كل الانتباه الدولي الذي كان موجها نحو حرب أوكرانيا تحول الى الحرب الدائرة في غزة بين إسرائيل وحركة حماس.
فمنذ عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل، انصب كل الاهتمام الدبلوماسي والإعلامي الدوليين على غزة، وازداد بعد ان بدأت إسرائيل بالرد العسكري بالطيران ثم بالاجتياح البري. وبفعل الكلفة البشرية العالية جدا التي تجاوزت حتى الآن حدود العشرة آلاف قتيل فلسطيني فدفعت الى خروج تظاهرات في مدن كبرى في العالم متضامنة مع معاناة اهل غزة.
لكن ثمة حرب أخرى تدور منذ 24 فبراير 2024 في قلب أوروبا بين روسيا وأوكرانيا وخلفها الغرب بقيادة الولايات المتحدة لاتزال تتسبب بمزيد من التدمير في المدن والبلدات والقرى والبنى التحتية، وتُسقِط المئات من القتلى يوميا مدنيين وجنودا. انها الحرب الأوكرانية التي تدور رحاها بين عالمين يتصارعان بلا هوادة. وهي مستمرة بعنف ووحشية لا يقالان في كثير من الأحيان عما تشهده غزة.
وتشير التقديرات ان حرب أوكرانيا المتواصلة منذ أكثر من 19 شهرا على التوالي أدت الى مقتل نصف مليون شخص من الطرفين على الأقل. ودمرت خلالها العشرات من البلدات والمدن. ويحتمل ان تصل الخسائر المادية الى حد ان عادة الاعمار ستحتاج وفق توقعات المنظمات الدولية الى أكثر من 200 مليار دولار. ولا ننسى كلفة المجهود الحربي لدى الطرفين التي وصلت لغاية الان الى قرابة نصف ترليون دولار.
هذه الحرب بسبب ما يحصل في غزة أُزيحت من واجهة الرادار الدولي، على الرغم من ان الرئيس الأميركي جو بايدن قدم مباشرة إثر هجوم حماس يوم 7 أكتوبر مشروع قانون الى الكونغرس الأميركي يطلب فيه رصد مبلغ 106 مليار دولار منها 60 مليارا لدعم أوكرانيا و14 مليارا لإسرائيل. لكن المفاجأة أتت من مجلس النواب الأميركي الذي صوت على الدعم لإسرائيل، وتمهل فيما يتعلق بدعم أوكرانيا.
ما سبق يشير محاولات لمراجعة مسار الحرب في أوكرانيا في ظل غياب افق سياسي لإنهائها من دون السماح لروسيا بإعلان الانتصار فيها.
طبعا من الصعب جدا أن تعلن موسكو انتصارها في الحرب. فقد فشلت في الحاق هزيمة ساحقة بكييف، وذلك بفضل الدعم الكبير الذي قدمه الغرب بشكل عام، وأميركا بشكل خاص. ومع اقتراب فصل الشتاء وعجز الجيش الأوكراني عن تحقيق الأهداف المرسومة في الهجوم المضاد الذي أطلقه في الربيع، بات من الواضح أن الحرب قد تدوم عاما إضافيا على الأقل.
لكن الموقف الروسي ليس أفضل حالا من الموقف الأوكراني، فصمود الجيش الروسي بوجه الهجوم المضاد، لم يؤد إلى انقلاب في موازين القوى على الأرض. وتكاد الحرب التي يعجز أي من الطرفين عن حسمها لصالحه أن تتحول إلى حرب استنزاف طويلة ومكلفة جدا للطرفين. من هنا عودة التركيز في أروقة الدبلوماسية الأوروبية على محاولة شق مسارات للتفاوض مع روسيا بهدف وقف الحرب والتوصل الى تسوية تنهيها.
روسيا تدرك تماما أن ثمة تراجعا في الاهتمام بحرب أوكرانيا في الشارع الأوروبي وملامح تعب من دعم الحرب. لكنها تعرف أيضا أن الحكومات الأوروبية، لاسيما تلك المنتمية الى حلف شمال الأطلسي "الناتو" لن تفرط بأوكرانيا بوصفها الجدار الذي يبقى خطر التوسع الروسي بعيدا عن حدودها. فانتصار روسيا ليس خيارا مقبولا في دوائر القرار لدى معظم دول الاتحاد الأوروبي و "الناتو". لكن الميل الى التسوية يزداد.
فعن أي تسوية نتحدث؟ روسيا تريد انتزاع الاعتراف بسيداتها على منطقة الدونباس وشبه جزيرة القرم. وقد تقبل بنهاية المفاوضات بأن تكتفي بالسيادة على المناطق التي ستكون بحوزتها لحظة الإعلان عن وقف إطلاق للنار. لكنها لن تتنازل قيد أنملة عن القرم. في المقابل لا تزال أوكرانيا بدعم أميركي ترفض التنازل عن أي شبر من أراضيها المعترف بها دوليا. لكن أن تغير الموقف الأميركي لسبب من الأسباب، افتقاد الدعم الكافي في الكونغرس، أو اقتراب موعد بدء حملة انتخابات الرئاسة الأميركية.
في مطلق الأحوال، وفي الوقت الذي يسرق فيه الشرق الأوسط الأضواء فإن حربا أكثر دموية وشراسة لا تزال مشتعلة في قلب القارة العجوز. والغريب ان لا موسكو ولا واشنطن تملكان مشروعا قابلا للحياة لانهاء الحرب.
*مقلاً عن سكاى نيوز عربية*