أمة الوعد الحق
د. علي بن عمر بادحدح
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجر من مكة، لكنه يحمل الأمل الذي يكسر القيود، ويتجاوز الحدود، ويخرج من ضيق ما هو فيه إلى سعة وعد الله سبحانه وتعالى، فيبشر – وهو مهاجر طريد- سراقة بن مالك بسواري كسرى وتاجه.
إنه درس عظيم حري بنا أمة الإسلام اليوم أن نقف عنده، وأن نستقي منه ونتعلم الأمل والثقة بنصر الله تعالى، لا سيما وأن في أحوال أمتنا اليوم ما أورث بعض المسلمين وهناً في النفوس، ويأساً في القلوب، وأخطر من ذلك ما وقع في الأذهان والعقول من شك في وعد الله الحق، ومن اضطراب في مسلمات وثوابت هذا الدين القطعية التي تنزلت بها الآيات القرآنية، وثبتت بها الأحاديث النبوية. فلننظر إلى هذا الوعد الحق نظر البصر والبصيرة، ولنعتقده في قلوبنا إيماناً ويقيناً، ولنلتزمه في حياتنا أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً، ولننظر إلى ذلك في كتاب الله عز وجل، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60]، قال القرطبي: ’’ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته’’ وجاءت هذه الآية خاتمة لسورة الروم، وأولها { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ.. } [الروم : 1-5] ، كان الفرس أهل شرك وكفر، وكانت الروم أهل كتاب وديانة، فلما انتصر الفرس عليهم كان ذلك من أسباب فرح كفار مكة، فاستعلوا بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، بل قال بعضهم كما انتصر أصحابنا سننتصر عليكم، فتنزل وعد الله الحق، بأن الجولة ستكون للروم على الفرس { فِي بِضْعِ سِنِينَ } غير محددة على وجه الدقة، فهل كان المؤمنون في شك من وعد الله.
كلا فقد راهن أبو بكر المشركين وضرب معهم أجلاً: فمضى الأجل، لكن أبا بكر ظل على يقينه بأن الله منجز وعده، وأمره رسول الله أن يزيد في المدة ويزيد في الرهن ففعل فانتصر الروم على الفرس (1) ، وجاء ختام السورة خطاباً للرسول والمراد أمته { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60]
الأمر واضح بين، فإن الصبر معه النصر، وإن الذين يصبرون لا يعينهم على صبرهم إلا الوعد الحق.
أما الذين لا يوقنون، سواء كانوا من الكافرين والمشركين الذين يؤمنون بالأمور المادية المحسوسة، أو من أولئك الذين يهولهم تسلط الأعداء على أهل الإيمان، فيتشككون ويثبطون، ويقولون: لا أمل في النصر، ولا مخرج من هذه الأزمات.
لماذا يقولون ذلك؟
لأنهم نسوا رب الأرض والسماء، ونسوا نصر الله للرسل والأنبياء، نسوا آيات القرآن التي يتلونها، و سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء الذين نصرهم الله، رغم أن كل الأسباب كانت على غير ما يمكن أن يحقق النصر، فهل نحن في شك في دين الله { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60].
وآية أخرى جاءت في سياق مجموعة من الآيات وهي قوله تعالى { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }[غافر : 55] وحتى نرى الصورة واضحة جلية فلا بد من قراءة الآيات في السياق القرآني، قال تعالى{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (55)} [غافر : 51-55]، وقد يتساءل البعض أين هذا النصر في واقع أمتنا اليوم؟
والجواب: أن الأمر هنا كما قال أهل التفسير إما هو على سبيل العموم لا يتناول آحاد الأفراد. والقول الثاني وهو الأولى والأقوى والأظهر أن المقصود بالنصر هو الانتصار لهم، سواء كان ذلك في مشهدهم أو في مغيبهم أو حال حياتهم أو حتى بعد موتهم، ووعد الله لا يتخلف، ولن تجد لسنته تبديلا ؟ { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128]، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صـ : 88]، { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47].
يقين لا بد أن نشيعه بين أبناء أمتنا ونواجه به أعداءنا، فنحن على الحق لا نغير ولا نبدل، ونحن في طريق النصر الذي لا يتأخر ولا يتخلف إن أدينا حقه وقمنا بواجبه.
جاءت هذه الآيات تتحدث عن مشهد القيامة { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 52]، في سياق الآيات التي تتحدث عن موسى عليه السلام، وكيف أهلك الله فرعون وقومه، قال أهل التفسير وفي هذا إشارة إلى بقاء القرآن وتوريثه إلى قيام الساعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولاه بعد أن أدى ما عليه، قال ابن كثير: ’’وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على من خالفه وناوئه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً’’ ثم ذكر نصر بدر وما مر بعد ذلك حتى قال: ’’ودانت له جزيرة العرب بكمالها ودخل الناس في دين الله أفواجاً’’ ثم قال بعد ذلك:’’وقام من بعده أصحابه فبلغوا دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة’’ ولئن قيل أين هذه الصورة، مالنا لا نراها اليوم؟ فأقول: كلا، هي اليوم مرئية على أبلغ وأظهر وأوضح ما يمكن أن تكون.
أين فلسفات الشرق والغرب؟ أين الديانات التي دخل عليها التحريف؟ ما الذي ينصرها؟ قوى عسكرية؟ تسلط سياسي؟ حصار اقتصادي؟ تريد أن تدمر الإسلام في القلوب وأن تزعزع اليقين في النفوس { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة : 120]، يوم تتبعون ملة اليهود والنصارى حينئذ تكون الهزيمة، وأما يوم يقتل منا من يقتل ويحتل من أرضنا ما يحتل، ويدمر من بيوتنا ما يدمر فإن ذلك ليس هزيمة إن بقي الإيمان واليقين بالوعد الحق، والارتباط بالمنهج الحق، فإن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة
هكذا كان الموقنون المؤمنون عبر التاريخ، فها هو ابن تيمية يجمع العلماء والأخيار لقتال التتار ويقول: ’’والله إنكم لمنصورون فيقولون: ’’قل إن شاء الله’’ فيقول: ’’إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً’’.
واليوم نرى صور النصر كذلك في أرض الإسراء، فها نحن نرى صوراً من بداية خريف المحتل الغاشم، فرئيس يحاكم على سقوط أخلاقي وكلهم ساقطون، وآخر يرتحل لأنه لم يحسن قتالاً ولم يحقق نصراً، وثالث يوشك أن يتردى، واضطراب وخوف وهلع.
انتصار الحق اليوم بذاتيته، وانتصار الإسلام بأحقيته، نحن ننتصر اليوم بقيمنا وأخلاقنا التي تهاوت أمامها كل القيم والأخلاق يقول الألوسي في تفسيره: ’’في الآيات إشارة إلى أهل الوراثة المحمدية، أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم، وينظرون إليهم نظرة الحقارة، ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يقولون ويفعلون’’
أليس هذا الذي نسمعه عن المرابطين في أرض الإسراء؟ يقوله فئة يصدق فيها قول الله تعالى عن المنافقين { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون : 4]، هؤلاء المنافقون قالوا يوم الأحزاب {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} أما المؤمنون بالوعد الحق فماذا قالوا { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [الأحزاب : 22]، ذلك قولهم، وأما فعلهم فهو { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23]،
يوم نجدد هذه السيرة سيكون النصر أقرب مما نتصور { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214]
وليس النصر مقصوراً على النصر في المعارك، فمن صور النصر الثبات على الحق والتمسك به.
أعداؤنا يريدون صرفنا عن ديننا؟ واليوم نرى إقبالا أعظم وأكثر من أبناء أمتنا نحو دينهم.
يريدون أن ينالوا من نبينا وأمتنا؟ واليوم نرى الأمة كلها تعلن النصرة لنبيها وكتاب ربها.
فالنصر آت لا محالة كما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر : 77]، وقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47]، وفي ذلك يقول الرازي: ’’غلبة الكافر على المسلم ليست بنصر، فإن النصر ما يكون عاقبته سليمة، بدليل أنه لو كانت جولة هزم فيها قوم ثم رجعوا وكروا وانتصروا فإن العاقبة لهم، وهكذا تكون العاقبة للمتقين’’ ونحن في مطلع هذا العام، ونحن نرى صورا من تسلط اليهود وعدوان النصارى وبغي من لا يقيم قدراً ولا شرفاً لدين الله ولا لحرماته، نحن نرى ذلك فلا يزيدنا إلا يقينا بأن وعد الله حق، ونقول كما قال الصحابة { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب : 22]، ونقول للمرجفين كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].
فنحن الأمة المميزة، نحن أمة الكتاب المحفوظ الأخير، نحن أمة النبي الخاتم العظيم، نحن أمة الرسالة الخالدة إلى قيام القيامة، (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) (2) قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
----------
الهوامش :
(1) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده. رقم الحديث: [2633] والترمذي. رقم الحديث: [3117.
(2) رواه البخاري. رقم الحديث: [827].
*إسلاميات
د. علي بن عمر بادحدح
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجر من مكة، لكنه يحمل الأمل الذي يكسر القيود، ويتجاوز الحدود، ويخرج من ضيق ما هو فيه إلى سعة وعد الله سبحانه وتعالى، فيبشر – وهو مهاجر طريد- سراقة بن مالك بسواري كسرى وتاجه.
إنه درس عظيم حري بنا أمة الإسلام اليوم أن نقف عنده، وأن نستقي منه ونتعلم الأمل والثقة بنصر الله تعالى، لا سيما وأن في أحوال أمتنا اليوم ما أورث بعض المسلمين وهناً في النفوس، ويأساً في القلوب، وأخطر من ذلك ما وقع في الأذهان والعقول من شك في وعد الله الحق، ومن اضطراب في مسلمات وثوابت هذا الدين القطعية التي تنزلت بها الآيات القرآنية، وثبتت بها الأحاديث النبوية. فلننظر إلى هذا الوعد الحق نظر البصر والبصيرة، ولنعتقده في قلوبنا إيماناً ويقيناً، ولنلتزمه في حياتنا أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً، ولننظر إلى ذلك في كتاب الله عز وجل، { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60]، قال القرطبي: ’’ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته’’ وجاءت هذه الآية خاتمة لسورة الروم، وأولها { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ.. } [الروم : 1-5] ، كان الفرس أهل شرك وكفر، وكانت الروم أهل كتاب وديانة، فلما انتصر الفرس عليهم كان ذلك من أسباب فرح كفار مكة، فاستعلوا بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، بل قال بعضهم كما انتصر أصحابنا سننتصر عليكم، فتنزل وعد الله الحق، بأن الجولة ستكون للروم على الفرس { فِي بِضْعِ سِنِينَ } غير محددة على وجه الدقة، فهل كان المؤمنون في شك من وعد الله.
كلا فقد راهن أبو بكر المشركين وضرب معهم أجلاً: فمضى الأجل، لكن أبا بكر ظل على يقينه بأن الله منجز وعده، وأمره رسول الله أن يزيد في المدة ويزيد في الرهن ففعل فانتصر الروم على الفرس (1) ، وجاء ختام السورة خطاباً للرسول والمراد أمته { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60]
الأمر واضح بين، فإن الصبر معه النصر، وإن الذين يصبرون لا يعينهم على صبرهم إلا الوعد الحق.
أما الذين لا يوقنون، سواء كانوا من الكافرين والمشركين الذين يؤمنون بالأمور المادية المحسوسة، أو من أولئك الذين يهولهم تسلط الأعداء على أهل الإيمان، فيتشككون ويثبطون، ويقولون: لا أمل في النصر، ولا مخرج من هذه الأزمات.
لماذا يقولون ذلك؟
لأنهم نسوا رب الأرض والسماء، ونسوا نصر الله للرسل والأنبياء، نسوا آيات القرآن التي يتلونها، و سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء الذين نصرهم الله، رغم أن كل الأسباب كانت على غير ما يمكن أن يحقق النصر، فهل نحن في شك في دين الله { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } [الروم : 60].
وآية أخرى جاءت في سياق مجموعة من الآيات وهي قوله تعالى { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }[غافر : 55] وحتى نرى الصورة واضحة جلية فلا بد من قراءة الآيات في السياق القرآني، قال تعالى{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (55)} [غافر : 51-55]، وقد يتساءل البعض أين هذا النصر في واقع أمتنا اليوم؟
والجواب: أن الأمر هنا كما قال أهل التفسير إما هو على سبيل العموم لا يتناول آحاد الأفراد. والقول الثاني وهو الأولى والأقوى والأظهر أن المقصود بالنصر هو الانتصار لهم، سواء كان ذلك في مشهدهم أو في مغيبهم أو حال حياتهم أو حتى بعد موتهم، ووعد الله لا يتخلف، ولن تجد لسنته تبديلا ؟ { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128]، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صـ : 88]، { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47].
يقين لا بد أن نشيعه بين أبناء أمتنا ونواجه به أعداءنا، فنحن على الحق لا نغير ولا نبدل، ونحن في طريق النصر الذي لا يتأخر ولا يتخلف إن أدينا حقه وقمنا بواجبه.
جاءت هذه الآيات تتحدث عن مشهد القيامة { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 52]، في سياق الآيات التي تتحدث عن موسى عليه السلام، وكيف أهلك الله فرعون وقومه، قال أهل التفسير وفي هذا إشارة إلى بقاء القرآن وتوريثه إلى قيام الساعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مولاه بعد أن أدى ما عليه، قال ابن كثير: ’’وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على من خالفه وناوئه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً’’ ثم ذكر نصر بدر وما مر بعد ذلك حتى قال: ’’ودانت له جزيرة العرب بكمالها ودخل الناس في دين الله أفواجاً’’ ثم قال بعد ذلك:’’وقام من بعده أصحابه فبلغوا دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة’’ ولئن قيل أين هذه الصورة، مالنا لا نراها اليوم؟ فأقول: كلا، هي اليوم مرئية على أبلغ وأظهر وأوضح ما يمكن أن تكون.
أين فلسفات الشرق والغرب؟ أين الديانات التي دخل عليها التحريف؟ ما الذي ينصرها؟ قوى عسكرية؟ تسلط سياسي؟ حصار اقتصادي؟ تريد أن تدمر الإسلام في القلوب وأن تزعزع اليقين في النفوس { وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة : 120]، يوم تتبعون ملة اليهود والنصارى حينئذ تكون الهزيمة، وأما يوم يقتل منا من يقتل ويحتل من أرضنا ما يحتل، ويدمر من بيوتنا ما يدمر فإن ذلك ليس هزيمة إن بقي الإيمان واليقين بالوعد الحق، والارتباط بالمنهج الحق، فإن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة
هكذا كان الموقنون المؤمنون عبر التاريخ، فها هو ابن تيمية يجمع العلماء والأخيار لقتال التتار ويقول: ’’والله إنكم لمنصورون فيقولون: ’’قل إن شاء الله’’ فيقول: ’’إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً’’.
واليوم نرى صور النصر كذلك في أرض الإسراء، فها نحن نرى صوراً من بداية خريف المحتل الغاشم، فرئيس يحاكم على سقوط أخلاقي وكلهم ساقطون، وآخر يرتحل لأنه لم يحسن قتالاً ولم يحقق نصراً، وثالث يوشك أن يتردى، واضطراب وخوف وهلع.
انتصار الحق اليوم بذاتيته، وانتصار الإسلام بأحقيته، نحن ننتصر اليوم بقيمنا وأخلاقنا التي تهاوت أمامها كل القيم والأخلاق يقول الألوسي في تفسيره: ’’في الآيات إشارة إلى أهل الوراثة المحمدية، أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم، وينظرون إليهم نظرة الحقارة، ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يقولون ويفعلون’’
أليس هذا الذي نسمعه عن المرابطين في أرض الإسراء؟ يقوله فئة يصدق فيها قول الله تعالى عن المنافقين { هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المنافقون : 4]، هؤلاء المنافقون قالوا يوم الأحزاب {ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً} أما المؤمنون بالوعد الحق فماذا قالوا { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } [الأحزاب : 22]، ذلك قولهم، وأما فعلهم فهو { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب : 23]،
يوم نجدد هذه السيرة سيكون النصر أقرب مما نتصور { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214]
وليس النصر مقصوراً على النصر في المعارك، فمن صور النصر الثبات على الحق والتمسك به.
أعداؤنا يريدون صرفنا عن ديننا؟ واليوم نرى إقبالا أعظم وأكثر من أبناء أمتنا نحو دينهم.
يريدون أن ينالوا من نبينا وأمتنا؟ واليوم نرى الأمة كلها تعلن النصرة لنبيها وكتاب ربها.
فالنصر آت لا محالة كما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر : 77]، وقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47]، وفي ذلك يقول الرازي: ’’غلبة الكافر على المسلم ليست بنصر، فإن النصر ما يكون عاقبته سليمة، بدليل أنه لو كانت جولة هزم فيها قوم ثم رجعوا وكروا وانتصروا فإن العاقبة لهم، وهكذا تكون العاقبة للمتقين’’ ونحن في مطلع هذا العام، ونحن نرى صورا من تسلط اليهود وعدوان النصارى وبغي من لا يقيم قدراً ولا شرفاً لدين الله ولا لحرماته، نحن نرى ذلك فلا يزيدنا إلا يقينا بأن وعد الله حق، ونقول كما قال الصحابة { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب : 22]، ونقول للمرجفين كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران : 173].
فنحن الأمة المميزة، نحن أمة الكتاب المحفوظ الأخير، نحن أمة النبي الخاتم العظيم، نحن أمة الرسالة الخالدة إلى قيام القيامة، (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) (2) قاله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
----------
الهوامش :
(1) الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده. رقم الحديث: [2633] والترمذي. رقم الحديث: [3117.
(2) رواه البخاري. رقم الحديث: [827].
*إسلاميات