قال الإمام مالك رحمه الله: “تسعة أعشار العلم الاستحسان”[1]. بل بالغ بعضهم في الاستحسان حتى عده عماد العلم، وأن الذي لا يستحسن يكاد أن يفارق السنة [2]، والعلماء متفقون على أصل الأخذ به في معناه الأساس، وإن كانت طرائقهم مختلفة في الوصول إلى تحقيق هذا المعنى[3].
1- تعريف الاستحسان:
لغة: مشتق من الحسن: قال ابن منظور: “والحسن – محركة – ما حسن من كل شيء: فهو استفعال من الحسن، يطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه، حسيّا كان هذا الشيء أو معنويا، وإن كان مستقبحا عند غيره” أ.هـ.[4]
واصطلاحا: اختلف الأصوليون في تعريف الاستحسان فقال بعضهم: إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد، وتقصر عنه عبارته.[5] وقال آخرون: هو العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه. وقيل: هو العمل بأقوى الدليلين، أو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي.
وبالنظر إلى هذه التعريفات نجد أن تعريف الاستحسان يتلخص في أمرين:[6]
1-ترجيح قياس خفي على قياس جلي بناء على دليل.
2-استثناء مسألة جزئية من أصل كلي، أو قاعدة عامة بناء على دليل خاص يقتضي ذلك.
2- أنواع الاستحسان:
الاستحسان عند القائلين به أنواع، وهي:
النوع الأول: الاستحسان بالنص؛ كالسلم، فالقاعدة العامة تقضي ببطلان بيع ما لا يملك الإنسان، ولكن استثني السلم استحسانًا للنص الوارد في جوازه عن النبي صلى الله عليه وسلم[[7]
النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع؛ كالاستصناع، فالقاعدة العامة تقضي ببطلانه؛ لأنه عقد معدوم، وإنما جاز “للإجماع على التعامل به فيما بين الناس”[8]
النوع الثالث: الاستحسان بالقياس الخفي؛ كالحقوق الارتفاقية للأرض الزراعية، عند الحنفية لا تدخل في عقد البيع دون نص عليها، لكنهم استحسنوا دخولها دون نص؛ وذلك أن وقف الأرض الزراعية يتجاذبه قياسان، الأول قياسه على البيع، والثاني قياسه على الإجارة، والقياس الأول هو الأظهر وهو قياس جلي؛ لاتفاق البيع والوقف في إخراج الملك من مالكه، وعلى ذلك لا تدخل الحقوق الارتفاقية إلا بالنص عليها، والقياس الثاني مبناه أن كلًا من الإجارة والوقف يفيد ملك الانتفاع بالعين دون تملكها وهذا قياس خفي، ومقتضى هذا القياس دخول الحقوق الارتفاقية في الوقف تبعًا دون حاجة للنص عليها كما هو الحكم في الإجارة، فرجح القياس الخفي على القياس الجلي استحسانًا؛ لأن المقصود من الوقف الانتفاع لا تملك الرقبة، والانتفاع لا يتأتى دون الحقوق الارتفاقية [9]
النوع الرابع: الاستحسان بالعرف؛ كالشروط المقترنة بعقد البيع فالأصل عند الحنفية منعها، إلا أنهم يجيزون الشروط التي جرى العرف بها استحسانًا[10]
النوع الخامس: الاستحسان بالمصلحة؛ كتضمين الأجير المشترك عند المالكية، وإن لم يكن صانعًا، فإن الأصل عندهم عدم تضمينه؛ لأنه مؤتمن، إلا أنهم قالوا بتضمينه استحسانًا للمصلحة[11]
النوع السادس: الاستحسان للضرورة؛ كتطهير الآبار التي تقع فيها النجاسة بنزح قدر معين من الماء منها استحسانًا للضرورة[12]
3- حجية الاستحسان:
القرآن الكريم: استدل القائلون بالاستحسان بآيات من القرآن الكريم والتي منها:
قوله تعالى:” الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه” الزمر الآية 18؛ ومعنى الآية أنّ المسلمين يتبعون أحسن الأفعال والشارع لا يأمرهم بأمر إلاّ كان حسنا.
