كيف تنشأ فكرة كتابٍ عند مؤلفه؟! الأكيد أن ثمة دوافع قد تبدو ثانوية قادت بعض المؤلفين لتأليف كتبهم، وبعض هذه الكتب بلغ من التأثير مبلغاً لافتاً، في فن التصنيف، أو عند أهل الزمن الذي وضع فيه الكتاب، أو من بعدهم.
كان سبب تأليف «صحيح البخاري» أن البخاري كان حاضراً درس شيخه إسحاق بن راهويه، الذي قال لطلابه: لو جمع أحد هذه الأحاديث الصحيحة. فوقعت الفكرة في قلب محمد بن إسماعيل البخاري، وصنَّف كتابه «الجامع الصحيح»، الشهير بصحيح البخاري. أما «موطأ مالك» فإن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، وكان عالماً، قال لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله، لم يبقَ في الأرض أعلم مني ومنك، وقد شغلتني الخلافة، فضع للناس كتاباً ينتفعون به، ووطّئه للناس توطئة. أي اجعله سهلاً يسيراً للناس. قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ. التقط مالك فكرة المنصور وصنَّف «الموطأ».
وناقش قوم ياقوت الحموي في اسم موضع يقال له «حباشة»، ورأي ياقوت أنه بضم الحاء، وأصرّ خصمه عناداً بلا دليل على أنه بفتح الحاء، فقاد هذا النقاش البيزنطي من جانب من لا علم لديه ياقوتاً ليضع كتابه «معجم البلدان».
وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2008، دعا الدكتور زياد بن عبد الرحمن السديري عدداً من الأكاديميين والأدباء لحضور فعاليات منتدى والده الأمير عبد الرحمن السديري للدراسات السعودية بالجوف، شمال المملكة، وكان الدكتور عبد العزيز بن ناصر المانع، والدكتور محمد الهدلق، مِن بين مَن وجّهت لهم الدعوة. ويحكي الدكتور الهدلق - رحمه الله - أن المدعوين اطلعوا على معالم أثرية في دومة الجندل (اسم الجوف التاريخي): «ثم اصطحبنا الدكتور السديري بالحافلة إلى زيارة عدد من المزارع النموذجية الواقعة في سهل منبسط، يدعى (بُسيطة)، وأثناء التجوال في ذلك السهل، ذكر الدكتور زياد أن هذه الأرض الخصبة هي التي ذكرها أبو الطيب المتنبي في أبيات له، نظمها أثناء هروبه من مصر إلى العراق، عندما قال:
بُسَيطَةُ مَهلاً سُقيتِ القِطارا تَرَكتِ عُيونَ عَبيدي حَيارى
فَظَنّوا النِعامَ عَلَيكِ النَخيلَ وَظَنّوا الصِوارَ عَلَيكِ المَنارا
فَأَمسَكَ صَحبي بِأَكوارِهِم وَقَد قَصَدَ الضِحكُ فيهِم وَجارا».
ويكمل الهدلق: «أما أنا فردَّدت مع الدكتور زياد هذه الأبيات التي كنت أحفظها وانتهى الأمر بالنسبة إليّ عند هذا الحد. أما صديقي وزميلي الدكتور عبد العزيز المانع فقد قدحت هذه الأبيات في خاطره فكرة، ما لبث أن أحسن اصطيادها ثم تنفيذها، وهي تتبع خط سير المتنبي، في هروبه من مصر، كما دوّنها في قصيدته الشهيرة، التي مطلعها:
ألا كل ماشية الخيزلى فدى كل ماشية الهيدبى».
كان حديث السديري عن «بُسيطة»، بالنسبة للدكتور المانع، مثل حديث إسحاق بن راهويه للبخاري، وحديث المنصور لمالك بن أنس، وجدال من لا علم لديه مع ياقوت الحموي... إنها الفكرة عندما تقدح في ذهن المؤلف، فيتصور من جملة عارضة، فصول الكتاب، وبعض حواشيه، وربما حجم ونوع الورق الذي سيطبع عليه!
إن الفكرة التي يقذف بها شخص ما، فتتحول خطة الكتاب الأولية عند من يستمع إليه، تشبه إلى حد كبير، ما جاء في الحديث: «رُبَّ حامِل فقه إلى من هو أفقه منه».
عاد القوم إلى الرياض، وعاد المانع بكتاب بدأ العمل عليه في ذهنه، وموضوعه ليس أدبياً، ولا هو تحقيق مخطوطة لكتاب من كتب التراث، بل هو بالإضافة إلى ذلك، عمل جغرافي وتاريخي، وهو لا يقتصر على بحث يمكن أن ينجزه الباحث من مكتبه، بل هو عمل يتطلب الوقوف على خط سير الرحلة، التي تمتد لمسافة 2000 كيلومتر، وتمر عبر 5 دول. هي مصر، والأردن، وسوريا، والسعودية، والعراق.
الدكتور المانع، المولود في مدينة شقراء وسط السعودية في عام 1943، أستاذ اللغة والأدب بجامعة الملك سعود، ما هو بغريب على أبي الطيب، ولا المتنبي بالغريب عليه، إذ من بين عشرات كتب التراث التي حققها المانع، كتاب ابن جني «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي»، وكتاب الزوزني «قشر الفسر»، وهو نقد لشرح ابن جني المتقدم، وكتاب ابن معقل الأزدي المهلبي «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي».
وللحديث تتمة.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط