روى أبو الفرج الأصبهاني، أن الخليفة أبو جعفر المنصور، وكان عالماً، بلغ حِرصه على العلم مرحلة الشغف، عارفاً بالشعر، والأدب، لمّا مات ابنه جعفر الأكبر، وانصرف حزيناً إلى قصره بعد دفنه، تطلع إلى السَلْوَى، فما وجدها لِفَرطِ أَدَبِهِ، إلا في الشعر، فالتفت إلى وزيره الربيع، وقال: انظر مَن في أَهلِي يُنشِدُنِي: (أَمِنَ المَنُونِ وَرَيبِهَا تَتَوَجَّعُ)، حتى أتسلَّى بها عن مصيبتي. قال الربيع: فخرجتُ إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور، فسألتهم عنها، فلم يكن فيهم أَحَدٌ يحفظها، فرجعت فأخبرته، فقال: واللهِ لَمُصِيبَتِي بِأَهلِ بيتي، ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا؛ لِقِلَة رغبتهم في الأدب، أَعظمُ وأَشدُّ عَلَيَّ من مصيبتي بابني! ثم قال: انظر هل في القواد والعوام من الجند مَن يعرفها، فإني أحبُّ أن أسمعها من إنسان ينشدها، فخرجتُ فاعترضتُ الناس، فلم أَجِد أَحَدَاً يُنشِدُهَا إِلَّا شيخاً كبيراً مُؤَدباً، قد انصرف من موضع تأديبه، فسألته: هل تحفظ شيئاً من الشعر؟ فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب. فقلت: أنشدني. فابتدأ هذه القصيدة العينية، فقلت له: أنت بُغيَتِي، ثُمَّ أوصلته إلى المنصور، فاستنشده إياها، فلما قال: (والدهرُ ليس بمُعتِب مَنْ يَجْزَعُ)، قال المنصور: صدق والله، فأنشِدنِي هذا البيت مائة مرة، ليتردد هذا المصراع عليَّ، فأنشدَه، ثم مَرَّ فيها، فلمّا انتهى إلى قوله: (والدَهرُ لَا يَبْقَى على حَدَثَانِهِ جَوْنُ السَّراة لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ). قال الخليفة: سَلَا أبو ذؤيبٍ، عند هذا القول. ثم أمر الشيخ بالانصراف، فتبعه الربيع، وسأله: أأمر لك أمير المؤمنين بشيء؟ فأراني صرة في يده فيها مائة درهم.
وإِن تَعجب فَكُلُّ العَجب، في موقف أبي جعفر المنصور من انعدام من يحفظ هذه القصيدة النادرة، الثمينة، بين أهله، لدرجة اعتباره ذلك فجيعة تفوق فجيعته بفقدان فلذة كبده. وهو ما يُؤَكِدُ، كيف كان المتقدمون من الخلفاء يحرصون علي تعليم أولادهم القرآن والأدب والشعر.
أما شاعرنا، أبو ذُؤَيب الهذلي، (ت: 27ه)، فشاعر فحلٌ، عاش الجاهلية، وأدرك الإسلام، فعُدَّ مُخَضرَمَاً، وشارك في الفتوحات مع الجيوش، وعاد وثُلَّةٌ من المحاربين بعد فتح أفريقيا، ليُبَشِّروا الخليفة عثمان بن عفان بالفتح، وبينما هم في طريقهم إلى المدينة، مروراً بمصر، مات بها.
وتعد قبيلته هذيل أشعر العرب. يقول البغدادي: «أشعر هذيل بلا مدافعة أبو ذؤيب». وأشهر شعره قصيدته العينية، التي رَثَى فيها خمسة من أبنائه، هلكوا بالطاعون، في عام واحد، فماذا يقول في هذه القصيدة، التي نُظمت على فاجعة تَهُدُّ الجبال هدّاً، لكن عينيته باتت سلوى كل مكلوم، كما مَررنا بأبي جعفر المنصور؟!
أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ
وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ
يبدأ قصيدته بسؤال يواجه فيه حقيقة الموت التي لا يُجادل فيها أحد، متسائلاً: هل تتوجع على حقيقة الموت التي لا مفرَّ منها؟! ثم يعود ليجيب نفسه بحكمة مفادها أن صروف الزمان لا تخفف المصيبة إذا حلت على من يجزع اعتراضاً على ما لا يمكن تغييره!
قَالت أُمَيمَة مَا لِجِسمِكَ شَاحِبَاً
مُنذُ اِبتَذَلتَ وَمِثلُ مَالِكَ يَنفَعُ
تسأل أميمة، ويُحتمل أن تكون زوجته أو ابنته: ما سبب هزال جسمك إثر هذه الفاجعة؟ ولمَ لا تستخدم مالك في استئجار من يخدمك ويخفف عنك الحمل؟
أَمْ مَا لِجَنبِكَ لا يُلائِمُ مَضجَعَاً
إِلّا أَقَضَّ عَلَيكَ ذَاكَ المَضجَعُ
ولِمَ أَصبَحَ السُهَادُ مُلازِمَاً لَك؛ فلا تَستَقِرُّ عَلى وَضعٍ تَنَامُ فِيهِ، َكَأَنَكَ تَتَوَسَدُ الحَصَى، فَيَزِيدُ أرقك وهُزَالُكَ؟
فَأَجبتُها أَنْ مَا لِجِسمِي أَنَّهُ
أَودَى بَنِيَّ مِنَ البِلادِ فَوَدَّعوا
فيجيبها: إنَّ ما ألمَّ بي من فاجعة فقد أولادي، هو سبب هزالي وسهري.
أَودَى بَنِيَّ وَأَعقَبُونِي غُصَّة
بَعدَ الرُّقادِ وَعَبرَة لا تُقلِعُ
إن هذه المصيبة التي أودت بأولادي أورثتني غُصَّة فقدانهم التي حرمتني الرقاد، وعَبْرَة تحتلّ عيني فلا تغادرها.
وَلَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ
فَإِذا المَنِيِّة أَقبَلَت لا تُدفَعُ
وَإِذا المَنِيَّة أَنشَبَت أَظفارَها
أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَة لا تَنفَعُ
فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها
سُمِلَت بشَوكٍ فَهِي عورٌ تَدمَعُ
وما فقدت أولادي لعدم حرصي عليهم، وعنايتي بهم، على العكس، لكن إذا حلَّ الموت فلا رادَّ له. وإذا غرس الموت أظافره وتمكن منك، فلا يمكنك دفعه بأي طريقة. ولقد صارت عيني بعد فراقهم من كثرة البكاء عليهم كأن حدقتها فُقئت بالشوك فأصبحت عوراء مما أصابها، لكنَّ العور لم يمنع سح الدموع.
وَالنَفسُ راغِبِة إِذا رَغَّبتَها
فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ
قال الأصمعي عن البيت السابق: «هذا أبرع بيتٍ قَالتهُ العرب، عَجب من العَجب جَوْدَة». وصدقَ، فالبيت يقطرُ عذوبة، وصدقاً، ويقَدِّم رُكنَاً من أركان التعامل مع النفس البشرية، يضبطُ فورتها، ويلجم ثورتها، فإن أطلقت لها العَنان، أقبلت بقضها وقضيضها، كأنها لا تعرف إدباراً، وإذا رددتها إلى حيث تستكين ولا تطغى، ولو قَدَّمتَ لها شيئا يسيراً قبلت به واقتنعت، فأنت سائس نفسك، المتحكم بها، وما تكن عليه نفسك من طمع وجشع وشراهة، هو صنيعتكَ، وأنت المسؤول أيضاً عن تهذيب هذه النفس وجعلها وادعةً قانعةً معينةً لك، لا عوناً عليك.
ومن ذَاتِ مَعِين بَيتِ أَبِي ذُؤَيبٍ البارع، ومعناه الرائع، غَرَفَ البوصيري، في بردته الشهيرة، قوله:
والنفسُ كالطفلِ إن تُهْمِلهُ شَبَّ على
حُبِّ الرَّضَاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم
ومن ذات المورد العذب، شَرِبَ أحمد شوقي، في (نهج البردة)، فأسقانا ماءً زُلالاً حين قال:
وَالنَّفسُ مِن خَيرِها في خَيرِ عافِيَة
وَالنَّفسُ مِن شَرِّها في مَرتَعٍ وَخِمِ
تطغى إذا مُكِّنَت مِن لَذَّة وَهَوَى
طَغْي الجِيَادِ إِذَا عَضَّتْ على الشكَمِ
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط*