مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تركيا تدفع الثمن نيابة عنا
تركيا تدفع الثمن نيابة عنا
هويدي – المقال الأسبوعي

تركيا تدفع الآن ثمن تصالحها مع ذاتها وتضامنها مع الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يمهد الطريق للانقلاب الاستراتيجي، الذي لاحت بوادره في الشرق الأوسط، الذي يمثل غياب مصر نقطة الضعف الأساسية فيه.
(1)
في الأسبوع الماضي استضاف برنامج «اسكلاسنجق» (المرفأ والراية)، الذي تبثه القناة السابعة التركية مجموعة من الضيوف لمناقشة انطباعاتهم عن أسطول الحرية، الذي انطلق لكسر حصار غزة، وهاجمته اسرائيل في المياه الدولية. اثنان من الضيوف كانا من بين ركاب السفينة «مرمرة»، التي تعرضت للعدوان الاسرائيلي. أحدهما فنان اسمه سنان البيرق.
قال انه حين انضم الى الناشطين المسافرين كان خاطبا لفتاة تركية. وحين عاد وجد ان خطيبته طلبت منه ان يكون أول ما يفعلانه بعد الزواج ان ينضما الى المجموعة المسافرة على ظهر الدفعة الثانية من سفن أسطول الحرية التي تجهز الآن لمواصلة محاولة كسر الحصار.
الضيفة الثانية كانت عارضة أزياء سابقة (غير محجبة)، وقد قالت في حديثها انها ذهبت استجابة لنداء كسر حصار غزة لأسباب انسانية بحتة، وخرجت من بيتها متطوعة، لكنها بعد الذي جرى للسفينة، وجدت أنها عادت من الرحلة مناضلة وصاحبة قضية نذرت نفسها للدفاع عنها. الضيف الثالث كان والد الفتى فرقان دوجان البالغ من العمر 14 عاما الذي قتلته القوات الاسرائيلية، وقد قال بصوت هادئ انه احتسب ابنه شهيدا عند الله، وأن شقيق فرقان وشقيقته قررا ان ينضما الى أول قافلة تالية تسعى لكسر حصار غزة.
هذه الانطباعات ليست مشاعر استثنائية.. انما هي انعكاس لموقف الأغلبية، التي فتح العدوان على غزة في عام 2008 أعينها على بشاعة الوجه الحقيقي لاسرائيل، وكانت تلك هي اللحظة الكاشفة، التي أيقظت الضمير التركي. وجددت انتماءه الى الأمة التي تباعد عنها حينا من الدهر. ومن ثم جعلت الجماهير تندفع لاحتضان فكرة «أسطول الحرية».
ورغم الدم التركي الذي سال أثناء المحاولة الأخيرة لكسر حصار غزة، فان الحماس الجماهيري المتأجج دفع هيئة الاغاثة التركية الى تجهيز ست سفن أخرى للقيام بمحاولة ثانية لكسر الحصار. وتم ابلاغ الاتحاد الأوروبي بأن تلك السفن سوف تنطلق الى هدفها في النصف الثاني من شهر يوليو المقبل.

(2)
غضب الحكومة في أنقرة لا يقل عن غضب الشارع في أسطنبول، ذلك ان ثمة اجماعا بين عناصر النخبة السياسية، الذين التقتهم على الأقل، على ان استهداف السفينة مرمرة كان متعمدا، كما ان قتل الأتراك دون غيرهم لم يكن خطأ أو مجرد مصادفة. وأن اسرائيل في الحالتين أرادت ان توجه رسالة الى حكومة السيد أردوغان، ردا على موقفه من بيريز في مؤتمر دافوس وتحديه لها في موضوع اهانة السفير التركي في تل أبيب. وردا على تصريحاته الناقدة للسياسات الاسرائيلية الوحشية تجاه الفلسطينيين في الوقت الذي يتزايد فيه اقترابه من العالم العربي،
ولأن الرسالة وصلت الى أنقرة فان أردوغان صعد نقده لارهاب الدولة في اسرائيل. ورئيس الجمهورية عبدالله جول أكد في أكثر من تصريح ان العلاقات مع اسرائيل بعد الهجوم على «مرمرة» لن تعود الى ما كانت عليه في السابق.وقال بيان صادر عن وزارة الخارجية التركية انه تم تشكيل لجنة وزارية لتقييم الموقف، الذي نشأ بعد الهجوم على أسطول الحرية، ووضع ما سمي بـ«خريطة طريق» للتعامل مع تداعيات هذا الموقف من مختلف الزوايا.
ذلك ان ما جرى كانت له أصداؤه القوية في ثلاث دوائر على الأقل.
الأولى تتصل بالساحة السياسية الداخلية،
والثانية تخص العلاقات الاسرائيلية التركية،
والثالثة تنصب على العلاقات الأمريكية التركية.
فيما تعلق بالوضع الداخلي في تركيا فالثابت ان ما حدث رفع من شعبية الحزب الحاكم وزعيمه رجب أردوغان حتى وصلت الى %40 حسب استطلاعات الرأي العام. وكان الحديث يدور في الأسابيع الماضية عن 33 و%34، لكن ذلك أثار انتقادات في أوساط الخصوم السياسيين، الذين يتمثلون أساسا في حزب الحركة القومية والشعب الجمهوري.كما أنه أشاع استياء في محيط الفئات التي ارتبطت مصالحها باسرائيل والولايات المتحدة. ومنطق الآخرين مفهوم،
أما الأولون فقد عبرت عنهم كتابات نشرتها بعض الصحف حذرت من مغبة الابتعاد عن الفلك الأمريكي والاسرائيلي، ومن تورط تركيا في الصراع العربي الاسرائيلي. وتحدث بعض الكتاب عن ان أردوغان حرص على تصعيد الموقف مع اسرائيل لأسباب انتخابية، ولكي يعزز موقف حزبه ويوسع من التأييد الشعبي له في الانتخابات التشريعية التي ستجري في العام المقبل.
سألت عن موقف الجيش الذي عادة ما كانت له كلمة فاصلة أحيانا في مثل هذه الأمور، فتلقيت ردين.
الأول ان موقف الحكومة تم بالاتفاق مع رئاسة أركان الجيش،
والثاني ان نفوذ الجيش تقلص خلال السنوات الأخيرة، بحيث انه لم يعد بالقوة التي كان عليها في السابق.
ليس فقط بسبب تراجع دوره في مجلس الأمن القومي، ولكن أيضا لأن تورط بعض قياداته وعناصره في قضية التنظيم السري الانقلابي «ارجنكون» أساء اليه وسحب الكثير من رصيده خصوصا بعدما نسب الى ذلك التنظيم من اتهامات شملت عمليات قتل سياسية وتحضيرا لاثارة الفوضى في الداخل.

(٣)
ملف العلاقة مع اسرائيل أكثر تعقيدا وسخونة. ذلك ان هجومها على أسطول الحرية، وتعمد قتلها تسعة من الأتراك، شكل انعطافة مهمة وأحدث انتكاسة كبرى في العلاقات التاريخية والراسخة بين البلدين. وهي التي توثقت في عام 1996، الذي وقعت أثناءه عدة اتفاقات عسكرية واستخباراتية بينهما كانت بمثابة نقلة نوعية في وضع الأساس لعلاقات استراتيجية بين البلدين، حتى أثارت في حينها توقعات بالمضي نحو تشكيل محور تركي اسرائيلي أمريكي في المنطقة، لكن ذلك كله تبدد الآن، وبدا كأنه من ذكريات زمن سحيق انقلبت فيه الأمور رأسا على عقب.
التطورات التي طرأت على مسار علاقات البلدين تثير سؤالين كبيرين، هما:
كيف ستتعامل الحكومة التركية مع اسرائيل بعد الذي جرى؟
ثم ما هي خيارات اسرائيل في الرد على الموقف التركي الذي خيب آمالها وتحدى سطوتها وهيلمانها؟

في الرد على السؤال الأول هناك مستويان، الأول يخص واقعة استهداف السفينة مرمرة وقتل الأتراك التسعة، الذين كانوا من بين ركابها. والمستوى الثاني يتعلق بعموم العلاقات القائمة بين البلدين منذ عام 1949 (كانت تركيا أول دولة مسلمة اعترفت باسرائيل).بالنسبة لموضوع قافلة الحرية فان حكومة أنقرة لديها أربعة مطالب هي:
اجراء تحقيق دولي فيما جرى
اعتذار اسرائيل عن استهداف السفينة التركية وقتل بعض الأتراك الذين كانوا على ظهرها
دفع تعويضات مالية لأهالي الضحايا التسعة
اعادة السفن التركية الثلاث التي حملت المساعدات لاغاثة أهل غزة.
وهذه المطالب ترفضها اسرائيل باستثناء الرابع منها الخاص بالسفن الثلاث المحتجزة لديها.
صحيفتا «ستار» و«حريات» التركيتان تحدثتا عن اجراءات ستتخذها حكومة أنقرة، أقرتها اللجنة الوزارية، التي شكلت لتقييم العلاقات مع اسرائيل، ذلك ان رفضها للمطالب التركية سيؤدي يقينا الى الهبوط بالعلاقات الدبلوماسية الى أدنى مستوى. وهو ما توقعته اذاعة الجيش الاسرائيلي، التي تحدثت عنه «حضيض جديد» في علاقات البلدين. (للعلم: حين سحبت تركيا سفيرها من اسرائيل بسبب غزو لبنان عام 1982، فان عملية اعادة السفير الى تل أبيب استغرقت عشر سنوات).
الذي لا يقل أهمية عما سبق، وربما الأخطر، ان تدهور العلاقات من شأنه ان يؤدي الى اعادة النظر في 59 اتفاقية بين البلدين، بينها 16 اتفاقية عسكرية وأمنية تبلغ قيمتها سبعة مليارات ونصف المليار دولار، يفترض ان تسددها تركيا الى اسرائيل، وضياع هذا المبلغ الكبير عليها يشكل لها ضربة اقتصادية موجعة. وهذه الصفقات تشكل شراء طائرات بدون طيار، وألف دبابة مدرعة من طراز «ميركافاه 3» بقيمة خمسة بلايين دولار، ومشروع مشترك لبناء صواريخ بقيمة 1.5 مليون دولار، وتحديث طائرات فانتوم وتحديث دبابات وتأهيل طيارين أتراك وتدريب طيارين اسرائيليين في الأجواء التركية..الخ. وقد نشرت صحيفة «زمان» المقربة من الحكومة ان توجيهات صدرت للشركات التركية، التي تتعامل مع الصناعات العسكرية الاسرائيلية بالغاء الصفقات الموقعة معها.
حين سألت ما هي الأوراق التي تملكها اسرائيل في الضغط على تركيا وترهيبها، كان الرد ان حاجة اسرائيل الى تركيا أكبر بكثير من حاجة تركيا الى اسرائيل. فأنقرة لا تعول كثيرا على اسرائيل، وما تحصله منها يمكن توفيره من بدائل أخرى (روسيا سارعت بعد الأزمة الأخيرة الى عرض مساعداتها على أنقرة لتوفير احتياجاتها العسكرية). أما اسرائيل فهى تريد الكثير من تركيا اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا.
أضاف محدثي القريب من دوائر رئيس الوزراء أردوغان ان اسرائيل تراهن في مواجهة الأزمة الحالية على عدة عوامل، أهمها ضغوط حلفائها في واشنطن على أنقرة. والأرجح أنها ستستخدم اختراقها لبعض التجمعات الكردية لازعاج حكومة أنقرة (يربط بعض المحللين بين المجزرة التي حدثت في مدينة الاسكندرونة، وقتل فيها ستة من الجنود الأتراك وبين انطلاق أسطول الحرية يوم 30 مايو الماضي، ويرون أنها رسالة تحذيرية اسرائيلية). وقد تلجأ اسرائيل أيضا الى اثارة بعض الاضطرابات الأخرى في داخل تركيا..
وفي حين قررت لجنة العلاقات الخارجية في الكنيست عقد جلسة خاصة لمناقشة ما وصفوه بـ«مذبحة الأرمن» كيدا في تركيا وتشهيرا بها، فقد انطلقت في اسرائيل حملة شعبية لمقاطعة السياحة في تركيا والمنتجات الصناعية والزراعية التركية، التي تباع في اسرائيل. الى غير ذلك من الاجراءات التي لا تترك أثرا موجعا للاقتصاد التركي (صحيفة صباح ذكرت ان الأفواج السياحية الاسرائيلية ألغت حجوزاتها، في حين ان السياحة العربية زادت بنسبة %40 على العام الماضي، وأشارت الى ان السائح العربي ينفق ثلاثة أضعاف ما ينفقه السائح الاسرائيلي).

(4)
ما كان يمكن ان تغضب اسرائيل، دون ان يتردد صدى ذلك الغضب قويا في واشنطن. وهذا ما حدث. فقد نقلت وكالات الأنباء (في 6/17) ان مؤتمرا صحافيا عقده بهذا الخصوص في العاصمة الأمريكية بعض النواب الجمهوريين والديموقراطيين، الذين حذروا تركيا من استمرارها فيما اعتبروه عداء لاسرائيل. فقال النائب مايك بنس ان تركيا «ستدفع الثمن» اذا استمرت على موقفها الحالي من التقارب مع ايران وزيادة العداء لاسرائيل. ووصف النائب الديموقراطي اليوت انجيل أفعال تركيا بأنها «مخزية».
في الوقت ذاته وقع 126 عضوا في مجلس النواب رسالة طلبت من الرئيس أوباما معارضة أي ادانة دولية لاسرائيل بسبب عدوانها على أسطول الحرية.
وقعت على تحليل أعمق لهذا الملف نشرته صحيفة الشرق الأوسط في 6/10 منسوبا الى خدمة صحيفة «نيويورك تايمز»، ذكر ان تركيا أثارت غضب واشنطن، التي اعتبرتها تحديا لسياستها لأهم قضيتين اقليميتين إلحاحا، هما:
البرنامج النووي الايراني (حين اتفقت مع البرازيل لحل اشكال البرنامج بعيدا عن الوصاية الأمريكية)
وعملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية (لاحظ ان أردوغان رفض اعتبار حماس منظمة ارهابية).

أضاف التقرير نقلا عن ستيفن كوك الخبير لدى مجلس العلاقات الخارجية ان واشنطن باتت تنظر الى تركيا باعتبارها «تعبث بأرجاء المنطقة وتقدم على أفعال تتعارض مع ما ترغبه القوى العظمى»،
من ثم فان السؤال الذي أصبح مطروحا في واشنطن الآن والكلام لايزال للسيد كوك هو:
كيف يمكن الابقاء على تركيا في حدود حارة الطريق المخصص لها؟
هذه المشاهد تشكل الخلفية التي تمهد الآن لما يبدو أنه «انقلاب استراتيجي» في منطقتنا، الأمر الذي يستدعي مواصلة الحديث في الأسبوع المقبل باذن الله
*صحيفة الوطن الكويتيه
أضافة تعليق