مع تصاعد النزاعات والتوتر بين القوى الاقتصادية التقليدية والقوى الصاعدة برز تعبير عالم الجنوب، أو دول الجنوب العالمي، ليحل محل ما جرى تسميته بالعالم الثالث ليعبر عن أوضاع البلدان النامية متوسطة ومنخفضة الدخل، ويدمج تعبير عالم الجنوب كمصطلح -تواتر استخدامه مؤخراً- أبعاداً جيوسياسية مع الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية لتمييزها عن البلدان مرتفعة الدخل ذات الاقتصادات المتقدمة في الشمال.
ويعود استخدام عالم الجنوب كمصطلح إلى مقالة كتبها الكاتب الأمريكي اليساري كارل أوجليسبي في عام 1969 منتقداً فيها موقف بلاده من حرب فيتنام، وسيطرة الشمال على مقدرات الجنوب.
وقد استمر استخدام هذا المصطلح منذ ذلك الوقت في المحافل الأكاديمية وبعض المنظمات الدولية. ولكن في عام 2023 بدأ استخدام المصطلح في التوسع ووُصفت به دول تقف على الحياد في حرب أوكرانيا. ويراه بعض المعلقين، خاصة في الدوريات والصحف الغربية، مستفزاً ومثيراً للغضب سياسياً. كما يراه البعض منهم غير دقيق؛ إذ تقع أهم بلدان عالم الجنوب اقتصادياً وديموجرافياً في نصف العالم الشمالي جغرافياً مثل الصين والهند. كما أنَّ دوله تتباين من حيث الدخول، وتتنوع من حيث النظم السياسية بين ديمقراطية وديكتاتورية أو متراوحة بينهما. ولكن هذا التعبير قد وحد بلداناً، بالرغم من تناقضاتهم المعروفة، من حيث مواقفها وتعاملها مع دول الشمال.
فكما شرحت مجموعة من متخصصي العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية، منهم سارة ستيفانو بجامعة سواس اللندنية، أنَّ عالم الجنوب لا يعبر عن دول تقع جنوب خط الاستواء، ولكنه مفهوم ينتسب إلى الجغرافيا التاريخية يصل بين أقاليم لها تاريخ مشترك من المعاناة تحت وطأة السيطرة الاستعمارية ممتدة الأثر للزمن المعاصر. وهذا الأثر الممتد جاء بفعل قواعد العمل وفقاً للنظام المالي العالمي بما يحاكي بطرق جديدة نهج العلاقات في العهد الاستعماري. ومن ثم، ما زالت تواجه بلدان عالم الجنوب صعوبات جمة في إدارة الأزمات وتمويل التنمية. وقد ظهرت أعراض هذا فيما عاناه مواطنو الجنوب من مصاعب إبان جائحة كوفيد - 19، خاصة من كان منهم في أسواق العمل غير الرسمية أو من ذوي الدخول المتدنية في أطراف سلاسل الإمداد. فهناك دول من الشمال تحظى بمميزات السبق في الثورة الصناعية، كما استفادت من الحالة المستمرة للتبادل اللا متكافئ في التجارة الدولية بينها وبين البلدان الأقل دخلاً وأجوراً. ومن البلدان المتقدمة ما أضاف إلى ثرواتها ما تم استغلاله من ثروات الجنوب بأساليب النهب الاستعماري، ومنهم من أضاف لاقتصاداته مزيداً من امتيازات المنتصرين بعد الحرب العالمية الثانية.