وقوله تعالى:” وأمر قومك يأخذوا بأحسنها” الأعراف 145 .
من السنّة: قوله عليه السلام:” ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رواه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح” ؛ ومعنى الحديث أنّ المسلمين لا يجتمعون على أمر إلاّ وكان ما اجتمعوا عليه حسن ومشروع ولا يجتمعون لا اجتناب شيء إلاّ وكان مذموما قبيحا.
مع أنّ هذا الأثر على ما قيل فيه عند أهل الصناعة في الحديث من كونه غريبا موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه.
الإجماع: نقل عن العلماء الإجماع على عدة مسائل مستندها الاستحسان
ومن ذلك أنّهم استحسنوا دخول الحمام من غير تقدير لمدة الاستحمام ولا لأجرة الماء المستعمل؛ لتعذر ذلك؛ مع أنّ الأصل في مثل هذه المعاملات أن تكون معلومة.
أهمية الاستحسان في تفعيل الاجتهاد المقاصدي:
إذا كان تقويم مناهج الفكر والاجتهاد عند المسلمين وإصلاحها يعتبر من أهم ما ترمي إليه الأمة لإعادة الارتباط الوثيق بين تعاليم الإسلام ومبادئه وبين واقع المسلمين وممارساتهم؛ فإن من أبرز وسائل تحقيق هذه الغاية تجاوز الإغراق في الانشغال بالجزئيات إلى النظر إليها في ضوء الكليات، والانتقال من التوقف عند الأشكال والرسوم إلى الكشف عن الحقائق والمضامين، والتحرر من التقيد التام بالوسائل إلى العمل معها على تحقيق الغايات والمقاصد، مما يؤهل الفكر الإسلامي للخروج من التقليد والتبعية إلى الأصالة والإبداع.
ولا غرو أن أهم وسائل تحقيق ذلك في مجال الاجتهاد الفقهي هو الاهتمام بكشف وبيان علل الأحكام الجزئية ومقاصد الشريعة العامة، بما يجلي أن أحكام الشريعة كلها تدور حول تحقيق مصالح الإنسان ودفع المفاسد عنه. على أن تلك الحكم والعلل والغايات والمقاصد قد تشتمل عليها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتنص عليها بعباراتها، وقد يصل إليها العلماء بالاجتهاد في فهم الكتاب والسنة وإعمال سائر الأدلة التي بنيت عليهما؛ بما يؤدي إلى استخراج مناط كل حكم وكشف وتوضيح المصالح التي يحققها والمفاسد التي يدفعها.
وبذلك ندرك أهمية الاجتهاد بالرأي في تحقيق قدرة هذه الشريعة على تلبية حاجات الناس وتحقيق مصالحهم على اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ ومن ذلك العمل بالاستحسان.
[1] الموافقات، للشاطبي 5/ 198.
[2] نفس المرجع
[3] رفع الحرج في الشريعة الإسلامية، ليعقوب الباحسين، ص277
[4] شرف الدين، عبد الحسين، المراجعات، ص412
[5] المحاضرات نسخة محفوظة 07 ديسمبر 2017 على موقع واي باك مشين
[6] العلامة الحلي، نهج الحق وكشف الصدق، ص 82 – 85
[7] لاستحسان، لعجيل النشمي، بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الصادرة من جامعة الكويت، السنة الأولى، العدد الأول، 1404ه، ص122.
[8] أصول السرخسي 2/ 203
[9] الوجيز في أصول الفقه، لعبدالكريم زيدان، ص232.
[10] حاشية ابن عابدين 5/ 88.
[11] انظر: الاعتصام، للشاطبي، ص641
[12] الوجيز في أصول الفقه، لعبدالكريم زيدان، ص232