سبق أن ذكرنا أن عملية التفكير الإبداعي تمارس بعدة استراتيجيات وتقنيات وقد تحدثنا سابقاً عن الإستراتيجية الأولى وهي إستراتيجية العصف الذهني، ونحن الآن بصدد الحديث عن الإستراتيجية الثانية وهي التفكير بالقبعات الست، فالعملية الإبداعية ترتكز على أمر هام جداً وهو نمط التفكير عند الإنسان وأسلوب تعامله العقلي والفكري مع مجريات الأحداث وشؤونه المختلفة. ولقد حاول بعض العلماء أن يتعمقوا في دراسة وتحليل العملية التفكيرية عند الإنسان وسعوا إلى تنميطها وتقسيمها حتى يسهل التعامل معها ومن أشهر هؤلاء العلماء الطبيب البريطاني (إدوارد دي بونو)، والذي استفاد من معلوماته الطبية عن المخ في تحليل أنماط التفكير عند الإنسان حتى ابتكر إستراتيجية القبعات الستة في التفكير وخلاصة دراسته أن التفكير عند الإنسان مقسم إلى ستة أنماط، ورمز لكل نمط بقبعة ذات لون محدد يلبسها حسب طريقة تفكيره في تلك اللحظة. ويعتبر (بونو) من أشهر العلماء والمفكرين الذين ساهموا على نحو عالمي واسع وفعال في تعليم وتنمية التفكير، وتحريره من القيود والضغوطات لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات المختلفة العاملة في المجتمع، وأصبحت مقولته الشهيرة قاعدة في نجاح التفكير وهي « أن الأسلوب الذي نفكر به يحدد مسارنا في المستقبل»
وإستراتيجية القبعات الستة تتكون من ستة قبعات أو أنماط أو مسارات مختلفة في التفكير، تشمل في مجموعها التفكير الجاد، والنقدي والإبداعي، وإدارة العقل، وإدارة العواطف والانفعالات، وإدارة المعلومات، والتحرر من الأفكار السائدة في ضوء القيم والمعتقدات وتنظيم الأفكار وإدارتها باتجاه العمل المحدد.
وهي قائمة على أنها ستة قبعات خيالية ووهمية للتفكير، لكل منها لون مختلف، كما وأن كل قبعة من القبعات الستة تمثل أسلوب مختلف ومتفرد للتفكير، وبيانها على النحو الآتي :
1- القبعة البيضاء:
وتطلق على (التفكير المحايد) وتسمى الحيادية والموضوعية وهي مبنية على المعلومات والحقائق والأرقام والإحصاء، وتجيب إجابات مباشرة ومحددة على الأسئلة، وتستخدم لجمع الحقائق والمعلومات والخطط ولوضع قاعدة البيانات ودراسة جوانب المشكلة والتحضير لها، كما أنها لا تفسر ولا تحلل الأرقام والمعلومات،ومستخدم القبعة البيضاء يطرح أسئلة مثل:ما المعلومات التي نريدها؟ وكيف سنحصل عليها؟
2- القبعة الحمراء:وتطلق على( التفكير العاطفي) وتعبر عن التفكير المبني على العواطف والمشاعر الداخلية، وهي تعطي مساحة للعواطف والمشاعر حتى ترى الأمور بوضوح أكبر، وتظهر الأحاسيس والانفعالات بسبب وبدون سبب، وتهتم بالمشاعر حتى لو لم تدعم بالحقائق والمعلومات، ومستخدم هذه القبعة يقول: هذا هو شعوري نحو الموضوع .
3- القبعة السوداء:
ويطلق عليها (التفكير السلبي) وتعبر عن نوع التفكير الناقد المنطقي، وتهتم بدراسة المخاطر والنقص والمشاكل المستقبلية، والآثار السلبية، والتركيز على المشاكل والعوائق، وتسود فيها روح التشاؤم وعدم التفاؤل باحتمالات النجاح، وتركز على نقد الأداء، وعلى العوائق والتجارب الفاشلة، كما وتستخدم في الحيطة والحذر والتفكير في الأخطار أو الخسارة، وتعتبر الأكثر فائدة حيث أنها تساعدنا في إصدار قرارات جيدة، ومستخدم القبعة السوداء يطرح أسئلة مثل : ما هي المشاكل المتوقعة؟ ماهي المخاطر المحتملة؟ ما طبيعة الصعوبات التي يمكن أن تواجهنا؟
4- القبعة الصفراء:
ويطلق عليها( التفكير الإيجابي) وتعبر عن نوع التفكير الايجابي المتفائل، وتوضح نقاط القوة في الفكرة، وتركز على احتمالات النجاح وتقليل احتمالات الفشل، وتهون المخاطر والمشاكل، ولا يستعمل فيها المشاعر بوضوح بل يستعمل المنطق بصورة إيجابية، كما أنها تهتم بالفرص المتاحة وتحرص على استغلالها، ولابسها ذو رؤية منطقية وتفاؤل، ويحرص على التفكير في العمل وفوائد الموضوع المطروح للنقاش وتحري بعض النتائج والاقتراحات المفيدة، ومستخدم القبعة الصفراء يطرح أسئلة مثل: ماهي الفوائد؟ ومن هو المستفيد؟
5- القبعة الخضراء:
وتطلق على (التفكير الإبداعي) وهي المبدعة وتعبر عن نوع التفكير الإبداعي، وهي قبعة التفاؤل والإبداع والنمو والطاقة والاقتراحات والبدائل والاحتمالات والنظر إلى الجوانب الإيجابية واستغلالها، وتستخدم في توليد الأفكار الجديدة الإبداعية، والبحث عن البدائل الجديدة، وتطوير الأفكار المقترحة، ويستعمل فيها وسائل وعبارات إبداعيه مثل (ماذا، لو، هل،كيف، ربما )، ومستخدم القبعة الخضراء يطرح أسئلة مثل: هل هناك بدائل إضافية ؟