وتبشر التطورات في عالم الجنوب بتمردها على ركود الأحوال في العهد البائد لمفهوم العالم الثالث. وقد باد هذا المفهوم وتبعاته لارتباطه بالعالم الثاني الذي زال مع سقوط حائط برلين في عام 1989 وتحرر دول ما وراء الستار الحديدي مما كبح اقتصاداتها وقمع حرياتها السياسية لعقود. كما أنَّ ما يمكن اعتباره بالعالم الأول، والمقصود به البلدان الرأسمالية، فقد تعرض لزلزال الأزمة المالية العالمية في عام 2008 الذي كان مدمراً لقواعده وليس فقط لبعض أعمدته؛ فالآثار السياسية المحلية والدولية على البلدان الرأسمالية كانت أكثر خطراً وأطول مدى من التداعيات الاقتصادية. يعبر عن ذلك المشهد المستمر لتصاعد تيارات اليمين المتطرف وموجات العنصرية، واختيارات عجيبة لقيادات سياسية لسدة الحكم بانتخابات عبرت نتائجها عن استقطاب سياسي حاد واضطرابات اجتماعية وتفاوت اقتصادي. كما أدركت البلدان المتقدمة أنَّ الميزان النسبي للقوة الاقتصادية بدأ يميل تجاه دول الشرق الصاعدة حيث الصين والهند وبلدان الآسيان، ففيها يجتمع الزخم البشري المتدفق مع حيوية الاستثمار في التعلم والمعرفة والابتكار، وزيادة الإنتاجية ومن ثَمَّ نمو النواتج المحلية والدخول مع بروز طبقة وسطى شديدة الطموح والعنفوان.
ورغم الصدمات الخارجية والتوترات الداخلية والقصور في التعامل معها، إلا أنَّ هناك صعوداً مطرداً لبلدان من عالم الجنوب التي تضم مع اقتصادات الشرق الآسيوي الصاعدة دولاً من أمريكا اللاتينية مع تجارب عازمة على التقدم في الشرق الأوسط وإفريقيا. ومع هذه التطورات المتسارعة فما كان من الاقتصادات المتقدمة إلا أنَّ نفضت التراب عن العمل بالأساليب الحمائية العتيقة ومنها ما بطل العمل بها منذ أزمنة غابرة.
تناقش هذه المقالة واقع وتحديات اقتصادات دول عالم الجنوب، ومدى تأثرها بالتغيرات العالمية، وما تتعرض له من صدمات ومربكات وتفاعلها معها، وسبل التصدي لها.
أولًا: عودة “السياسات التي لايجب أن تُسمى”
المقصود بـ “السياسات التي لا يجب أن تسمى”- التي أتت كعنوان لدراسة أعدها خبراء في صندوق النقد الدولي في عام 2019 - هي السياسة الصناعية التي نفرت منها البلدان المتقدمة لعدة عقود باعتبارها تنطوي على إجراءات تتدخل في قواعد العمل بآليات السوق التي انحازت لها لعقود تلت الحرب العالمية الثانية. وكانت هذه السياسات تتهم بعدم الكفاءة والتكلفة الباهظة على موازنات الدول واختيارها لمشروعات وقطاعات لا تتمتع بالمزايا النسبية فتنتهي بالخسارة والإفلاس. ولكن هذه السياسات عادت بقوة بعد نجاح تبنيها في دول جنوب شرق آسيا وفقاً لشروط ثلاثة محددة تمثلت في مساندة القطاع الإنتاجي المحلي في صناعات متقدمة، والتوجه التصديري، واعتماد أسس المنافسة الفعالة والخضوع للمحاسبة المنضبطة. ثم تبنت مؤخراً بلدان متقدمة تنويعة من الإجراءات بدعوى الحماية من تغيرات المناخ، وباعتبارات حمائية وتخوف من فقدانها للسبق في مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وأمست اليوم البلدان النامية لعالم الجنوب في مواجهة تحديات كبرى في تجارتها الدولية وفي قدرتها على جذب استثمارات أجنبية بما يستدعي تدابير عاجلة من حكوماتها وتنسيقاً ملزماً فيما بينها.
إنَّ الممارسات التجارية الجديدة المرتبطة بتنفيذ القانون الأمريكي للبنية الأساسية الصادر في عام 2021، وقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم الصادر في عام 2022، وكذلك ما يعرف بقانون الحد من التضخم الصادر في عام 2022 ودفعه لاستثمارات ذات توجه داخلي في مجالات تشمل الاقتصاد الأخضر والتصدي لتغيرات المناخ؛ لها آثار يوضحها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل مايك سبنس في ثلاثة عناصر: أولها، يتمثل في العلوم والتكنولوجيا ورأس المال البشري ذي الارتباط بمجالاتهم. وثانيها، تحويل مكونات صناعية بعينها وسلاسل إمدادها إلى الولايات المتحدة أو شركاء تثق بهم. وثالثها، يتناول قيودًا صريحة على التجارة والاستثمار والتكنولوجيا مع الصين.
وحالياً يوجد دعم في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في مجال أشباه الموصلات بعد اعتماد صناعتها على استيراد 90 % من احتياجاتها منها من تايوان، فوجهت لها دعماً يبلغ 39 مليار دولار من إجمالي تحفيز مالي بمقدار 280 مليار دولار لهذه الصناعات ومثيلاتها التي تعتمد على البحث والتطوير ومشاركة الاستثمارات الخاصة والتي ستكون محظور عليها المشاركة في تطوير هذه الصناعات في الصين لمدة 10 سنوات. كما يوفر قانون تخفيض التضخم ذو التوجه الداخلي والحمائي 370 مليار دولار كمعونات للاستثمارات في الطاقة النظيفة.
وفي الاتحاد الأوروبي تتصاعد النداءات بين أعضائه من أجل مواجهة السياسات الصناعية الأمريكية من خلال توفير الحماية ودعم تنافسية الأنشطة الاقتصادية الأوروبية، حيث خصص لها من صندوق التعافي من جائحة كورونا 160 مليار يورو لمشروعات الابتكارات والتحول الرقمي وصناعة البطاريات وأنشطة العمل المناخي. كما أعلن الاتحاد الأوروبي اعتزامه تطبيق إجراءات من شأنها خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ولما كان هذا الهدف يتطلب إعادة هيكلة الصناعات الأوروبية المتسببة في الانبعاثات الضارة ومطالبتها بدفع سعر كربون أعلى لحثهم على التغيير، وبزعم ألا تضار هذه الصناعات من المنافسة الخارجية من شركات خارج أوروبا لا تخضع لتسعير مرتفع مماثل للكربون، فقد قررت المفوضية الأوروبية فرض تسعير إضافي على وارداتها من الخارج في إطار”آلية تعديل حدود الكربون التي تعرف اختصاراً بـ”سي بام” وهو إجراء غير مسبوق سيؤثر على صادرات الدول النامية خاصة من الصلب والأسمدة ومشتقات الطاقة والألمونيوم والأسمنت، هذا علماً بأنَّ هذه الآلية دخلت حيز التنفيذ اعتباراً من أول شهر أكتوبر في عام 2023. وتبنت بريطانيا مؤخراً آلية مماثلة على ذات القطاعات وأضافت لها إنتاج السيراميك أيضاً. وعبر المحيط الهادئ هناك حوالي 60 شركة متميزة في اليابان تحظى بدعم 500 مليار دولار من الحكومة لحثها على الاستثمار المحلي وتخفيف الاعتماد على الصين.
ثانيًا: الميركانتيليون قادمون
يستدعي هذا كله ما كان من انتشار لأفكار الميركانتيليين الذين سيطروا بآرائهم على الاقتصاد والسياسات التجارية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، وذهبوا إلى أنَّ ثروة العالم محدودة وأنَّ على الدولة أنْ تراكم ثروتها بتقييد الواردات والتوسع في تجارتها، ولو كان ذلك من خلال خوض حروب واحتلال استيطاني، وتجارة للبشر لتوسيع أسواقها والسيطرة على الخامات وتراكم مخزونها من الذهب كمقياس للثروة.
