التجديد الأخلاقي
د. عبد الكريم بكار
يشكل جمود الوعي مصدراً كبيراً لكثير من المشكلات، ومنها المشكلات التي تمس القضايا الأخلاقية؛ فنحن في تصورنا للمآزق والحلول الأخلاقية ما زلنا نفكر بالعقلية التي كنا نفكر بها منذ نصف قرن، حين كان الناس يعيشون في البوادي والقرى والقليل من المدن الصغيرة، وحين كان الناس يعيشون معزولين عن العالم الخارجي، ويعملون في أعمال بسيطة، كما أن وعيهم بمصالحهم كان محدوداً.... إن كل هذا قد اختلف وتبدّل تبدّلاً واضحاً، ومن الطبيعي أن تختلف مع كل هذا تصوراتهم للطمأنينة والسعادة، وتختلف كذلك طموحاتهم وأشكال التواصل بينهم، وليس في هذا ما يقلق، لكن الذي يقلق فعلاً هو عدم وجود قدر كافٍ من الوعي بما يحدث من تغيرات شبه جذرية على صعيد الأخلاق والقيم الفردية والاجتماعية، مما يؤدي إلى برودة أفعالنا عليه، وتخلّف مشروعاتنا الإصلاحية.
إن التديّن الصحيح هو الذي يقدم للمسلم التوازن على الصعيد النفسي، ومن خلال وجود أفراد كثيرين متوازنين نفسياً يتكون مجتمع مسلم متوازن. وأعتقد أن مساقات التوازن كثيرة جداً لكن أهمَّها مساقان:
1. التوازن بين الروحانيات والماديات.
2. التوازن بين الشؤون الفردية والشؤون الاجتماعية، أو بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
وقد كان تحقيق التوازن سهلاً في الماضي على الصعيد الأول بسبب بساطة الحياة وقلة الضغوطات المادية والمعيشية، وكان المجتمع المحلي بما فيه من تلاحم وتفاهم وتعاون يؤمن درجة جيدة من التوازن بين الخاص والعام، وكانت إمكانات الفساد المالي والإداري محدودة بسبب قلة الإمكانات التي بين أيدي الناس، مما جعل تحقيق المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة محصوراً في نطاق ضيق جداً. إن كل هذا قد اختلف اليوم على نحو مثير، ويحتاج إلى علاج عاجل.
إن اللغة التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية على نحو عفوي وتلقائي توضح إلى حد بعيد اهتماماتهم الأخلاقية، كما تشرح سلم القيم لديهم، ولعلكم تلاحظون كيف يتضاءل على نحو مستمر استخدام الكلمات الدالة على الزهد، والورع، والموت، وعذاب القبر، وأهوال الحشر، والدالة على الرحمة، والمروءة، والشجاعة، والشهامة، والتضحية، والصدق، والأمانة.. وذلك لصالح انتشار الكثير من الكلمات الدالة على معانٍ شبه مضادة للمعاني السابقة، وذلك من نحو: النجاح، والشطارة، والثروة، والشهرة، والقوة، والربح، والمتعة، والنفوذ، والسعادة، والجرأة والمغامرة، وتحقيق الذات، والتأثير في الآخرين، والوعي بالمصلحة الشخصية.. وأنتم تلاحظون أن الكلمات التي تراجع استخدامها تتصل بشيئين مهمين:
1. الانشداد إلى الآخرة والتفكير بالمصير النهائي للإنسان.
2. الاستقامة الشخصية والإحساس بهموم الآخرين والعمل على مساعدتهم.
إن الفساد على الصعيد المالي والإداري كثيراً ما يعني تحويل العام إلى خاص، أي استحواذ بعض الناس على ما هو عام، من حق الجميع الاستفادة منه والانتفاع به على نحو شخصي. أما الفساد على الصعيد الاجتماعي، فإنه كثيراً ما يعني وهن القوى اللاحمة للمجتمع والمهتمة بشأنه العام، أي -بعبارة أخرى- انكباب الناس على إصلاح شأنهم الشخصي والانصراف عن رعاية الشأن العام، والبذل في سبيل المصلحة العامة.
وهذا يحدث اليوم لدينا على نطاق واسع بسبب ضعف التجديد الروحي على الصعيد الفردي، وبسبب ضعف التربية الاجتماعية، وضعف وندرة المؤسسات التي يوظف فيها الناس طاقاتهم من أجل خير المجموع.
