مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
ثلاثون عامًا مع الدكتور محمد الأحمري
ثلاثون عامًا مع الدكتور محمد الأحمري
-د. عائض القرني / الرياض
الدكتور محمد يمتاز على الكثير بثقافة واسعة شرقية وغربية؛ فهو يلتهم ما أمامه مما يؤلفون التهام عصا موسى ما يأفكون، فمرة يحدثك عن عمر بن الخطاب، وثانية عن شكسبير، وثالثة عن فولتير، وأخرى عن تولستوي، ويحدثك عن الرومان والهنود، وكنفوشيوس ومانديلا وابن خلدون وأبي تمام إلى أن تقول: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ).. ما زرته إلا وحدثني عن كتاب قرأه أو نقده أو علّق عليه، أو ردّ على صاحبه، أو وافق كاتبه، مع حفظه لوقته وسعة نظرته للحياة ورحابة أفقه، وكيف لا أسعد بمجلسه وأنا رضيت صداقته أول مرة، وإذا الدكتور الفيلسوف محمد هو الزميل الشاب محمد، هو الطفل الصديق محمد

قد يهون العمر إلا ساعة *** وتهون الأرض إلا موضعا

في قرية من قرى بني الأحمر، وُلد الطفل محمد، ووُلد مع محمد النبوغ، والقرى مهبط السطوع، ومهد اللموع: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا)، ومحمد أحد أبنائها، درس كما يدرس الطلاب، لكن ليس التراب كالشهاب، أما قال الشاعر الأسطورة:

فإنْ تفقِ الأنامَ وأنت منهم *** فإن المسكَ بعضُ دمِ الغزالِ

وترتحل به الأيام حتى يلقي عصا الترحال طالباً بالمعهد العلمي بأبها، وتشرق لي الأيام، وينادي حظي: (يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ)، فأنتقل من معهد الرياض إلى معهد أبها في الأول الثانوي، وكأني غريب، أخرج في الفسحة بين الحصص، فإذا كل اثنين من الطلاب في حديث ماتع، وجوّ من الصداقة غامر، فأنزوي وأنظر في الوجوه، لعل نظرة تلمحني أو يداً تصافحني، أتناول إفطاري وحدي، وأشرب الشاهي وأنا أحدّث نفسي، وأقول: كيف وأنا ابن المنطقة الجنوبية لا أندمج مع الطلاب؟ وأنا الذي صنع الصداقات في معهد الرياض، وكنت مصدر الضحك والنكتة والنادرة في ديار نجد:

خُذا مِنْ صَبا نَجْدٍ أَماناً لِقَلْبِهِ *** فَقَدْ كادَ رَيّاها يَطِيرُ بِلُبِّهِ

ومكثت على هذا الحال أياماً وحيداً من الخلان كالدرهم المنطلق لا يضمّه وعاء، وإذا شاب طلق المحيّا، عربي الطلعة، أبلج الثنايا، طويل القامة، في جبينه إصرار وعلى محيّاه بسمة اعتزاز، فسلّم عليّ وصافحني وحيّاني، فقال: من الأخ؟ فعرّفته باسمي فرحّب وهلّل وسهّل وجلس معي يحادثني، ويؤانسني، ويسأل عن سكني بأبها، فأخبره أنني بحي شمسان، فيعدني بالزيارة بعد المغرب، فنسيت أخبار المعهد، والطلاب وعدت أحدّث نفسي عن هذا الأخ الجديد والصديق الوافد أيفي فيحضر أم يعتذر عن الزيارة فأعود لوحدتي وأبحث عن صديق؟

وبعد المغرب طرق بابي فرحّبت ترحيب التائق المشتاق، ودعوته للنـزول على الرحب والسعة فقال: تعال معي نركب سوياً في مشوار قريب، فلا أنسى كم حيّاني وآنسني وأبهجني وهو يخترق بسيارته شوارع أبها إلى داره في حي (ذرة)، فوالله لكأني دخلت داري، وكأن أهله أهلي. عرّفني على والده الشهم الوقور الشيخ حامد الأحمري، وكأن وجهه ورقة مصحف، حمامة مسجد، وصاحب ذكر عليه معالم الرجولة، لا يغتاب أحداً، ولا يقول إلاّ خيراً، فرحّب بي وأدناني، وسألني عن حالي، فصرت مع كثرة زياراتي لبيتهم كأنني شقيق لمحمد، تعال يا محمد ويا عائض، وأين عائض يا محمد؟ وأين محمد يا عائض؟ فلا تمرّ مناسبة أو دعوة ولا قوت إلاّ وأنا معهم:

