هل يمكن للتقنية أن تفكر بالنيابة عن الإنسان؟! وهل الحواسيب تدرك؟! أسئلة شغلت الفلاسفة منذ الثلث الثاني من القرن العشرين. «آلان تورن»، و«جون سيرل» تساءلا في تلك الحقبة إذا كان بإمكان الحواسيب أن تفكّر.
«تورن» - كما يلخّص نايجل واربرتون - مقتنع أن الحواسيب يمكن أن تقوم في يومٍ من الأيام بمهماتٍ أخرى غير فك الشيفرات، بل يمكنها أن تصبح ذكية، واقترح في عام 1951 اختباراً يجب على كل حاسوبٍ أن يجتازه، أصبح يعرف باختبار «تورن» للذكاء الاصطناعي، غير أنه كان يسميه «لعبة التقليد»، ومرد ذلك هو اعتقاده بأن ما يثير الإعجاب حول المخ ليس لأن له تناسق عصيدة بارجة، بل لوظيفته أهمية أكثر من الطريقة التي يرتعش بها عندما يستخرج من الرأس، أو أنه يبدو مهماً لأنه ذو لون رمادي. بينما «سيرل» يشبّه الحواسيب مثل شخصٍ في غرفة ليس له ذكاء حقاً، ولا يستطيع التفكير، كل ما يفعله هو تنظيم الرموز.
لاحقاً وفي عصرنا الحديث نهض بالمهمة فيلسوف مرموق هو هيلاري بوتنام في بحوثه «حول الذهن والمعنى والواقع»، ضمّن فلسفته في الذهن دراسة تطوّر الحاسوب. وفي حوارٍ مع مجلة هارفارد قارب هذا الموضوع، وخلاصة رأيه أن أنماط الحاسوب المستعملة في المعرفة الإدراكية، أدت إلى تراجع الحديث عن الإحساسات، في مقابل تزايد الحديث عن التفكير والإحالة في الأدب الفلسفي المكتوب الإنجليزية، لكن الفلاسفة أصحاب التوجه المادي الناطقين بهذه اللغة لم يتراجع انشغالهم بهوية «الذهن - الجسد» على العكس، لقد أعادو صياغة السؤال على النحو الآتي:«هل يتطابق كل من التفكير والإحالة مع حالات الدماغ الحاسوبية؟».
يعتبر بوتنام مثل هذه الأسئلة مضللة. لأنها نتيجة قد استغرقت سنين عدة للتوصل إليها، ودافع هذا البحث عن هوية ضمن خصائص تتعلق بوصف الفكر والإحالة والخصائص الفيزيائية أو على الأقل الحاسوبية هو الشعور بالخوف من أن البديل الوحيد هو العودة إلى الثنائية صورة شبح في آلة، ولذلك وبسبب نقاشاتٍ في فلسفة الذهن«غير قابلة للاحتواء»، تحوّل المسار للحديث عن الميتافيزيقا والإبستمولوجيا وما بعد الفلسفة.
مردّ اهتمام «بونتام» لهذا الموضوع اهتمامه بالعلاقة بين المفاهيم والعالم. إذ يعتبر مناقشته لنمط الشك الديكارتي «أدمغة في وعاء»، قصد منها الاستدلال على أن المفاهيم والعالم يستلزمان بعضهما بعضاً، وأن المفاهيم التي لديك تعتمد على العالم حيث تعيش ونوعية علاقتك به، ففكرة أن لدينا مفاهيم توجد في وسيط Private، وأنه من اللازم علينا أن نعاين ما إذا كان أي شيءٍ يتوافق معها، هي فكرة قد أثرت تأثيراً قوياً في تفكيرنا، ولكنها فكرة غير متماسكة تماماً.
برأيي أن هذا النقاش كان ممهّداً لما نعيشه اليوم من تطوّر تكنولوجي غير مسبوق. الأجهزة بما فيها الحواسيب والروبوت يمكنها أن تفكّر بحدود برمجياتها، لكن هذا التفكير منقوص بسبب عدم تمتعهما بالإدراك، ولعدم وعيهما بحدود الأحاسيس، يمكن للتطوّر المذهل أن يخفف من أعباء الإنسان ويسعفه في بعض المهام، لكن من الصعب الوصول إلى ابتكار تقني يكون بديلاً عن الإنسان في الإدراك والوعي بالعالم، «هيدغر» تنبأ بأن التقنية ستفلت من الإنسان وسيكون رهينها، لكن حتى الآن يغامر الإنسان بصلاحياته الكونية مع كل ابتكار تقني جديد، ولكنها مغامرة لن تتجاوز حدود ابتكار وسائل منجزة، لا مدركة، حتى وإن كانت تفكّر ضمن برمجياتها.
*نقلاً عن مركز الإتحاد للأخبار*