نحن بالطبع لن نعمل على تجديد اللغة، ولكن علينا أن نعمل على تجديد القيم التي تعبر عنها اللغة، وهذا التجديد يحتاج إلى الآتي:
1. شيء جيد أن ندرك أن كل الأخلاقيين في العالم يتحركون ضد روح العصر، وضد مصالح القوى المحركة له، هذا بالإضافة إلى أن تجديد الأخلاق يحتاج إلى تجديد الإدراك والوعي والنفس والسلوك، وهذه أشياء كبيرة عدة، ويحتاج تجديدها إلى وقت طويل.
2. في كل دول العالم حكماء ومفكرون كبار يشعرون بقريب مما نشعر به، وهم يقومون ببذل جهود كبيرة من أجل تجديد ما يعتقدون أنه أخلاق أساسية لشعوبهم، ولديهم أفكار نيّرة في هذا الشأن يمكن لنا أن نستفيد من كثير منها.
3. إن كل بلد إسلامي يحتاج إلى مركز كبير وقوي من أجل رصد التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على مجتمعه على الصعيد الخلقي على مستوى الفرد والأسرة والمجموعات، وهذا الرصيد بالغ الأهمية، والأرقام التي ستصدر عنه ستشكل مادة ممتازة لكل العاملين في حقول الدعوة والإعلام والتربية والإرشاد الاجتماعي.
4. على المدارس أن تهتم اهتماماً شديداً بما يمكن أن نسميه(التدريب الأخلاقي) وذلك من أجل تنمية روح التطوير والإيثار والصدق والجدية.. في نفوس طلابها، وبعض المدارس في بعض الدول المتقدمة تدرّب طلابها على أشياء كثيرة من هذا القبيل، منها -على سبيل المثال- التدريب على حل النزاعات بين الأقران والزملاء!
5. كل واحد منا مطالب من أجل أن يصبح التجديد الأخلاقي حقيقة واقعة بأن يجعل من نفسه قدوة لمن حوله في خلق من الأخلاق الحميدة؛ إذ إن عدوى الأرواح والنفوس قريب من عدوى الأجسام. إن القدوات يؤثرون فينا على نحو صامت، ويدفعون بالفضائل إلى سطح الوعي، والأمة في حاجة إلى أكبر عدد منهم.
والله من وراء المقصد.
د. عبد الكريم بكار
يشكل جمود الوعي مصدراً كبيراً لكثير من المشكلات، ومنها المشكلات التي تمس القضايا الأخلاقية؛ فنحن في تصورنا للمآزق والحلول الأخلاقية ما زلنا نفكر بالعقلية التي كنا نفكر بها منذ نصف قرن، حين كان الناس يعيشون في البوادي والقرى والقليل من المدن الصغيرة، وحين كان الناس يعيشون معزولين عن العالم الخارجي، ويعملون في أعمال بسيطة، كما أن وعيهم بمصالحهم كان محدوداً.... إن كل هذا قد اختلف وتبدّل تبدّلاً واضحاً، ومن الطبيعي أن تختلف مع كل هذا تصوراتهم للطمأنينة والسعادة، وتختلف كذلك طموحاتهم وأشكال التواصل بينهم، وليس في هذا ما يقلق، لكن الذي يقلق فعلاً هو عدم وجود قدر كافٍ من الوعي بما يحدث من تغيرات شبه جذرية على صعيد الأخلاق والقيم الفردية والاجتماعية، مما يؤدي إلى برودة أفعالنا عليه، وتخلّف مشروعاتنا الإصلاحية.
إن التديّن الصحيح هو الذي يقدم للمسلم التوازن على الصعيد النفسي، ومن خلال وجود أفراد كثيرين متوازنين نفسياً يتكون مجتمع مسلم متوازن. وأعتقد أن مساقات التوازن كثيرة جداً لكن أهمَّها مساقان:
1. التوازن بين الروحانيات والماديات.
2. التوازن بين الشؤون الفردية والشؤون الاجتماعية، أو بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
وقد كان تحقيق التوازن سهلاً في الماضي على الصعيد الأول بسبب بساطة الحياة وقلة الضغوطات المادية والمعيشية، وكان المجتمع المحلي بما فيه من تلاحم وتفاهم وتعاون يؤمن درجة جيدة من التوازن بين الخاص والعام، وكانت إمكانات الفساد المالي والإداري محدودة بسبب قلة الإمكانات التي بين أيدي الناس، مما جعل تحقيق المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة محصوراً في نطاق ضيق جداً. إن كل هذا قد اختلف اليوم على نحو مثير، ويحتاج إلى علاج عاجل.
