مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإخلاص من رسالة التعاليم
لإخلاص من رسالة التعاليم

أ. جمعة أمين

إن من أخطر ما يؤثر في بناء شخصية المسلم ويقلِّل أو يزيد من فاعليته وحركته من أجل بناء دولته، وتوطيد أركان دعوته: درجة وضوح فكرته، وضوحًا يحدده الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والحب الوثيق، والعمل المتواصل، والوعي الكامل.

ولا يكفي هذا الوضوح فحسب، بل لا بد أن يتبع ذلك الإخلاص والعمل الصالح ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبِادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: 110)؛ ذلك لأن الإخلاص هو لبُّ العبادات وروحها، فبدونه يصبح العمل كشجرة خبيثة اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

إن الإخلاص إذا شابته شائبةٌ لا يتحقق به نصرٌ، ولا يتوحَّد به صفٌّ، بل تكون الهزيمة محقَّقةً، وانتصار الأعداء لا مفرَّ منه؛ لأنهم أكثر عدةً وعتادًا، ولا ينتصر الضعيف على القوي، ولا القليل على الكثير، ولا الأعزل على المسلَّح إلا بالإخلاص والأخذ بالأسباب ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيْرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِيْنَ﴾ (البقرة: من الآية 249) وكذلك واصلت الدعوة الإسلامية طريقها وأصبح لها تاريخ ولها أمة لن تموت بفضل الله ثم بفضل رجالها، المخلصين لمنهجهم، المخلصين لجماعتهم، المخلصين لقيادتهم، بعد أن حقَّقوا عقْد الإيمان بينهم وبين خالقهم وعقْد الأخوَّة فيما بينهم بصبر لا ينفد، وعزم لا يلين، وثبات لا يهتزّ، واصطبغوا بصبغة الله، ومن أحسن من الله صبغةً في كل صغير وكبير، واستعلوا على شهواتهم، ولم تستعبدْهم لذاتهم، ولم تستذلهم أهواؤهم، فإذا أعطوا أعطوا لله، وإذا منعوا فلله.

أخطار تهدد الإخلاص

ولذلك فإن حرارة الإخلاص تنطفئ رويدًا كلما هاجت في النفس نوازع الأثرة وحب الثناء، والتطلع إلى الجاه، وبعد الصيت، والرغبة في العلو والافتخار وحب الظهور، والرغبة في أن يُرى الإنسان في مقدمة الصفوف وأماكن التوجيه؛ ذلك لأن الله يحب العمل النقي من الشوائب المكدرة ﴿أَلاَ للهِ الدِّيْنُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: من الآية 3)؛ من أجل ذلك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: ’’اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة’’ (رواه الحاكم).



لهذا وجب على الداعي إلى الله أن يجعل عمله منزهًا عن الشوائب، يؤثِر ما عند الله، ويحتسب بدينه ودنياه رِضا الله سبحانه وتعالى، ويتولَّد بهذا الإخلاص أمهاتُ الفضائل ويسودُ الخلقُ الكريمُ، والنهج القويم، والسلوك الحميد، وتنمحي أمهات الرذائل؛ لأن المخلص لدينه صادقٌ مع نفسه، صادقٌ مع ربه، محسنٌ في عمله؛ من أجل ذلك كان من سمات الرعيل الأول صدق الحديث، ودقة الأداء، وضبط الكلام، فتحقق مجتمع العدل والإحسان.

صحة الفهم وحسن القصد

يقول ابن القيم في (إعلام الموقِّعين):

’’إن صحة الفهم، وحسن القصد، من أعظم نعم الله التي أنعمها على عبده، بل ما أُعطي عبدٌ بعد الإسلام أفضل وأجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبهما يأمن العبد طريقَ المغضوب عليهم، الذين فسد قصدُهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المُنعَم عليهم الذين حسُنَت أفهامهم وتصورهم’’.

قالوا في الإخلاص

يقول الفضيل بن عياض: ’’ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يُعافيك الله منهما’’، ويقول الجنيد: ’’الإخلاص سرٌّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله’’، وقال سليمان: طوبى لمن صحَّت له خطوةٌ واحدةٌ لا يريد بها إلا الله تعالى، وقال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.

ركن الإخلاص في رسالة (التعاليم)

يقول الإمام حسن البنا: وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ بقوله وعمله وجهده وجهَ الله، وابتغاءَ مرضاته وحُسْنَ مثوبته، من غير نظرٍ إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدُّم أو تأخُّر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة لا جندي غرض ومنفعة ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِيْ وَنُسُكِيْ وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِيْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ* لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ..﴾ (الأنعام: 162، 163) وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم: ’’الله غايتنا’’ و’’الله أكبر ولله الحمد’’.

معنى الإخلاص

في الدين يضاد الشرك؛ لأن الشرك يشوب الإيمان ويخالطه، فمن ليس مخلصًا فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات.. منه ما يُخرِج من الملة وهو الجليّ، ومنه ما لا يُخرِج وهو الخفي الذي أمرنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن نستعيذ منه: ’’اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه’’.

الإخلاص والنية

بين النية والإخلاص خيط رفيع، فالنية هي القصد وعزم القلب على عمل الفرض أو غيره، أي فعل العبادة تقربًا إلى الله وحده، وإن شئت قلت: النية هي الإرادة الجازمة بحيث تؤدَّى العبادة لله وحده، فلو نطق الإنسان بلسانه دون أن يقصد العبادة بقلبه فلا يكون مؤديًا لها، فمن عبَدَ لغرض دنيوي كأن يُمدح عند الناس، فإذا لم يُمدَح لم يؤدها.. فإنه لا يكون عابدًا، بل إن عبادته لا تصحُّ أو عبَدَ من أجل مالٍ أو شهوةٍ من الشهوات فإن عبادته تكون باطلةً ويعاقَب عليها عقابَ المرائين المجرمين، ومن هنا فإن النية لا بد لها من إخلاص في العبادة مطلقًا، فالمسلم لا بد أن يُخلص في إرادة العبادة


وهذا شيء آخر غير الخواطر النفسية، كأن يصلي وقلبه مشغول بأمر من أمور الدنيا؛ فإنها لا تفسد الصلاة، وإن كان يجب على المصلِّي الخاشع لربه أن يحاربَ هذه الوساوس بكل ما يستطيع ويخضع لله فيها، فإن عجَزَ عن ذلك ولم يستطِعْ أن ينزع من نفسه أمور الدنيا وهو واقف بين يدي الله فإنه لا يؤاخذ، ولكن عليه أن يستمرَّ في محاربة هذه الوساوس الفاسدة ليظفر بأجر العاملين المخلصين.. يقول الإمام القشيري رحمه الله: ’’الإخلاص إفراد الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر.. من تصنُّع لمخلوق، أو اكتساب محمَدة عند الناس، أو محبة مدح الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى.

الإخلاص لله تعالى

ومعناه منصرف إلى الإيمان ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، والحب فيه والبغض فيه وموالاة من أطاعه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته، وشكره عليها، وتخليص جميع الأمور من الشوائب كلها.. قليلها وكثيرها؛ حتى يتجرَّدَ فيها قصد التقرب إلى الله تعالى.

الإخلاص لكتاب الله تعالى

أما الإخلاص لكتاب الله- سبحانه وتعالى- فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيهه، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حقَّ تلاوته، وتحسينها، والخشوع عندها، والعمل على وضعه موضِعَ التنفيذ حتى يكون منهج حياة.

الإخلاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الإخلاص له- صلى الله عليه وسلم- أي تصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه ونصرته حيًّا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبثّ دعوته ونشر شريعته.

الإخلاص لأئمة المسلمين

الإخلاص لهم أي معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرُهم به، وتنبيهُهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترْك الخروج عليهم، وتآلف قلوب الناس بطاعتهم.

الإخلاص لعامة المسلمين

عامة المسلمين هم من عدا ولاة الأمر، والإخلاص لهم إرشادُهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكفّ الأذى عنهم، فيُعلِّمهم ما يجهلونه من دينهم، ويُعينُهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم وسدّ خلاّتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم. وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحقهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع الإخلاص، وتنشيط هممهم إلى الطاعات.

الإخلاص روح الدين

إن روح الدين هو الإخلاص، فبدونه ينعدم أثره؛ لأنه أساس عمل الداعي إلى الله، فلا يرتفع عمل أبدًا ما لم تصحبه نية صالحة، وما لم يقترن بإرادة وجه الله وحده.

الإخلاص يتطلب قوة إيمانية يدفع صاحبه بعد جذبٍ وشد أن يتجرَّد من المصالح الشخصية ويترفع عن الغايات الذاتية لا يبتغي من وراءه جزاءً ولا شكورًا.

فعن أبي أمامه الباهلي- رضي الله عنه-: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر. فقال رسول الله: ’’لا شيء له؛ إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا ابتغي به وجهه’’.

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ’’قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمَن عمل لي عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك’’.

فالإخلاص- إذا- فريضة على كل عابدٍ وهو في محرابه الخاص يتعامل مع ربه فحسب، فإذا اتصل بالدعاة فهو فريضة آكدة وعقد أوثق لأن الداعي في حاجةٍ إلى استدامة ذكر الله ومطالعة وجهه كي يحقق الإخلاص حتى لا يضل الغاية، ولا يحيد عن النهج في زحمةِ الحياة فتزل قدمه بعد ثبوتها.

الإخلاص والأخلاق

إن التوحيدَ الخالص هو دعوة إلى القيم الإنسانية، تلك القيم التي تستخلص من صفات الله جل شأنه وهي: قيم العلم، والحياة، والخلق والإبداع، والغنى في الذات وبالنفس، والقدرة والطاقة على العمل والفعل، والرحمة في موضوع، والشدة حين يدعو الأمر إليها، والعون على المساعدة، والترفع عن الدنايا، والملك والسيادة على النفس وقبل الغير إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي يتصف بها المخلصون لدينهم.

ذلك لأن كل حركة قلبية كالإخلاص لا بد أن يظهر لها أثر على الجوارح لأن الإيمان الخالص يتحول إلى قوة بانية، وطاقة محركة مشرقة معطاءة، لا تتراخى بصاحبها، ولا تتقاعس بهمة الكبار، بل تنطلق باحثة نحو الفضائل والمكرمات ثائرة على الفساد لتقتلعه، وعلى الظلم فترده، وعلى المعروف فتأمر به، وعلى المنكر فتنهي عنه، فيصبح الإيمان الخالص سلاح عزة وقوة.

المصدر : شبكة منارات الإسلامية .
أضافة تعليق