ما زلت مقتنعاً بأن نتائج ما جرى خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وما بعده من مجازر ومذابح وجرائم إسرائيلية هي في مجموعها بمثابة أحداث كاشفة وليست منشئة، وهنا أستعير لغة القانون في أن ما حدث لم يكن جديداً بل كان متوقعاً بسبب استمرار الاحتلال وجرائمه في كل الأحداث التي عرفتها غزة وجنوب لبنان وغيرهما من الحدود الملتهبة مع إسرائيل.
لقد وقر في ذهني دائماً أننا وقعنا في عدد من الأخطاء الخاصة بهذا الصراع الدامي الذي يقترب من عامه الـ80 وعرف فيها أهل غزة المناضلون بل وعموم الشعب الفلسطيني البطل ألواناً من القهر والإبادة والتهجير، وهي جرائم يرفضها القانون الدولي والأعراف الإنسانية والمشاعر الأخلاقية أيضاً.
إنني أكتب الآن لكي أجتر بعض الأحزان مع القارئ لعلنا نستطيع أن نخرج منها بصيغة تسمح بحياة أفضل لنا ولغيرنا في هذه المنطقة من العالم، فالشرق الأوسط الذي يضم أجزاء من غرب آسيا وشمال أفريقيا يتعرض دائماً لهذا الكم الكبير من صور الضغط وعناصر القهر وتحويل الأمور دائماً إلى أوضاع مأسوية.
وها أنا أكتب اليوم ونحن على مشارف إدارة أميركية جديدة لا أظن أن أياً منهما سيكون مختلفاً تجاه ما يجري على أرض فلسطين وربوع لبنان، فلقد أصبح واضحاً أن الجرائم الغادرة التي مارستها حكومة نتنياهو ستترك بصمات غائرة تصنع جيلاً جديداً اجترع الكراهية وازدحمت في أعماقه المشاهدات المؤلمة للأحداث البشعة التي لا تنتهي، وهنا أستاذن القارئ في أن أطرح بعض الأفكار:
أولاً، إن مساواة المحتل بمن احتلت أرضه هي مساواة ظالمة ومقارنة عبثية، فلولا استمرار الاحتلال ما بدأ العنف من جانب الكفاح الفلسطيني المسلح الذي قادته حركة حماس ، وقد يقول قائل إن أحداث السابع من أكتوبر 2023 كانت الشرارة التي انطلقت لتدمر كل ما حولها، ولست هنا في موقع انتقاد لفكر "حماس" وأسلوبها وإن كانت لنا عليه ملاحظات من موقع الحرص على سلامة المقاومة الوطنية الملتزمة شروط النضال، حتى ولو خرج الطرف الآخر عن السياق كما تفعل إسرائيل بانتهاكها لكل قواعد القانون الدولي واستخفافها بمبادئ الشرعية الدولية، لأنها ليست وحدها ولكنها تستند إلى دعم ضخم من الإمبراطورية الأميركية على غرار ما كانت تدعم به الإمبراطورية الرومانية القوى المختلفة داخل المناطق المتعددة في صراعاتها، حتى ارتبط اسم السلام بالفكر الروماني وظهر تعبير (Pax-Romana).
ثانياً، أثارت الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط شجوناً لا يمكن تغافلها وفي مقدمها أن هوة الصراع اتسعت مهما قيل حول أدبيات السلام المرتقب وفرصه الضائعة، وأرجو ألا أوصف بالتشاؤم إذا قلت إن مخزوناً ثقيلاً من مظاهر العداء والكراهية تأصل في الضمير العربي والإسلامي وأضحى الجميع اليوم على يقين من أن السلام قد يكون بعيداً، لأنه لا يفرض بالقوة ولا يأتي بقرار أممي ولكنه ينبع من ضمير الشعوب وإحساسها المشترك بالصعاب التي عاشتها والظروف التي واجهتها، وتشكلت منها جميعاً روح مختلفة تؤمن أن العنف والقهر يولدان مشاعر دفينة ذات رد فعل يصعب تجاهله أو إنكار وجوده.
ولذلك فإنني أدعي هنا أن بعض المتأسلمين سيرون في ما حدث مبرراً قوياً لبعث الشعور بالمشروع الإسلامي على حساب المشروع القومي الذي تراجعت أركانه ومظاهره إلى حد كبير، وأنا أظن وأرجو أن يكون ظني في غير محله أن جماعات متطرفة ستنشط من جديد على امتداد خريطة الشرق الأوسط وقد تطاول المصالح الغربية عموماً والأميركية خصوصاً، على نحو يعيد الأوضاع في الشرق الأوسط إلى المربع الأول وهو ما كنا نخشاه ونحذر من وقوعه، إذ إن أجيالاً جديدة من الفلسطينيين والعرب بل والأحرار في أنحاء العالم يدركون جيداً أن العقلية الإسرائيلية ليست مهيأة لمفهوم التعايش المشترك وأن رواسب الماضي بدأت تطل على الخريطة من جديد، وأن التدمير الذي لحق بالشعبين الفلسطيني واللبناني لم يقف عند حدود الدمار المادي في الحجر ولكنه دمار نفسي أيضاً لدى البشر الذين أصبحوا يدركون أن الأمور لن تمضي على ما هي عليه، بل إن أجيالاً جديدة ولدت في رحم الأحداث الأليمة ستفكر ذات يوم في الثأر لتلك الفترات الحزينة من تاريخ المنطقة، وسيتذكر الجميع قتل الأطفال واغتيال القيادات وهدم المنازل وإبادة أعداد كبيرة من البشر لمجرد الشكوك في احتمال وجود أحد العناصر المطلوبة بينهم.
ثالثاً، حاول البعض تحريك البعد الديني للصراع وهو أمر خطر، فالقدس ليست قضية دينية فحسب بل هي مدينة محتلة بعد حرب 1967 ولا يجوز النظر إليها في إطار المواجهات التاريخية والدفوع الدينية، ولا نظن أن من يعتقدون أن تديين الصراع في الشرق الأوسط هو إيجابية لمصلحة الجانب العربي والإسلامي، بل قد يكون حافزاً لاستثارة النوازع التاريخية في شهوة القتل والتدمير التي أجادها بنيامين نتنياهو على نحو غير مسبوق، واستطاع أن يوظف خطاب الكراهية الذي لا ينطق إلا به ولا يعبر إلا عنه في محاولة لتصدير مخزون العداء لدى الشعب اليهودي تجاه الشعوب الأخرى، مستهدفاً في كل الأحوال التعبير عن روح انتقامية لمعاناة اليهود تاريخياً في بعض مناطق العالم وتصدير رد فعلها إلى الشعب الفلسطيني، الذي لم يكن في يوم من الأيام طرفاً في نشأة الصراع.
حقيقة الأمر أن المسألة اليهودية جنين أوروبي وليست أبداً اكتشافاً شرق أوسطياً، ولكن دعاة الوطن اليهودي المزعوم هم الذين فكروا في صياغة المشروع الصهيوني داخل فلسطين اعتماداً على ركيزة دينية مختلقة، مع رفض الانصياع لصوت المجتمع الدولي والتعاطف الكاسح الذي حظي به الشعب الفلسطيني لدى الرأي العام الدولي، وذلك في مواجهة الدعم الأميركي والحرص الشديد لدى واشنطن وحلفائها على أن تظل الدولة العبرية الكيان المدلل فوق الجميع! حتى تحولت إلى قلعة حقيقية للإرهاب والتخويف واستفزاز شعوب المنطقة، فكان طبيعياً أن يستيقظ الجميع ويدرك الكل أن المخطط الصهيوني الأول هو إقصاء أصحاب الأرض والتمتع باحتلالها المنفرد تحت رايات الكيان العبري والدولة اليهودية.
رابعاً، أثبتت أحداث غزة وبعدها جرائم إسرائيل في جنوب لبنان بدءاً من ضاحية بيروت الجنوبية عدداً من الحقائق إذ اكتشف الجميع أن المنطقة تعج بعناصر ليست كلها على قلب رجل واحد، بل إن اغتيال القيادات الكبيرة في "حماس" و"حزب الله" وفي مقدمها إسماعيل هنية وحسن نصرالله ويحيى السنوار إنما كلها شهادات على العنف المتأصل والإجرام السياسي، الذي لا يفكر في التعايش المشترك والاندماج بين شعوب المنطقة ذات يوم لا يزال بعيداً، فقد أضرت المنطقة أحداث العام الماضي كله وما جرى منذ ظهور اصطلاح طوفان الأقصى، فمعاناة شعب غزة وفئات من الشعب اللبناني ستظل ناقوساً يُدق تسمع له الدنيا كلها مهما طال الزمن، لأن جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري وتعميم العقوبة كلها مظاهر لا تعبر عن روح العصر ولا عن حضارة الإنسان في القرن الـ21، كما أنها لا تسقط بالتقادم لأنها أقرب إلى مفهوم القرصنة والبلطجة وسرقة الأرض وإفناء الشعوب وغيرها من مظاهر سادت خلال العصور البدائية.
لقد أذهلني تصريح لأحد الشخصيات الغربية الكبيرة عندما قال إن إعمار غزة وعودتها إلى حياتها الطبيعية قد يستغرق 80 عاماً أو أكثر! وهو أمر يوضح حجم الكارثة التي تفوق النكبة والنكسة، وتشدنا نحو غياهب اليأس أحياناً ونوازع الانتقام أحياناً أخرى. إن أحزان الشرق الأوسط ستظل مرارة دائمة في حلقونا إلى أن ترعوي إسرائيل وتتوقف عن أساليبها العنصرية والعدوانية وإجراءاتها الدموية التي برعت فيها على امتداد قرن كامل من الزمان.
*نقلاً عن إندبندنت عربية