود على المسلمين بالنفع التام إن شاء الله تعالى. وأورد ابن رجب يرحمه الله تعالى أسباباً لعظم أجر وفضل الصدقة في رمضان، وخلاصة ما قاله يرحمه الله تعالى هو: 1- الله تعالى يعتق الناس في رمضان ويجود عليهم ويرحمهم، والله يرحم من عباده الرحماء، فمن رحم الناس وجاد عليهم فالله يجود عليه ويرحمه. 2- الجمع بين الصدقة والصيام من أسباب دخول أعلى الجنة، كما قال النبي [: «إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها»، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»، فلعل هذه الخصال تجتمع كلها في رمضان. 3- الجمع بين الصدقة والصيام أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والتباعد منها، فقد قال النبي [: «الصيام جُنّة»، وقال [: «اتقوا النار ولو بشق تمرة». 4- الصدقة تجبُر ما قد يلحق الصيام من نقص أو تقصير أو خلل، وذلك نحو زكاة الفطر الواجبة، والصدقات التطوعية. 5- إذا أطعم الصائم الطعام في رمضان فهو له صدقة، وهو أيضاً شكر لنعمة الله - تبارك وتعالى - وهو إيثار بما لديه من مال وتذكر للفقراء والمساكين، فتكون هذه الصدقة محققة لفوائد كثيرة من فوائد الصيام وحكمه. قال الإمام الشافعي: «أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله [، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم»، وكذا قال عدد من الحنابلة يرحمهم الله جميعاً. وأقول: الجمع بين الصيام والصدقة من الدلائل الواضحة على الإيمان، فالمرء قد يصوم لكنه لا يتصدق، إذ المرء مفطور على الشح والاستئثار بما يملك، فلو أخرج وأنفق كان ذلك دليلاً على إرادته التقرب من الله - تبارك وتعالى - وعلى تخلصه من الشح الملازم لأكثر الناس. والتعود على الصدقة في رمضان سبيل لاعتيادها بعد ذلك في أشهر العام كلها، فيصبح المتصدق وقد أصبحت الصدقة سجية له وطبعاً، وهذا من أعظم أهداف الشارع ومقاصده، والله الموفق.
*مجلة المجتمع
هذا شهر الجود والصدقة، يجود الله تعالى فيه على عباده بالغفران، ويجود العباد بما في أيديهم ابتغاء المغفرة والرحمة، وكان النبي [ أجود الناس وكان له في رمضان زيادة من الجود والعطاء والكرم، فعن ابن عباس - رضي الله عنه عنهما - أنه قال: «كان النبي [ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن لا يُسأل عن شيء إلا أعطاه». فينبغي على المرء أن يجود في هذا الشهر العظيم، خاصة أن النكبات تلاحق هذه الأمة الطاهرة، فنكبتها في فلسطين قائمة، ونكبتها في الشيشان مشهورة ذائعة، وفي كشمير ولبنان الصومال والفلبين وفي أماكن أخرى كثيرة هذه النكبات العسكرية، وحدِّث ولا حرج عن نكبات الأمة الاقتصادية التي تحيط بها من كل جانب، وحدِّث ولا حرج عن القصور في الجوانب التعليمية والإعلامية والاجتماعية، كل ذلك في حاجة ماسة للمال حتى يُتدارك الخلل، وليس أحسن من هذا الشهر مناسبة للإنفاق والبذل والعطاء. ويفسر ابن رجب العلاقة بين القرآن والجود فيقول: «كان يلتقي هو وجبريل - وهو أفضل الملائكة وأكرمهم - وبدراسة الكتاب الذي جاء به إليه وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان رسول الله [ هذا الكتاب له خُلُقاً؛ بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حثّ عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثّر وتورّث أخلاقاً من المخالط». ولعل من أسباب جوده [ في هذا الشهر العظيم هو سروره بالقرآن حين يقرأه هو وجبريل كاملاً، وإذا سُرَّ المرء فإنه يجود، فكيف بسيد الأجواد [، فينبغي على المرء أن يجود في رمضان حين تعظم علاقته بكتاب الله تعالى قراءة وتدبراً وفهماً وحفظاً، وينبغي أيضاً أن يعظم جوده حين يقرأ آيات الإنفاق في القرآن الكريم في هذا الشهر العظيم، فما الفائدة إن قرأ المرء آيات الإنفاق ألف مرة ثم لا يكاد يلتفت إلى تطبيقها وجعلها واقعاً في حياته وأسلوباً لمعيشته، فإن لم يصنع فلبئس قارئ القرآن هو.. والسلف - يرحمهم الله تعالى - يكثرون من التصدق في رمضان اقتداء بالنبي الأعظم [، واستجابة للأوامر والمرغبات الكثيرة المبثوثة في الكتاب والسنة بالصدقة واحتسابها لوجه الله تعالى، وكان