حتى في أكثر لحظاتي تشاؤماً لم أكن أتوقع أن أستمع لحوار وضيع كالذي أدارته بي بي سي مع السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط، على هامش العدوان على غزة.
كان زملط قد تلقى أنباء استهداف منزل أقاربه، وأخبر المذيعة على الهواء بأنه علِم قبل ساعات أن ابنة عمه وزوجها وحماتها واثنين من أطفالها قد استشهدوا في غارة إسرائيلية هدمت بيتهم فوق رؤوسهم، وبأن توأميها الصغيرين بعمر عامين سيعيشان يتيمي الأم والأب بعد أن أصيبا بجراح خطيرة.
ردت المذيعة كيرستي ورك، التي تعمل في بي بي سي منذ 30 عاماً، بأنها “تشعر بالأسف لخسارته”، لكنها لم تلتقط أنفاسها قبل أن تقول: ولكنك لا تستطيع أن تتغاضى عن قتل المدنيين في إسرائيل، أليس كذلك؟”
كان ردّها وما تلاه من حوار صادماً لي لدرجة أني شككت أنه غير حقيقي! لكنه كان حقيقياً فعلاً، فقد أعادت المذيعة التأكيد على ذات المعنى حين كان زملط يشرح لها أن الطفلين ذوي العامين وغيرهما من آلاف الأطفال ليسوا من حماس! فقاطعته لتقول: “لكنّ أطفالا إسرائيليين قد قتلوا أيضاً”.
لم تجد كيرستي ورك بأساً بأن تستند إلى رواية إسرائيلية حول “الأطفال الأربعين”، رغم علمها في قرارة نفسها أنها كاذبة، لتخفف من فظاعة استهداف الأطفال الفلسطينيين، وهؤلاء لم يكونوا أطفالاً مجهولين بالنسبة لها، بل أقرباء السفير الفلسطيني الذي يحترق ألماً أمامها في الاستوديو.
حين كنا صغاراً، وبدأ وعينا يتفتح على حقيقة الانحياز الغربي ضد شعوبنا، كنا نظن أننا عندما نقلّص مسافة الاختلافات الثقافية والاجتماعية والدينية بيننا وبين الغرب، فإننا نحظى بفرص أكبر لشرح وجهة نظرنا ونيل الدعم والتعاطف مع محنة شعوبنا، كنا نؤمن بأن الحائل الوحيد بيننا هو الصور النمطية وسوء الفهم وانعدام السياق الذي يروي حكايتنا، لكن ألم تثبت هذه الحرب سقوط هذا الافتراض؟
هل كان هناك أفضل من السفير زملط ليشرح محنة الفلسطيني وهو الذي عاش لسنوات في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتخرج في أفضل جامعاتها، وتهندم بثقافتها ولغتها، وانسكبت المأساة ناعمة ومقلّمة الأظافر من جوارحه؟ لقد كرّر مراراً وتكراراً أنه ومنظمة التحرير اختاروا منذ ثلاثة عقود مساراً لا عنفياً لكن كل هذا لم يوقف محاولات ابتزازه على الهواء حتى في لحظة حزنه على أقاربه.
الحرب التي تخوضها غزة اليوم غير مسبوقة، وفاتورة الدم التي دُفعت فيها غير مسبوقة، وأقل تكريم مستحق للشهداء، وأقل عذر مستحق للأطفال، هو التوقف عن تسوّل التعاطف الغربي المشروط بأن نكون الضحايا التي تُذبح دون ضجيج ودون مقاومة.
لقد كان هذا مشهدا مكثفاً يختزل مكانتنا نحن الشرقيين الفلسطينيين، في وجدانهم ووعيهم وحساباتهم السياسية التي ما زلنا ندفع أثمانها منذ قرنين وأكثر، لقد صدّروا للعالم مقولات الحقوق والحريات والكرامة، لكنهم نسوا أن يقولوا أنها مصممة لإدامة تفوق عرقهم وسحق كل شيء دون ذلك حتى لو كانت عظام أطفالنا.
لقد استخدموا منذ عقود منهجية لكيّ الوعي ضدنا، تترك هامشاً للمناورة باسم الحقوق والقانون الدولي، يريدون من خلاله اليوم تدجين انفعالاتنا تجاه الإبادة والتطهير العرقي الذي نتعرض لهما، عبر دفعنا للتبرؤ من أشكال دعم المقاومة كافة، التي هي في ذاتها سلوك فطري، بل إدانة هذه الفطرة وتقريعها في سبيل أن يعترف الغرب بمعاناتنا. ألم يبتزونا مراراً على الشاشات لإدانة المقاومة؟
على مدار عقود كان الاشتراط الضمني لنيل التعاطف هو أن نتلبّس دور الضحية السلبية، أن ننوح على القتلى والأشلاء دون أن نتورط في قول أو فعل يردّ العدوان. استُخدم هذا السلاح عبر مؤسسات المجتمع المدني التي سُكبت فيها أموال أوروبية وأمريكية سخية لدفع فواتير الإعمار نيابة عن الاحتلال بعد كل مرة كان يقصفنا فيها، وذلك باشتراطات مجتمعية لنبذ “العنف”. من الواضح أنهم فشلوا في تدجين شعبنا، فقد أثبت كل مرة وفاءه لدفقة الكرامة التي ترعاها المقاومة، لكننا محتاجون أن نثبت وفاءنا أيضا.
على كل المقاييس، فإن الحرب التي تخوضها غزة اليوم غير مسبوقة، وفاتورة الدم التي دُفعت فيها غير مسبوقة، وأقل تكريم مستحق للشهداء، وأقل عذر مستحق للأطفال، هو التوقف عن تسوّل التعاطف الغربي المشروط بأن نكون الضحايا التي تُذبح دون ضجيج ودون مقاومة. فمن غير المنطقي أن يُطلب من الفلسطيني تفهّم عجز العالم عن انقاذ أطفاله، ولا يتفهم العالم حاجته للدفاع عنهم بكل الوسائل.
هذه هي اللحظة الأمثل لعرض روايتنا كاملة، دون استعطاف ودون خوف ودون مساومة.
كلنا يعرف أن أكثر الأصوات حقداً على فلسطين في الغرب، هم الأكثر اطلاعاً على حقيقة الإبادة المستمرة ضدنا، هؤلاء لا ينقصهم رؤية تفاصيل موتنا وخوفنا ونفينا، أما غيرهم من أصحاب الضمير الذين يخرجون للشوارع للتضامن ورفض الإبادة فمسؤوليتنا أن نقدّم لهم قصتنا كاملة، وفي القلب منها أن نشرح حقنا بأن ندفع العدوان وننتزع حريتنا، أن تكون لنا حرب استقلالنا، ككل أمة تخوض وتؤرخ لحرب استقلالها باعتزاز وشرف.
عندما يسود الصمت الرسمي عن الإبادة، ويتم دعمها بالسلاح ورفض وقف إطلاق النار، ويعجز كل المتضامنين عن إيقاف الحرب، ينتهي زمن الخجل من الحديث عن حق الفلسطيني بالدفاع عن نفسه ومقاومته. لا تترددوا في رفع الصوت بحقنا في المقاومة أياً كان موقعكم، نشطاء أو صحفيين أو أكاديميين، تزودوا بحكمة تراعي موقعكم وظروف البلدان التي تعيشون فيها، لا تقلقوا هناك أكاديميون وصحفيون إسرائيليون، هناك يهود ناجون من الهولوكوست، هناك غربيون تحدثوا عن حق الفلسطيني بأن يقاوم، وما زالت تفتح لهم أبواب الجامعات المرموقة للحديث والتوعية، ابحثوا عن هؤلاء، استمعوا لهم، وابنوا بيقظة وحكمة رواية تناسبكم.
لا تجعلوا تهم الإرهاب أو معاداة السامية تخيفكم من دعم حق الفلسطيني بأن تكون له حرب استقلاله وحريته، إذا كنتم من أصحاب الرأي أو من المؤثرين، فأنتم قادرون على التزود بالمعلومة والمنطق واليقظة لفعل كل ذلك، صحيح أن هناك أشخاص يفقدون وظائفهم وامتيازاتهم بسبب دعم فلسطين، لكن لا تنسوا بأن الناس في غزة تفقد أرواحها، أطفالها ومنازلها. السبيل الوحيد لحمايتكم وحمايتهم، هو جعل المقاومة فكرة تتوسع ويستحيل استئصالها.
تذكروا دوماً..
نحن أجمل من أن نذبح دون ضجيج..
نحن أجمل من أن نخذل بعضنا بعضاً..
نحن أجمل من أن نقبل التعاطف المشروط ومنزوع الكرامة..
*نقلاً عن المركز الفلسطيني للإعلام*