مع استئناف المواجهات العسكرية في قطاع غزة، وتصميم الحكومة الإسرائيلية، على استهداف مناطق الجنوب في قطاع غزة، فإن السؤال الآن: ما حدود القوة الإسرائيلية وإلى أي مدى يمكن توظيفها في المواجهة مع مراعاة الأبعاد الداخلية الراهنة والقابلة للتغيير؟
إن الواضح أن إسرائيل ستستمر في المواجهة لفرض خيارها العسكري والأمني والاستراتيجي في قطاع غزة، وبالتالي فلن تتراجع عن هذا المخطط وفق بنك الأهداف الرئيسية الذي تعمل من خلاله والذي قد يمتد إلى توسيع نطاق العمليات النوعية في عمق القطاع، والانتقال من الشمال حيث تسيطر على مساحة تزيد على 20 كيلومتر، وأكثر إلى الجنوب لحرث الأرض تحت أقدام المقاومة الفلسطينية، وعدم إعطاء الفرصة للأخيرة لحركة حماس في تطوير قدراتها، وإعادة ترتيب أوراقها، بما قد يمثل تهديدا لأمن إسرائيل في المديين القصير والطويل الأجل، أو يعرقل أن تمارس كل قوتها في الحفاظ على مصالحها الكبرى في القطاع والضفة.
ومن ثم، فإن ما تقوم به إسرائيل في الوقت الراهن مرتبط بالفعل بما يجري من تطورات سياسية، واستراتيجية على الأرض واستمرار العمل العسكري، كما أن تنوع العمل العسكري وامتداده من عملية شاملة في كل أرجاء الشمال والجنوب، وفي الجيوب التي تتواجد فيها حركة حماس، يدفع إسرائيل للانتقال بالعمل العسكري الشامل إلى العمل النوعي حيث يجرى الحديث عن عمليات في العمق الاستراتيجي، والانتقال من مرحلة إلى أخرى لتمشيط وجود الفصائل، وعلى رأسها حركة حماس خاصة.
إن إسرائيل تتحرك في مساحة كبيرة من الخيارات على عكس ما يجري بالنسبة لحركة حماس التي تتوقف خياراتها عند حدود معينة. جزء مما يجري لا علاقة له بالواقع الاستراتيجي في ظل استهداف القدرات العسكرية الكبيرة للقوات على الأرض، وهو ما لا يمكن لحركة حماس تعويضه في الوقت الراهن برغم التقدير لوجود مقاومة رمزية ستستمر دفاعا عما يجري من خيارات فلسطينية، وفي ظل خطاب سياسي، وإعلامي ما زال يناور في مساحات ضيقة ومهمة، ويعمل في اتجاه ما تبقى من خيارات وأوراق ضغط تدرك تبعاتها الحكومة العسكرية ومجلس الحرب الذي يناور في إطار إنهاء الأمر بأكمله لصالحه مع عدم وقوع خسائر، وفي ظل الحرص على التماسك والمواجهة غير العادية، والعمل على مسارات حقيقية للتواجد والعبور من منطقة المواجهة الراهنة والمرشحة للاستمرار إلى مساحات من المواجهة الأخرى التي تتعلق بما يمكن أن يتم من خيارات تتعلق باستمرار العمل العسكري، والوصول بالعملية العسكرية الراهنة لأقصاها.
وفي ظل حسابات دقيقة تعمل عليها إسرائيل سواء إسرائيل السياسية، أو إسرائيل العسكرية فإن هناك إجماعًا حزبيًا على المضي قدما، وإلا فإن مكونات الائتلاف ستتفكك، وهو ما لن يجري في الوقت الراهن على الأقل تحسبا لأية مخاطر على الداخل، مع اعتبار أن ما يجري من دعاوى من أسر عائلات الأسرى يأتي في سياق ما، لن يكون له تأثير كبير بالمعنى العام.
إن كل القوى السياسية تريد عودة إسرائيل القوية في محيطها الإقليمي، وليست إسرائيل التي تواجه حالة من الانكسار السياسي، أو الأمني؛ بدليل أن استطلاعات الرأي في تل أبيب تؤيد الاستمرار في المواجهة، بل والحرب الممتدة ما يؤكد على أن الدولة العبرية ستكمل مسارها، وستمضي في إطار تنفيذ بنود بنك الأهداف أيًا كان إطارها، أو تكلفتها على المجتمع الإسرائيلي، وعلى هيبة ومكانة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بأكملها.