كثير من السلف يواسون الفقراء فيشاركونهم إفطارهم، أو يتصدقون بإفطارهم كله ابتغاء الوصول إلى درجة الإيثار، قال تعالى: {$ّيٍؤًثٌرٍونّ عّلّى» أّنفٍسٌهٌمً $ّلّوً كّانّ بٌهٌمً خّصّاصّةِ $ّمّن يٍوقّ شٍحَّ نّفًسٌهٌ فّأٍوًلّئٌكّ هٍمٍ پًمٍفًلٌحٍونّ (9)}(الحشر). كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله لم يَتَعَشَّ تلك الليلة. وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه أخذ نصيبه من الطعام وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجَفْنة فيصبح صائماً ولم يأكل شيئاً. واشتهى بعض الصالحين من السلف طعاماً وكان صائماً فوُضِع بين يديه عند فطوره فسمع سائلاً يقول: من يقرض المَلِيَّ الوَفِيَّ الغَنِيَّ؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات، فقام فأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاوياً. وجاء سائل إلى الإمام أحمد فدفع إليه رغيفين كان يعدها لفطره ثم طوى وأصبح صائماً. ولقد ذكرت هذه الأمثلة تبياناً لما كان عليه السلف من الإيثار والتراحم، إلا أن هذه الوجوه من التصدق قد قلَّت في أيامنا، أو أصبحت نادرة؛ وذلك لأسباب، منها أن الطعام أصبح مشاعاً للفقراء في المساجد والبيوت، وهذا مشاهد ومعلوم، فينبغي على المتصدقين أن يبحثوا عن طرائق أخرى للتصدق، وحبذا لو أنشئت مؤسسات للصدقات تجمعها وتصرفها في وجوهها؛ فتحفظ بذلك على الناس وجوههم، وتمنع غير المستحقين من الهجوم على مال ليس لهم فيه حظ ولا نصيب؛ كما نرى اليوم كثيراً من الدخلاء الذين لا يعانون من الفقر بقدر ما يعانون من الذلة والمهانة واعتياد الكسب الحرام، وإنك لتجد طوائف من الميسورين ومتوسطي الناس يرغبون في مؤسسات مثل هذه تحفظ عليهم إنفاقهم وتشجيعهم على البذل والعطاء المرتب المتقن المنظَّم؛ إذ التنظيم والترتيب سمة العصر، فلا يصح أن تتخلف هذه المسألة المهمة عنه، وللدولة أن تنشئ هذه المؤسسات أو تأذن لأفراد أمناء ذوي ديانة ومروءة أن ينشئوها ويقوموا على شؤونها، ففي ذلك كل الخير - إن شاء الله - ولعلنا في هذا الشهر الكريم نشرع في التفكير بإنشاء مؤسسات الصدقة لتعود على المسلمين بالنفع التام إن شاء الله تعالى. وأورد ابن رجب يرحمه الله تعالى أسباباً لعظم أجر وفضل الصدقة في رمضان، وخلاصة ما قاله يرحمه الله تعالى هو: 1- الله تعالى يعتق الناس في رمضان ويجود عليهم ويرحمهم، والله يرحم من عباده الرحماء، فمن رحم الناس وجاد عليهم فالله يجود عليه ويرحمه. 2- الجمع بين الصدقة والصيام من أسباب دخول أعلى الجنة، كما قال النبي [: «إن في الجنة غرفاً يُرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها»، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام»، فلعل هذه الخصال تجتمع كلها في رمضان. 3- الجمع بين الصدقة والصيام أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والتباعد منها، فقد قال النبي [: «الصيام جُنّة»، وقال [: «اتقوا النار ولو بشق تمرة». 4- الصدقة تجبُر ما قد يلحق الصيام من نقص أو تقصير أو خلل، وذلك نحو زكاة الفطر الواجبة، والصدقات التطوعية. 5- إذا أطعم الصائم الطعام في رمضان فهو له صدقة، وهو أيضاً شكر لنعمة الله - تبارك وتعالى - وهو إيثار بما لديه من مال وتذكر للفقراء والمساكين، فتكون هذه الصدقة محققة لفوائد كثيرة من فوائد الصيام وحكمه. قال الإمام الشافعي: «أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله [، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم»، وكذا قال عدد من الحنابلة يرحمهم الله جميعاً. وأقول: الجمع بين الصيام والصدقة من الدلائل الواضحة على الإيمان، فالمرء قد يصوم لكنه لا يتصدق، إذ المرء مفطور على الشح والاستئثار بما يملك، فلو أخرج وأنفق كان ذلك دليلاً على إرادته التقرب من الله - تبارك وتعالى - وعلى تخلصه من الشح الملازم لأكثر الناس. والتعود على الصدقة في رمضان سبيل لاعتيادها بعد ذلك في أشهر العام كلها، فيصبح المتصدق وقد أصبحت الصدقة سجية له وطبعاً، وهذا من أعظم أهداف الشارع ومقاصده، والله الموفق.
*مجلة المجتمع