إن اللغة التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية على نحو عفوي وتلقائي توضح إلى حد بعيد اهتماماتهم الأخلاقية، كما تشرح سلم القيم لديهم، ولعلكم تلاحظون كيف يتضاءل على نحو مستمر استخدام الكلمات الدالة على الزهد، والورع، والموت، وعذاب القبر، وأهوال الحشر، والدالة على الرحمة، والمروءة، والشجاعة، والشهامة، والتضحية، والصدق، والأمانة.. وذلك لصالح انتشار الكثير من الكلمات الدالة على معانٍ شبه مضادة للمعاني السابقة، وذلك من نحو: النجاح، والشطارة، والثروة، والشهرة، والقوة، والربح، والمتعة، والنفوذ، والسعادة، والجرأة والمغامرة، وتحقيق الذات، والتأثير في الآخرين، والوعي بالمصلحة الشخصية.. وأنتم تلاحظون أن الكلمات التي تراجع استخدامها تتصل بشيئين مهمين:
1. الانشداد إلى الآخرة والتفكير بالمصير النهائي للإنسان.
2. الاستقامة الشخصية والإحساس بهموم الآخرين والعمل على مساعدتهم.
إن الفساد على الصعيد المالي والإداري كثيراً ما يعني تحويل العام إلى خاص، أي استحواذ بعض الناس على ما هو عام، من حق الجميع الاستفادة منه والانتفاع به على نحو شخصي. أما الفساد على الصعيد الاجتماعي، فإنه كثيراً ما يعني وهن القوى اللاحمة للمجتمع والمهتمة بشأنه العام، أي -بعبارة أخرى- انكباب الناس على إصلاح شأنهم الشخصي والانصراف عن رعاية الشأن العام، والبذل في سبيل المصلحة العامة.
وهذا يحدث اليوم لدينا على نطاق واسع بسبب ضعف التجديد الروحي على الصعيد الفردي، وبسبب ضعف التربية الاجتماعية، وضعف وندرة المؤسسات التي يوظف فيها الناس طاقاتهم من أجل خير المجموع.
نحن بالطبع لن نعمل على تجديد اللغة، ولكن علينا أن نعمل على تجديد القيم التي تعبر عنها اللغة، وهذا التجديد يحتاج إلى الآتي:
1. شيء جيد أن ندرك أن كل الأخلاقيين في العالم يتحركون ضد روح العصر، وضد مصالح القوى المحركة له، هذا بالإضافة إلى أن تجديد الأخلاق يحتاج إلى تجديد الإدراك والوعي والنفس والسلوك، وهذه أشياء كبيرة عدة، ويحتاج تجديدها إلى وقت طويل.
2. في كل دول العالم حكماء ومفكرون كبار يشعرون بقريب مما نشعر به، وهم يقومون ببذل جهود كبيرة من أجل تجديد ما يعتقدون أنه أخلاق أساسية لشعوبهم، ولديهم أفكار نيّرة في هذا الشأن يمكن لنا أن نستفيد من كثير منها.
3. إن كل بلد إسلامي يحتاج إلى مركز كبير وقوي من أجل رصد التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على مجتمعه على الصعيد الخلقي على مستوى الفرد والأسرة والمجموعات، وهذا الرصيد بالغ الأهمية، والأرقام التي ستصدر عنه ستشكل مادة ممتازة لكل العاملين في حقول الدعوة والإعلام والتربية والإرشاد الاجتماعي.
4. على المدارس أن تهتم اهتماماً شديداً بما يمكن أن نسميه(التدريب الأخلاقي) وذلك من أجل تنمية روح التطوير والإيثار والصدق والجدية.. في نفوس طلابها، وبعض المدارس في بعض الدول المتقدمة تدرّب طلابها على أشياء كثيرة من هذا القبيل، منها -على سبيل المثال- التدريب على حل النزاعات بين الأقران والزملاء!
5. كل واحد منا مطالب من أجل أن يصبح التجديد الأخلاقي حقيقة واقعة بأن يجعل من نفسه قدوة لمن حوله في خلق من الأخلاق الحميدة؛ إذ إن عدوى الأرواح والنفوس قريب من عدوى الأجسام. إن القدوات يؤثرون فينا على نحو صامت، ويدفعون بالفضائل إلى سطح الوعي، والأمة في حاجة إلى أكبر عدد منهم.
والله من وراء المقصد.