6- القبعة الزرقاء:
ويطلق عليها( التفكير المنظم) و(التفكير الموجه) و(التفكير في التفكير) وهي الشمولية وتعبر عن التفكير الشمولي وتهتم بالخطوة التالية والملخص العام لأهم الإستنتاجات، أي أنها تجسد دور المنسق العام أو المنظم، فتبرمج وترتب الخطوات بشكل دقيق، وتتقبل جميع الآراء وتحللها، وتركز على محور الموضوع وتوجيه الحوار والنقاش، ولها المقدرة على تمييز القبعات وتوجيهها، وهي قبعة جدول أعمال التفكير، ومستخدم القبعة الزرقاء يطرح أسئلة مثل: ما هي الأولويات ؟ ماذا استفدنا حتى هذه اللحظة؟
وبعد هذا العرض والتفصيل لمفهوم القبعات الست وخصائص كل قبعة كنمط من أنماط التفكير لدى كل إنسان، فلسنا بصدد تقييم هذه الأنماط وتحديد أيها أفضل، بل هناك ما يهمنا أكثر وهو أنه لا بد أن نركز سواءً في حياتنا الشخصية أو في أعمالنا الدعوية والتربوية على فعالية استخدام هذه الأنماط في أوقاتها المناسبة، وأنه من الأفضل على صعيدنا الشخصي أن لا نقولب أفكارنا وتفكيرنا دائماً بقالب واحد من هذه القبعات، بل لا بد أن نُعمل هذه القبعات بحسب المواقف والظروف والمشكلات التي تعترينا ، كما أنه من المهم جداً أن لا يتسم الفرد منا بنمط واحد من التفكير يفكر به في كل أموره، فهناك من المشكلات ما يحتاج التفكير إليها بواقعية بعيداً عن المشاعر والعواطف، وهناك من الأمور التي تمر بنا ما تحتاج الوقوف عليها وقفة فاحصة ناقدة، وعلى عكس ذلك فهناك من التعقيدات التي نحتاج إلى التفكير فيها بتفاؤل واستبشار، وقد نحتاج أحياناً إلى استخدام أكثر من قبعة في نفس الوقت وهكذا .
وعلى صعيد التفكير الجماعي فيحسن بنا ألا تسيطر على جلساتنا التفكيرية قبعة من القبعات هي التي تحكم نمط تفكيرنا، فتجد جلسة كاملة لا يسيطر عليها إلا النقد، وأخرى تنثر فيها المعلومات دون أن يحصل لها أي تحليل واستنباط وتوظيف، وأخرى تهل بها البشائر وألوان التفاؤل من كل صوب، والذي ندعو إليه هنا هو أن تتنوع جلساتنا التفكيرية ودراسة قراراتنا ومواقفنا بين كل هذه القبعات أو بعضها، فكم هو جميل عندما نفكر بأمر يتناوله أحدنا بعرض المعلومات ونثرها، ويتناوله الأخر بالتحليل والنقد، ويتناوله الثالث بالجانب المتفائل، ويتناوله الرابع بالأفكار الإبداعية، ومن شأن ذلك حصول التكامل في التفكير، وتقليل فرص الخطأ والسلبية عند اتخاذ القرار، على عكس ما إذا انطلقنا جميعاً في التفكير من نظرة نقدية بحتة أو تفاؤلية محضة.
وكما ننبه أيضاً إلى أنه لابد للمربي أن يسعى جاهداً لتنمية قبعات التفكير الست لدى أفراده ولا يضيق بأي نوع من أنواع التفكير لدى أفراده فمن شأن تفكير أي فرد أن يسهم بحل مشكلة أو أن يطل بها على نافذة من نوافذ الإبداع، وليتذكر المربي والقائد أنه كلما فكر أفراده جميعاً بنمط واحد فهو في الحقيقة ليس بحاجة لهم جميعاً بل يحتاج إلى واحد منهم فقط، كما أن عليه تهذيب ألفاظ الأفراد وقت التفكير بأنماط القبعات الست وأن كل تفكير يحترم مهما كان اتجاهه.
والتفكير بنمط القبعات بالست من فوائده أنه يقلل من النزاعات والخلافات، ويشجع الإبداع، ويرتقي بنوعية وكفاءة التفكير، ويساهم في بناء فرق عمل فعالة، ويجعل من الاجتماعات أكثر فعالية.
وخلاصة الأمر : أن التفكير الجيد والإبداعي مهارة يصنعها التدريب، وكلما اتيحت فرصة التفكير للأفراد وأعطيت لهم مساحة للحرية في إبداء الأفكار مهما كان نوعها، وأعطيت حقها من الاستماع والإصغاء، فإن ذلك مع الزمن وبلا شك سيجعل قدراتهم الذهنية وملكاتهم التفكيرية تعمل بصورة منظمة وواعية، كما أن التنمية الفكرية المطلوبة اليوم مرهونة بالنجاح في التخلص من السلبية والانكفاء على الذات، والتحرر والانطلاق في إعمال الفكر وتوليد الأفكار التي من شأنها القضاء على الجمود والنمطية، وكل ذلك منشود قيامه من قبل المربي الحصيف الذي يدرك مهمته بأنها ليست مقصورة على إكمال مقررات دراسية فحسب، وإنما هي في الأساس صياغة العقل والفكر وإكساب المهارة وإحداث النمو المتكامل والمتوازن في شخصية الفرد .