تقول الكاتبة الفرنسية "سيمون دو بوفوار" في روايتها "المثقفون" :
"فجأة إنهال علي التاريخ بكل قوته فتشظيت" .
يتطبق هذا على اليمن اليوم ، ولأن تاريخ هذا البلد بالضخامة التي لا يتحملها جسده المعاصر الهزيل ، و"المرقع" في كل زاوية فيه بأسمال أنظمة فاشلة لم تستطع أن تتصالح مع هذا التاريخ الضخم ، أو ترتقي باليمن إلى المستوى الذي تكون فيه قادرة معه على تحمل ضغوطه ، فإن كل رجة يحدثها هذا التاريخ لا بد أن تخترق هذه الرقع إلى جوفه نحو ما تبقى من مخزون الأخوة ، ووشائج القربى ، وأوابد الحضارة التي امتدت لقرون ، تحاول جمع أشتاتها في مواجهة مع ما ألحقته حقب الهزائم من تمزق وخذلان .
هذا الاختراق الذي يقوم به التاريخ يؤدي إلى مزيد من التشظي بسبب هشاشة البنى السياسية والثقافية والاجتماعية المعاصرة والتي فشلت في أن تشكل حاملاً لمحاولات جمع تلك الأشتات .
لماذا؟ لأن هذه البنى بطبيعتها لا تستطيع أن تتفاعل إلا مع الجانب السلبي من هذا التاريخ ، مع ما يصاحب ذلك من نزعات تسلطية معاصرة تحول العملية في مجملها إلى استعراض عضلات فاقدة لروح المعرفة بحقيقة معنى الانتماء إلى وطن يجسد كل ما هو جميل في هذا التاريخ ونبذ كل ما هو سلبي .
للتاريخ منطقه المستقل عما يشهده الحاضر من أحداث .. التاريخ ليس مجرد ذاكرة للاستعراض ، هو في الأساس حراك موضوعي متصل الحلقات ، ينتقل في اللحظة المناسبة من السكون إلى الفعل ليعدل مسار الأحداث على النحو الذي ينسجم مع طبيعة مخزونه من العناصر المكونة للشخصية ، ليس في صيغتها البيولوجية وجيناتها ، ولكن في صيغتها الثقافية والحضارية والمنسجمة مع مصالح الناس .
مصدر القلق هو الحركة خارج منطق التاريخ وتراكماته الثقافية والمادية ، وما يتعرض له كل ذلك من تعسف وانتقائية من قبل إرادوية السياسي المتجمد عند هواجسه ، ومشاكله الخاصة ، ورؤاه الأيديولوجية المتماهية مع نزعة الخصومة المحتقنة بدوافع الصدام الدائم : أقودك أو أسحقك ، أحكمك أو أبيدك .
تبدأ السياسة في اليمن من المظلومية وتستقر في حضن الظلم .. ويبدأ السياسي مظلوماً وينتهي ظالماً .
المتتبع لمسار السياسة بألوانها ونحلها المختلفة لا تجد استثناءً من هذه البداية "الانسانية" ، والنهاية " الشيطانية" .. أين تكمن المشكلة ؟
هناك فجوة أخلاقية ، ثقافية ومعرفية يحدث فيها هذا التحول الرهيب . الفجوة التي تغيب فيها ديناميات التاريخ وتحضر الأنا المتطاولة على مخزون التاريخ بصيغته التي تبعث إضاءات عند كل محطة يلتبس فيها الموقف .. تحل الارادوية والفعل المتعالي الذي لا يخضع لأي ضوابط محل العبرة والتجربة وإضاءات التاريخ ، وهنا تكمن المشكلة