وقد أتى آدم سميث، منشئ علم الاقتصاد الحديث في القرن الثامن عشر، بما يدحض آراء الميركانتيليين وليكشف عن مزايا التجارة الحرة على الإنتاجية والتخصص وتقسيم العمل. ومنذ منتصف القرن الماضي لطالما نادت البلدان المتقدمة اقتصادياً بتحرير التجارة ورفع القيود عن تدفقات الأموال وربط المعاملات الاقتصادية بقواعد نظام دولي أنشئت له منظمات وأبرمت بشأنه اتفاقات ملزمة وفقاً لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وإذ لا يكتفي المنتصر بكتابة التاريخ، ولكنه يسعى أيضاً لتثبيت قواعد للعبة الأمم تضمن استمرار انتصاره بأشكال أخرى غير الحرب. وهو ما كان بالفعل حتى أتت لحظات فاصلة باتت مهددة للمكاسب المستمرة والمتراكمة للقوى التقليدية مع تصاعد قوى جديدة على الصعيدين العالمي والإقليمي حققت مكاسب اقتصادية بمشقة واجتهاد وفقاً لقواعد اللعبة المتعارف عليها، فإذا بمن رسم القواعد ينتهكها ويتمرد عليها بعدما استنفذ أغراضه منها. وأصبحنا اليوم في عالم تدور تجارته ورؤوس أمواله واستثماراته وفقاً لممارسات نائية الصلة بقواعد اللعبة التي تكتظ بها نصوص الاتفاقات الدولية للتجارة والاستثمار، بل إنَّ من أدوات الاقتصاد والتمويل ما تم تسليحه هجوماً أو دفاعاً كيفما اتفق الوضع.
لقد حققت سياسات تحرير التجارة والاستثمار مكاسب لمن احترفوا ممارستها بارتفاع في معدلات النمو الاقتصادي وزيادة حجم التجارة الدولية 20 مرة منذ ستينات القرن الماضي وانخفاض لأعداد من يعانون من الفقر المدقع منذ بداية التسعينات أربع مرات لتقل نسبتهم عن 10 % من سكان العالم.
وعلى العكس من ذلك أتت الإجراءات الحمائية فكان كثير منها مرتجلاً ومنفعلاً وتجريبياً، وتم التذرع في عمومها بالتصدي لتغيرات المناخ ودفع التحول الأخضر، كما تذرعت بحماية المصالح الاقتصادية العامة ومساندة فئات المجتمع الأفقر والطبقة الوسطى والتي تتحمل تكاليف باهظة للدعم والديون والتضخم. ومن شأنها أيضاً أن تعامل بإجراءات مماثلة من الشركاء “الأصدقاء” التجاريين، وهو ما حدث بالفعل، ويهدد بمزيد من التوتر مع الصين وزيادة الارتباك في سلاسل الإمداد. ولهذا كله تأثير على اقتصادات بلدان الجنوب، وفي صياغة أولوياتها وسياساتها وتمويلها في خضم موجات متدفقة من الدعم والضرائب والرسوم الحمائية.
ثالثًا: التفتيت الاقتصادي وعواقبه
مع كل أزمة ألمت بالعالم ضاق الخناق على انسياب التجارة الدولية، وكلما فرضت قيود حمائية على الواردات والصادرات، وعلى الرغم من التأكيدات على إنها إجراءات مؤقتة واستثنائية، إلا أنها تستمر مع الوقت؛ فحينما فرضت قيود على التجارة العالمية بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 ظل الكثير منها سارياً، ثم أتت أزمة جائحة كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا لتفرض المزيد من القيود على التجارة والاستثمار.
ومع بداية هذا العام 2024 طُرحت التوقعات حول احتمالات التعافي والنمو والاستقرار النقدي والمالي للاقتصاد العالمي في ظل ما يعانيه من تفتيت، فضلاً عن تغيرات في أسسه التي نشأ عليها مع النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية؛ حيث يتمثل التغير في نمط العولمة الاقتصادية مع الانتقال المتسارع من عالم ثنائي القطبية إبان الحرب الباردة إلى أحادي القطبية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزوال الستار الحديدي، وصولاً إلى عالم اليوم متعدد الأقطاب، مع انتقال ملحوظ لمركز الجاذبية الاقتصادية نحو نصف العالم الآسيوي الأعلى نمواً والأكبر سكاناً. ومع هذا الانتقال تتزايد التوترات الجيوسياسية، وتتزايد بدورها التهديدات لمربكات أخرى، تلك المربكات التي سبق وأخذت شكل الصدمات المؤقتة التي يمكن التعامل معها أو احتواؤها مثل جائحة كوفيد 19، والتي تم احتواؤها بالأمصال والوقاية وغير ذلك من التدابير، أو تأخذ شكل مآس إنسانية قابلة للتكرار نتيجة للتعرض للكوارث الطبيعية، وإما تأخذ شكل مستجدات التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والتطبيقات الذكية وتأثيراتها على أسواق العمل والتفاوت في الدخول والثروات. كذلك تأخذ هذه المربكات تارة أخرى شكل اضطرابات مؤسسية وفي نظم الحكم، مع تصاعد تأثير اليمين المتطرف والموجات الشعبوية. ولا يجمع هذه المربكات المحتدمة أنها تحدث في بعض الأوقات على نحو متزامن، فحسب، ولكنها تعكس أيَضا إدراكاً متنامياً بأنَّ هذا العالم أصبح متقطع الأوصال سياسياً، ويعاني من التفتيت اقتصادياً.