لله درُّ عصابةٍ نادمتُهم *** ي وماً بجلّقَ في الزمانِ الأولِ

أَولادُ جَفنَةَ حَولَ قَبرِ أَبيهِمُ *** قَبرِ اِبنِ مارِيَةَ الكَريمِ المُفضِلِ

وأنا كذلك لا أهتني بطعام ولا ألذ بشراب إلاّ وهو معي أكيلاً وجليساً ومحدّثاً، وما كان حديث محمد وعائض إلاّ الكتب، فكنت أنا مغرماً بالأدب ودواوين الشعراء، وكان هو آية في قراءة الكتب، فالكتب على سريره وفي سيارته ومجلسه وغرفة نومه، ولا يشتري إلاّ الكتب. وهو مُكبّ على المطالعة دائم التفتيش في الأسفار، مكبّ على تقليب الأوراق، وهو إذ ذاك في الصف الثاني الثانوي فحسب.

فمحمد الأحمري ينام وهو يقرأ، ويستيقظ وهو يقرأ، ويأكل وهو يقرأ، ويشرب وهو يقرأ، ويقرأ وهو يقرأ، ويموت وهو يقرأ، ثم دخلت معه في نشاط المعهد العلمي، فصرت أنا وهو الوقود الحي لكل حفل أو نشاط أو مهرجان في المعهد، يناديني فأخرج بروحي ودمي (لدى الباب إلاّ لبسة المتفضل)، فلو دعاني لطعنة بليل لأجبت، وأناديه فلا يسألني برهاناً على ما قلت، فيخرج لو أن البارود أمامه.

جمعت المعهد كله أنا وهو بعد استئذان الإدارة وكان أكبر مني بسنة، فجُمع الناس ليوم الزينة، وحُشر الناس ضحى، وجلس أساتذتنا من الشيوخ الأجلاء على الكراسي، وجلس الطلاب على الأرض، ونسّقت معه ملحمة من التوجيه في مقامة أدبية، هو يقدّم فقرة وأنا أقدّم أخرى، فابتدأ هو وثنيتُ وتقدّم وصليتُ.

وعجبت لنا، يافعان صغيران في الثانوية قليلا المراس في الخطب والمحاضرات، وندعو شيوخنا وزملاءنا لنحدثهم نحن فقط، فكل فقرات الحفل لمحاضرتنا فحسب، وأظن المدير عقّب وأثنى ورحّب وأحد الشيوخ مدح، وقد بعد العهد ونسيت، ثم انطلقنا في كل محفل ومهرجان ومشهد، ينادي فأجيب، وأدعو فيؤمّن، ويقول فأصدّق، وأنشد فيطرب، أحمي ظهره من الطعان، يوم لقاء الحساد، ويلمّ شعثي يوم تعثر بي الأيام.

ويكتب لنا الله رحلة مع طلاب معهد أبها العلمي إلى مكة مروراً ببلجرشي والباحة والطائف ومكة وجدة، بعد اختلاف على من يشرف على هذه الرحلة؛ إذ عينوا لها أحد الأساتذة، طيّب القلب رضيّ النفس، ضعيف الولاية، وإذا اجتمع رأيي ورأي محمد الأحمري على شيء فاعلم أنه (فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر)، وقد وافقته في الحيلة والتداهي إذا لزم الأمر، فهو يشحذ السكين وأقطع، وأقرّب الحطب ويشعل، فأول ما فعلنا في الرحلة أن عزلنا الأستاذ من الإشراف، وعيّنّا أربعة وأسميناه (المجلس العسكري الانتقالي لقيادة الرحلة)، ثم حوّلنا الرحلة على هوانا، من المتعة المباحة، وسعة الصدر، ومن خالفنا عزلناه، وعبرنا الجنوب من أبها إلى الطائف حيث الجبال الشاهقة والسفوح الخضراء والقرى المتناثرة على سطوح المرتفعات والغدران والغابات، وفي الجنوب تجتمع جيمات ثلاث: جيم الرجال، وجيم الجبال، وجيم الجمال:

كَبَّرتُ نحو دِيارِهِم لَمّا بَدَت *** مِنها الشُموسُ وَلَيسَ فيها المَشرِقُ

وجئنا معهد بلجرشي بغامد ليلاً فتلكأ الحارس في استقبالنا لأنه خارج الدوام، فداهمناه وفتحنا الباب ولسان الحال يقول: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ)، فأشعلنا لمبات الكهرباء، وأنزلنا فرشنا ومتاعنا، وأوقدنا ناراً عظيمة، وصنعنا عشاءنا في سمر وقصائد وضحك وأنس، وجعلناها ليلةً نابغيّة ثم نمنا، وفي الصباح صرنا نحن نستقبل مدرسي وطلاب المعهد على منهج:

إذا همّ ألقى بين عينيه هـمَّهُ *** وأعرض عن ذكرِ العواقبِ جانبا

ثم وصلنا معهد مكة فسكنا غرف المعهد، فجعلنا عاليها سافلها وتدخلنا حتى في برنامج استقبالنا نقدّم ونؤخر ونقترح وننصح، وجاء الأستاذ المشرف المعزول بصديق له من الحرم من مصر فصار يزاحمنا في الباص والمجلس، فتآمر اثنان منا واتفقا سراً على البطش به وأضمرا: (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)، فأظهرا التنازع، ثم تسابا في ظاهر الأمر، ثم تضاربا، ثم زحفا إلى المشرف وصديقه، فأشبعوهما ضرباً ففرّا إلى باب الغرفة وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق، ثم غادرا المعهد ولسان حالهما ينادي: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ).

وفي معهد جده جلسنا في الإدارة والمدير يرحّب بنا، ثم وزعوا علينا علب الببسي فهززناها ثم فتحناها؛ فإذا رغوتها كعمائم الشيوخ والضحك من كل مكان، ولكننا بعنا الحياة الدنيا بخمسة دراهم نسيئة.

وفي معهد الطائف دخلنا على المدير ومعه الأساتذة، فقمت أعرف بزملائي حتى وصل الدور لأخينا مصلح المصلح ومعه صندوق القطّة (مصروف الرحلة) فقلت للمدير: هذا الأخ مصلح المصلح ومعه القطّة فضحكوا.

ولن أستطرد في هذه الرحلة، فهي رواية شرقية، تصلح في القصص العالمي، وتمثل في برامج تلفزيونية.

ثم ذهب محمد لقسم التاريخ، وذهب عائض لقسم أصول الدين بعده بسنة، ولكن الحب قائم، واللقاء والتشاور والتعاون على أشده، وكلما عضّنا الدهر بنابه (ليت ما حلّ بنا به)، وجدت محمداً يدافع ويناضل ويطاعن وينازل كما قال دريد بن الصمة في أخيه عبد الله لما طُعن:

فطاعنتُ عنه الخيلَ حتى تبدّدتْ *** وحتى علاني حالكُ اللونِ أسود

طعانَ امرئٍ واسى أخاه بنفسه *** ويعلمُ أن المرءَ غيرُ مخلّد

وكنا طائفة من الطلاب في الجامعة يدور علينا النشاط والرحلات والبرامج منهم: محمد الأحمري، وعوض القرني، ومناع القرني، وسعيد بن ناصر الغامدي، ويحيى السعدي، وعائض القرني، فكانت هذه النجوم السيّارة مصدر الإشعاع والإمتاع والدفاع: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ).

ويسافر محمد إلى أمريكا للدراسة ويترك عائضاً في السعودية كل في تخصصه، يجمع بيننا حب أقمناه مقام الوالد، ثم أسافر للدعوة إلى أمريكا، فيكون هو أول من أنزل عنده بولاية (كلورادو) بمدينة (فورت كلنـز)، فينـزلني بيته ويأبى أن أسكن في أي مكان غير مسكنه، فيتفنن في ضيافتي، ويتأنق في إكرامي، وأمضي أنا وهو الليل كله حتى مطلع الفجر، نعيد شريط الذكريات، وربما سالت دموعنا ضحكاً من بعض المواقف، وعنده أرسل نفسي على سجيتها، وهو لا يملك نفسه مهما أوتي من قوة أمام نكتي، وكم أضحكت من رزين وقور سمته تنوء به العصبة أولو القوة!! فضلاً عن كريم شهم بسام ضاحك سهل ليّن.

والآن صار الشاب محمد يدعى الدكتور محمد بجدارة وهو أكبر منها، وبه تشرف شرف الزيتون بعود القنا، لأنها أصله، ولكنه عصا الرماح.

والدكتور محمد يمتاز على الكثير بثقافة واسعة شرقية وغربية؛ فهو يلتهم ما أمامه مما يؤلفون التهام عصا موسى ما يأفكون، فمرة يحدثك عن عمر بن الخطاب، وثانية عن شكسبير، وثالثة عن فولتير، وأخرى عن تولستوي، ويحدثك عن الرومان والهنود، وكنفوشيوس ومانديلا وابن خلدون وأبي تمام إلى أن تقول: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ).

والدكتور محمد الأحمري الصديق ليس للمال عنده قدر ولا قيمة، فأوراق النقود في جيبه والمناديل سيان:

ألا أيُّها المالُ الذي قد أبادَهُ *** تعزّ فهذا فعلُه في الكتائبِ

وتدور الأيام ويهبط علينا الدكتور محمد الأحمري بالرياض ليشرف على كل كتاب يطبع في مكتبة العبيكان لأنه:

درس الزمانَ تعلّماً وتجارباً *** فتراه منك مباعداً ومقاربا

زرته مرات بمكتبة العبيكان وقد خطه الشيب، ولكن روحه تولد كل يوم مضاء وعزيمة وإصراراً وصبراً، وقد ألّف وصنّف، وحاضر وناظر، وجالد وجادل، فأحسن في الجميع.

ما زرته إلا وحدثني عن كتاب قرأه أو نقده أو علّق عليه، أو ردّ على صاحبه، أو وافق كاتبه، مع حفظه لوقته وسعة نظرته للحياة ورحابة أفقه، وكيف لا أسعد بمجلسه وأنا رضيت صداقته أول مرة، وإذا الدكتور الفيلسوف محمد هو الزميل الشاب محمد، هو الطفل الصديق محمد :

على صاحبِ الزوراءِ مني تحية *** يقبّلُها طفلاً ويلثمُها كهلا

تتيهُ به الأيامُ فخراً على الورى *** وتعدو به الأزمانُ في كفّها نصلا

والدكتور محمد الأحمري دائم الترحال، يواصل الانتقال، يصبح في روما، ويمسي في الرياض، ويتغدى في الدوحة، ويتعشى في باريس، لا يفوته معرض كتاب ولا مهرجان ثقافي.

ليس له همّ بمال يثمّر، أو قصر يعمّر، ينظر للمتاع الفاني بسخرية لاذعة:

ويمتهنُ الدنيا امتهانَ مجرّبٍ *** يرى كلَّ ما فيها من اللهو فانيا

فتح الله عليه بفهم وافر، وقلم سيّالٍ، وروح وثّابة، وخُلق كريم.

زرته في الرياض أعزيه بوالده ووالدنا الشيخ حامد الأحمري الذي لقي ربه قبل سنوات بين المسجد والبيت، لا ينتهي من فريضة إلاّ ويتهيأ لأخرى، مصحفه أنيسه، وذكر ربه جليسه، لم يعرف معاملة ربوية، ولا غشاً في بيع، أخذ الدين بقوة وحزم وجدّ، كأنه خلق للأذان والصف الأول وانتظار الصلاة بعد الصلاة غفر الله له، وجمعنا به في الفردوس الأعلى:

إذا خانني جمعي على فقدِ صاحبٍ *** وقفتُ على الأطلالِ أستمطرُ السّحْبا

وبعد ثلاثين سنة يا محمد أستطيع أنا وإياك أن نحصل على المال والجاه والشهرة والكتب ومعرفة الناس، ولكن واحسرتاه!! لا نستطيع أن نعيد ليلة واحدة من ليالينا الجميلة الحالمة في أبها وقت الصبا والصفاء والهدوء وراحة البال والأنس وقلة المشاغل:

يا ليلةَ الجزعِ هلاّ عدتِ ثانيةً *** سقى زمانَك هطّالٌ من الديمِ

أعتذر لصديقي الدكتور محمد الأحمري؛ لأنني ما قلت إلاّ بعض ما يستحق:

فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهلُه *** ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائبُ

دام علاك يا أبا عمرو، تمّ سرورك، نما حبورك، اكتمل نورك.

تقبل تحياتي الصادقة ودعائي الخالص
*العصر
أضافة تعليق