وفي إطار ما تقوم به الدولة العبرية، فإن الهدف الإسرائيلي سيبقى في إطار إجراء ترتيبات أمنية حقيقية مرتبطة بالشمال بل والجنوب، وليس فقط زحزحة الفلسطينيين في القطاع إلى الجنوب، وغلق الملف بكل فيه؛ حيث ثبت من متابعة مسار العمليات العسكرية حرص إسرائيل علي تفريغ القطاع من سكانه، وجعله غير صالح للحياة بعد ضرب البنية الأساسية، وعدم توفير الخدمات، لإفساح المجال أمام رحيل آلاف الفلسطينيين إلى الخارج سواء تجاه دول الجوار، أو إلى أوروبا عبر منفذ قبرص، وهو ما قد يؤدي إلى تصفية الوجود الفلسطيني من القطاع بأكمله، وإنهاء أية مخاطر وتهديدات يمكن أن تجري في الفترة المقبلة.
إلا أنه مع وجود مؤشرات على ما يجري من استئناف العمليات العسكرية على الجنوب، ورفض المضي قدما في خيار الهدنة الإنسانية، وعدم التوقف التكتيكي أمام الضغوطات الأمريكية، وتدخل الوسيطين القطري والمصري فيما يجري، فإننا أمام واقع يتشكل يجمع بين العسكري، وقليل من السياسة المبنية على تفاهمات أمنية من جانب واحد، أو متعددة، مع اعتماد إسرائيل على نهجها الأمني في تنفيذ ما يتم تمريره في مجلس الحرب من إجراءات، أو خيارات لصالحها في المقام الأول، حيث لا يوجد ما يدفع بخيارات أخرى على الأقل في الوقت الراهن، أو ما يجب التحسب لتداعياته، خاصة وأن تل أبيب ستحصر خيارات حركة حماس في دوائر ضيقة للغاية.
إن استئناف العمليات على جنوب غزة أو شمالها لا يعني أن الحرب ستدوم إلى حين استيفاء كل الخيارات، والشروط الرئيسة الموضوعة، فبإمكان الولايات المتحدة وقف الحرب إن أرادت والتعامل مع خيارات توافقية إذا رغبت وتضررت مصالحها في الشرق الأوسط وخارجه، وهو ما تراهن عليه المقاومة الفلسطينية بل وبعض الدول العربية.
ومن ثم، فإن ما سيجري من سيناريوهات متوقعة لما بعد العمل العسكري الراهن، والذي يتم من خلال مقاربة ممنهجة تعتمد على خيار القوة العسكرية لحسم الصراع الراهن مع الجانب الفلسطيني وليس إدارته كما كان يجري في مراحل سابقة من عم الصراع بين الجانبين.
وفي كل الأحوال سيكون هناك دائما رهانات على أن العمل العسكري مهم على الأقل للجانب الإسرائيلي لتحقيق أهدافه في مواجهة كل الأطراف بل وداخل إسرائيل ذاتها، وهو ما يمكن أن يخلف فرصة حقيقية للتعامل، والاشتباك على قاعدة مختلفة مع قطاع غزة بدون حركة حماس، مع عدم الممانعة في الدخول في شراكة رمزية مجددا مع السلطة الفلسطينية، على غرار ما يجري في مناطق ج في الضفة الغربية، وبما يقر بالفعل خيارات أخرى، وفي ظل وجود إسرائيلي دائم في القطاع من خلال دوريات محكمة على طول مناطق التماس مع قدرة عالية على مواجهة أية جيوب من داخل القطاع كما يجري في الضفة الغربية.
إن المستوى العسكري سيظل يناور لكي يحقق المعادلة الصعبة والممكنة لصالح استراتيجية الردع التي يعمل عليها في المدى القصير، ومن أجل امتلاك إسرائيل لقرارها حيث لن يكون هناك مساحة للعمل وفق مقاربة سياسية، وإنما التركيز على الخيارات العسكرية الكاملة، والتي تعيد للجمهور الإسرائيلي تقديره للمؤسسة العسكرية، ويخرج بالواقع الراهن من حالة الانكسار إلى حالة مزاجية أخرى موجهة في المقام الأول للمواطن الإسرائيلي.
*نقالً عن صحيفة العين الإخبارية*