وترصد دراسة لصندوق النقد الدولي، عن التفتيت الجيواقتصادي ومستقبل النظام الدولي متعدد الأطراف، تزايد التوجه لسياسات منكفئة نحو الداخل بإجراءات حمائية مع تصاعد لاستخدام معوقات ضد التجارة وتدفقات رؤوس الأموال وحركة العمالة عبر الحدود، وتقييد التعاون التكنولوجي؛ فعلى مدار العقد الماضي شهد العالم تبنياً لسلسلة من الإجراءات الحمائية التقليدية والمستجدة، كما اتخذت السياسات الصناعية الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا نهجاً أعاد ذكرى الحروب التجارية وممارسات سادت القرنين السادس عشر والسابع عشر بدفع البلدان إلى تراكم ثرواتها بتقييد الواردات والتوسيع في الأسواق، ولو كان ذلك كما حدث بالفعل من خلال خوض حروب وصراع استيطاني، وتجارة البشر، والسيطرة على مصادر الخامات.
ومن المهم التساؤل حول مسببات التفتيت الاقتصادي، وهل العدو الأول للاقتصاد العالمي يكمن في الصراعات الجيوسياسية وليست الإجراءات الحمائية كما يذهب الاقتصادي بجامعة هارفارد داني رودريك؟ أم أنَّ الحمائية هي التي أشعلت النيران الجيوسياسية وفقاً لتحليل الاقتصادي بينيلوبي جولدبيرج بجامعة ييل وكبيرة الاقتصاديين السابقة للبنك الدولي. ومن الجدير بالذكر أنَّ صور التفتيت الاقتصادي تزايدت حدتها بعد الجائحة، والقيود التي فرضت على خطوط الإمداد، كما عمقت الحرب في أوكرانيا حدة الاستقطاب عبر الانحيازات الجيوسياسية وما جرى من عقوبات تجارية ومالية ومن خلال تقييد نظم الدفع الدولي. ومع تباين دوافع إجراءات التفتيت لأسباب تتعلق بالأمن أو التحرر من الاعتماد على شركاء تجاريين بعينهم إلا أنها قد ترتبط بتبني سياسات محلية التوجه كإجراءات السياسة الصناعية الجديدة كتلك التي اتبعتها الولايات المتحدة مؤخراً مستندة على قانون تخفيض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم، وإجراءات دول الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالاقتصاد الأخضر والتحول الرقمي. كما يتزايد التفتيت مع إجراءات لرد الفعل للمعاملة بالمثل عندما يستشعر أطراف المعاملات الاقتصادية أنَّ عوائدها أمست في غير صالحهم تجارة أو استثماراً أو هجرة للعمالة. وهناك تقدير بأنَّ الإجراءات التي تعوق التجارة فقط قد تزايدت بثلاثة أمثال من عام 2019 حتى عام 2022؛ حيث تسببت هذه الإجراءات، التي بلغ عددها 3000 إجراء، في تراجع ناتج الاقتصاد العالمي بما يعادل 7 % من ناتجه الإجمالي.
ومن مخاطر هذا التوجه تراجع التعاون الدولي في مجالات مكافحة التغير المناخي وعلاج أزمات الديون قبل تفاقمها وتيسير حوكمة تطبيقات الذكاء الاصطناعي؛ فلا سبيل عملياً أن تعوق دول مسارات التعاون في مجالات التجارة والاستثمار ثم تتوقع تعاوناً بناءً في مجالات أخرى مثل العمل المناخي والصحة العامة، فضلاً عن مواجهة تفاقم أزمة الديون التي تواجهها بلدان عالم الجنوب.
يحول تكاثر الاضطرابات الأمنية والسياسية والاقتصادية من ارتفاع معدلات النمو لتصل لمتوسطات ما قبل الأزمات التي شهدها العالم مع بداية هذا العقد بتوال لأزمات ارتبطت بمربكات الجائحة والحرب في أوكرانيا، ثم تداعيات ما يشهده الشرق الأوسط من حرب دامية لا إنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في غزة مع مخاطر متصاعدة لتوسع نطاقها. كما أنَّ التضخم رغم تراجعه ما زال أعلى من المتوسط العالمي قبل بداية هذا العقد.
رابعًا: احتمالات المستقبل وتوقعاته
حذر تقرير الأمم المتحدة الرائد عن الوضع الاقتصادي العالمي وآفاقه لعام 2024، الصادر يوم الخميس 4 يناير 2024 من أن فترة طويلة من النمو المنخفض تلوح في الأفق، الأمر الذي يقوض التقدم المحرز على صعيد التنمية المستدامة، حيث توقع التقرير أن يتباطأ النمو الاقتصادي العالمي من نحو 2.7 % في عام 2023 إلى 2.4 % في عام 2024، ليتجه إلى مادون معدل النمو قبل جائحة كوفيد- 19 البالغ 3.0 %. كما جاء في “تقرير المخاطر العالمية 2024” الذي نُشر الأربعاء الموافق 10 يناير 2024 أن الاستخدام الواسع النطاق للمعلومات الخاطئة والمضللة وأدوات نشرها يمكن أن يقوّض شرعية الحكومات المنتخبة حديثا، ثم يأتي في الترتيب، من حيث أهمية المخاطر، التغيرات العنيفة في الطقس، والاستقطاب المجتمعي، ومخاطر الأمن السيبراني، والصراعات المسلحة، وقلة الفرص الاقتصادية، فضلاً عن التضخم، والهجرة الاضطرارية، والانكماش الاقتصادي، والتلوث.
وفقاً لاعتبارات التنمية والتقدم، فقد كان مأمولاً أن ينتهي هذا العقد بتحقيق أهداف التنمية المستدامة التي تشير تقارير متابعتها إلى أنَّ العالم في مجمله وفقاً لتقرير الأمم المتحدة عن التنمية المستدامة 2023، أنَّ الأهداف التي يمكن تقييمها بلغت 140هدف، كان منها 12 % فقط على المسار السليم لتحقيقها بحلول عام 2030، وأنَّ أكثر من 50 % منحرفة عن المسار السليم بينما تراجع الأداء عما كان عليه الوضع عند نقطة البداية في عام 2015 في أكثر من 30 % من هذه الأهداف. وبالجهود المتواضعة الحالية لن ينجح العالم الذي يعاني من استقطاب وتشرذم سياسي وتفتيت اقتصادي في تحقيق أهداف التنمية، بما في ذلك هدف القضاء على الفقر المدقع.
لا يجب أن تتمادى موجات من التفاؤل أو التشاؤم بلا منطق يساندها، فأحداث السنوات الثلاث الماضية من العقد تتبارى سوءاً بين وباء وصراعات وحرب في أوكرانيا، ثم العدوان الغاشم الذي شنته إسرائيل على غزة إثر طوفان الأقصى في 7 أكتوبر فى حين يتفاءل البعض بحوادث التاريخ القريب وانفراجاته كما فعل مركز التعاون الدولي بجامعة نيويورك، حيث ثمن من دور التحالفات الاقتصادية والتنمية في الصمود والتقدم إبان الحرب الباردة، كما قدر أهمية الجهود الدبلوماسية والسياسية من خلال النظام متعدد الأطراف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بل والانتقال نوعياً نحو الاستقرار والتعاون المشترك.
وفي هذا الإطار، ستتناول قمة المستقبل التي ستعقد في إطار أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2024، مسألة تفاقم حدة التفتيت الاقتصادي وآثاره المكلفة على النظام الدولي. ورغم تعقد وتشابك مسببات تدهور الوضع العالمي الراهن سياسياً واقتصادياً، فهناك أهمية للتصدي لها بما في ذلك الدوافع الكامنة وراء التفتيت الاقتصادي والإجراءات الحمائية والصراعات الجيوسياسية وآثارها على مدى فعالية التعاون الدولي والنظام الدولي متعدد الأطراف. فقد تحالفت هذه الدوافع في الإضرار بالشأن الدولي، وتدفع كالمعتاد التكلفة الأكبر الأطراف الأضعف في العلاقات الدولية في عالم الجنوب، وهي الأولى بالحماية؛ ليس لاعتبارات العدل فحسب لكن لما يسفر عنه تجاهل المستضعفين من عواقب وخيمة على السلم والأمن الدوليين.
ومن أولويات التعاون منع ما آلت إليه الأوضاع من تدهور في الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، والتصدي للتفاوت وعدم العدالة بين الدول، وأزمة تغير المناخ، ومهددات الصحة العالمية، وتفاقم أزمات الديون، ومستقبل التجارة والاستثمار والتمويل وانتقال العمالة عبر الحدود. مع العلم بأنَّ العالم بصدد نظام جديد تتشكل معالمه وقواعد ألعابه السياسية والاقتصادية وفقاُ لقدرات تعامل دوله مع ترتيبات قديمة تتشبث بها القوى التقليدية وإمكانيات جديدة يكتسبها ذوو القدرة على التعامل مع مستجدات العصر ومربكاته الكبرى، سواء كانوا من اللاعبين الجدد القادمين للمنافسة، أو بعض القدامى من دائمي التطور والمثابرة. ولهذا يجب أن تأتي قواعد تعامل الدولة مع المخاطر والأزمات المشار إليها في إطار سياسات متسقة محددة الأولويات، ولا يجب أن تقتصر الدولة في مواجهتها للأزمات على إجراءات متناثرة قصيرة الأجل بل وفقاً لنهج متكامل للتقدم والتنمية المستدامة.
وربما استجابت بعض الدول لدعوة مديرتي منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي في مقالة مشتركة لهما يدعوان فيه لتدبر مزايا التعاون وانسياب التجارة على الإنتاجية وفوائدها لأسواق العمل وزيادة فرص النمو من خلال التصدير وحماية الاقتصادات من خلال تنوع مصادر المنتجات إذا ما تعرضت أحد المصادر بما في ذلك المحلية منها لصدمات. ولكن الأولى بالاستجابة من يتبنون نهجاً عقيماً لتعويق حركة التجارة والاستثمار عبر الحدود.
ختامًا، إنَّ الضرورة تقتضي من بلدان الجنوب المضارة ألا تكتفي بإلقاء اللوم على منتهكي القواعد، بل يجب عليها من أجل توطين التنمية بالعمل الدولي، تحقيق أربعة أهداف: أولها، وهو الأيسر، يتمثل في إثبات وقائع الضرر من الإجراءات الحمائية في المنظمات الدولية المعنية لتذكيرها بمسئولياتها وتبيان أوجه الضرر والتعويض. ثانيها، التوسع في الترتيبات الإقليمية الجديدة التي تضم عالم الجنوب من البلدان النامية والأسواق الناشئة دفعاً للتجارة والاستثمار فيما بينها. ثالثها، التحوط في ترتيبات العمل التنموي بما في ذلك العمل المناخي ضد أي إجراء يستغلها من جانب الدول المتقدمة والمنظمات الدولية المعنية لتحقيق مكاسب من خلال الإجراءات الحمائية الجديدة. رابعها، تقييد حاسم للاستعانة بالاستدانة الدولية في تمويل التنمية ومشروعات المناخ، والدفع بالاعتماد على تعبئة الموارد المحلية مع الإصرار في حالة التمويل الخارجي على أن يكون من خلال الاستثمارات المباشرة، وأن يكون الملجأ الأخير هو التمويل الميسر طويل الأجل لمشروعات حيوية ذات أولوية.
*نقلاً عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية