من الحكم ! المشهورة لدى الحكماء قولهم: “إذا أردت أن تعلم مستقبل أمة نظر إلى شبابها”، وإذا كان جيلنا هو جيل الحاضر وأبناؤنا وشبابنا هم جيل جبل الشباب من وعى وثقافة وعلم وسلوك، ولست متشائما، ولكني متفائل لمستقبل، فإننا نميز المستقبل القريب للعقود القادمة من خلال ما يتمتع به رغم عدم ارتياحى وحزني الشديد لما أرى واسمع من انفصام ثقافي بين أجيال القادمة فهناك جيل منقطع تماماً عن ماضيه التليد، لا يعلم حتى مسقط رأس ليه ولا مكان ضريح جده، ناهيك عن محتويات أرفف مكتبة الأسرة وما تحتويه من نفائس الكتب ودرر العلم إنّ جيل القراء في وطننا العربي يكاد يكون منقرضاً تماماً إلا من بقية باقية أسعدهم الحظ بفقر آبائهم الذين عجزوا أن ينشئوهم على ثقافة الشاشة وعلم الأفلام .. من ذا الذي يصدق أن أسلافنا كانوا يقرءون ما لا يقل عن كتاب واحد فى اليوم يربى عدد صفحاته على ثلاثمائة صفحة، وأثناء قراءتهم يكتبون على هوامش الكتاب تعليقات وخواطر وقيود مسائل مفيدة، وأذكر أننى لم أجد كتاباً في مكتبات الجيل الذي قبلي إلا وفيه بعض التعليقات والحواشى بقلم القراء، ناهيك عن علماء ومثقفين كانوا يحفظون كل ما يمر من قواعد ومسائل تعليمية وأشعار وحكم وقصص، حتى كان الواحد منهم يستحى أن يحمل كتابا في يده ويقرأ للناس من صفحاته، بل الله القائل :
كان يحدثهم مما حفظ في صدره، ورحم الله القائل:
علمى معى حيثما يممت ينفعني*** قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معى *** أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وعلى أيدى أولئك القراء زخرت المكتبات العتيقة بآلاف المخطوطات وأصبحت مى كنوزنا فى هذا الزمن. وهل لنا متاحف ثقافية سواها ؟! رغم أن المطابع أنت على نشر السواد الأعظم من هذه المخطوطات وبقى منها الكثير إن القراءة فن يجب أن تعلمه للأبناء، وهى دليل على رقى وتحضر الامم التي تحب القراءة وحتى في المجتمعات المنحلة نجد أن المنحلين أيضًا يقرءون كتباً تناسب أذواقهم سواء تنفعهم أو تضرهم، المهم أنهم يقرءون، وفى المجتمعات الفاضلة نجد كذلك. وإذا خلا البيت من المكتبة أو مر أسبوع على من يدعى أنه متعلم ولم يقرأ فيه كتاباً كان ذلك دليلاً على أوج الانحطاط الثقافي والانهيار العلمى عجبت كيف لم يستطع مواطنو الشعوب الشرقية والغربية من أغنياء وفقراء أن يسافروا للسياحة إلا وفي أيديهم كتب ترافقهم، فينكبون على قراءتها وقد أراهم فى أسفارى على متن الطائرات وعلى مقاعد القطارات وهم صامتون منشغلون بالقراءة لا يسألون عمن بجوارهم، وإذا دعتهم الحاجة للكلام فلا تسمع إلا همسًا فمن لي بمثل هؤلاء الناشئة في أبنائنا وشبابنا الذين عليهم نعلق آمال الغد ونتوعد بهم الفقر والهزائم والانحطاط ؟!
إن الانفصام الثقافي واضح وجلى عند ما يجلس أحد إلى فتاه الصغير ولو كان قد أمضى في المدرسة عشر سنين يتلقى فيها العلم، فيسأله عن اسم من أشهر أعلام الزمن فى التاريخ فيجد أنه لا يعلم عنه شيئًا حتى عن المنهج المدرسي، فقراءة شبابنا له قراءة ضجر وتأفف ويقبلون عليها لينالوا شهادة النجاح طمعاً لتصفيقة أو تورتة الحفل عائلى للمناسبة، وبعد الامتحان بأسبوع واحد لا تجد أحداً من معلومات، فالجهل مركب والآباء والأمهات مقتنعون بهذه الطريقة التي تعينهم على الجهل والتخلف، لكن إذا منهم يدخر شيئاً جئنا إلى ما يتقنه الجيل القادم اليوم وما يعرفه فإننا نجد أن ثقافته ثقافة أفلام و مسلسلات تلفازية وروايات وهمية من نسيج الخيال وأقسم : إن الكثيرين اليوم، ومن يستلهمونه من معلوماتهم أجل هذا نرى كل ما يعرفه الشباب من نجاح في الحياة إنما هو ما الشاشة والمسلسلات التي تقدم لهم وجوهاً عبر يسمونها نجوما لا تمدهم يعلم ولا تمنحهم ثقافة. وأعجب لطفلة صغيرة تسرد على مسامعى كل أسماء الممثلين من عرب وعجم واخبارهم وسيرهم، بينما لا تعرف شيئا عن حياة أبيها وأمها ولا عن سيرهم وأخبارهم !! فالانفصام الثقافي واضح وهو من وراء الإخفاق لدى الشباب.
ومعرض الكتاب الدولى بالقاهرة يُعدّ كأكبر حدائق العلم والمعرفة والثقافة للتنوير والوعى يتقاطر عليه عشاق القراءة بلهفة وشوق. ولا أدرى أيصطحب الآباء والأمهات أولادهم إلى ذلك المعرض ليقتنوا ما يدعوهم إلى حب القراءة ويصحح فى أعينهم أخطاء الانفصام الثقافي؟! ولنبدأ بجدية وعزم في إنشاء مكتبة منزلية تناسب أذواق الأطفال ومداركهم، ونحاول أن ندربهم على القراءة ونصطير عليها ونعودهم على قراءة ما تستطيع أذهانهم فهمه وتحمله، فتتوالى عليهم قطرات المعلومات بشكل تصاعدى متدرج فيكبرون الثقافة إلى مستقبل مشرق ولا سبيل لأبنائنا غير ذلك السبيل وإن كان طويلا .
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للدراسات والأبحاث*