د. ياسين سعيد نعمان
اصطف جنوب اليمن كله من شرقه إلى غربه، شباباً وطلاباً ونقابات عمالية ومرأة وقبائل ومقاتلين وأدباء وفنانين وصحفيين وأندية رياضية واجتماعية، مؤيداً وداعماً لثورة 26 سبتمبر 1962.
ورسم الجنوب بذلك لوحة لخارطة الوطن في اللحظات التي كانت فيها مقدمات النهوض الوطني تشعل الحماس وتؤسس لمسارات سياسية وطنية، جعلت منه قوة دعم لثورة سبتمبر على كافة الأصعدة.
خرجت المظاهرات الطلابية والعمالية والشعبية في كل أنحاء الجنوب تهتف لسبتمبر، وتدافع المتطوعون في طوابير طويلة للتسجيل في قوائم الالتحاق بالقوات الشعبية للدفاع عن الثورة والتبرع من أجلها.
وفي ثانوية خورمكسر بعدن ما زلت أتذكر عميدها آنذاك الشاعر لطفي جعفر أمان ذات صباح من عام 1963 وقد وقف على رأس الطابور المدرسي ليخاطب سبتمبر بقصيدة طويلة يقول مطلعها: "أنت من يزرع قلب الشمس أضواء جديدة"، وغنى المرشدي وأحمد قاسم والعطروش ومحمد سعد عبد الله وبلفقيه وغيرهم لسبتمبر، واحتفت أوسع الصحف انتشاراً يومذاك: الأيام، الأمل، فتاة الجزيرة... وغيرها بسبتمبر، وفتحت صفحاتها للحديث عن ذلك الحدث الكبير.
لم يكن كل ذلك ممكناً لو لم تكن خميرة العمل الوطني في ذلك الجنوب قد تشكلت بروافع ثقافية وسياسية وطنية صمدت في وجه كل التحديات.
كانت اللوحة التي رسمها الجنوب في تأييده ودعمه لثورة سبتمبر معبرة بكل المقاييس عن إجماع لا مثيل له.
ولم يكن أبناؤه بحاجة لأن يذكرهم أحد بهويتهم أو وطنيتهم كما يحلو لدهاقنة وأدعياء "الوطنية" اليوم ممن يحاولون أن يستعرضوا على الجنوب والحركة الوطنية عضلات "وطنية" لطالما اختبرت نزاهتها في محطات مختلفة وفشلت.
وفي حين كان الشعب في جنوب اليمن يقف كله إلى جانب سبتمبر، فإن الحركة الوطنية في الجنوب قد ورثت هذا الموقف التاريخي في كل مساراتها وجعلته منهجاً لنضالها الطويل، وكان هذا هو المناخ الذي نشأت وترعرعت فيه، وشكل العمود الفقري لآفاقها الكفاحية الاستراتيجية بما في ذلك إشعالها لثورة الرابع عشر من أكتوبر حتى النصر.
كل هذا شكل قاسماً مشتركاً مع الحركة الوطنية في شمال اليمن.
أما شمال اليمن فكان قد انقسم تجاه الثورة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وقف إلى جانب الثورة ودافع عنها وقدم التضحيات الكبيرة من أجلها، وهو القسم الذي تشكلت منه الحركة الوطنية في الشمال بأطرافها المختلفة.
والقسم الثاني: خذل الثورة في أهم محطاتها بدوافع ملتبسة، وعرف بالتيار المحايد (لا جمهوري ولا ملكي).
والقسم الثالث: وقف ضد الثورة وقاومها بالسلاح.
كانت محصلة هذا الانقسام هو أن القسمين الثالث والثاني إئتلفا وشكلا الحلف الذي استحوذ على "الثورة" بتفاهمات بينهما، قضت باحتواء الثورة والقبول بنصف جمهورية (حتى بعد أن بدا أن الثورة قد انتصرت بعد مقاومة السبعين يوماً الخالدة)، ولتمرير ذلك قام بقمع وتشريد وإقصاء ومطاردة القسم الأول الذي وقف إلى جانب الثورة بمن فيهم أبطال السبعين، والذين ظلوا مطاردين ومشردين ومقصيين حتى اليوم.
تسلط هذا الحلف على المشهد السياسي برمته، وأخذ يوزع "الوطنية" مقروناً بالوظيفة والثروة بطريقة مثيرة تتناسب مع بنيته السياسية والاجتماعية، وموقعه في السلطة، وأعاد من ثم صياغة مفاهيم "الوطنية" على النحو الذي يتناغم مع علاقته الملتبسة وغير الودية بالثورة.
واصل هذا الحلف تحكمه بالمشهد السياسي والنفوذ بالرغم من اختلاف الوجوه والأسماء والمسميات، ومثلما قمع بقسوة القسم الذي دافع عن الثورة في شمال اليمن وأقصاه وأساء إليه، فقد تعامل مع الجنوب بنفس الموقف الذي يعكس منهجاً إقصائياً أريد به فرز الحركة الوطنية باستقطابات مشبوهة داخل الجنوب، (وخاصة بعد انتصار ثورة 14 أكتوبر) لاستكمال حلقات الحلف أفقياً ورأسياً بهدف تصفية حساب مع كل من ناصر ثورة 26 سبتمبر ووقف إلى جانبها وطالب برد الاعتبار لها.
نظر إلى الجنوب باعتباره ملحقاً وهامشياً في المعادلة "الوطنية" بالمحتوى الذي ظل يتعسف به الحقائق التاريخية، وأصبح للوطن عند هؤلاء مفهوم مختلف لا يتعدى جغرافيا في خارطة صامتة وبليدة، لا تصدر عنها سوى أصوات الرصاص الموجهة لإخراس كل صوت يطالب بتحويل الجغرافيا إلى وطن.
فالوطن هو السلطة والثروة.. و"الوطنية" هي احتكار السلطة والثروة.
ومن هذا المنظور أسقطت الوحدة السلمية التي تحققت عام 1990 لتبدو وكأنها فعلاً إرادوياً لقوة تمنح نفسها السلطة المطلقة في التمدد الجغرافي والتصرف.
أطراف هذا الحلف لا ترى "الشمال" غير ساحة لتجهيز معاركهم وتزويد حروبهم بالمقاتلين لتكريس هذا المفهوم ل"الوطن" و"الوطنية"، ومن أجل ذلك كان لا بد من إنتاج الثقافة الحاملة لهذا المنهج.
وهي من جانب آخر لا ترى "الجنوب" إلا من خلال مشف البندقية، وغبار التفجيرات، وأشلاء الضحايا، وكان لا بد أيضاً من تكريس الثقافة التي تجعل منه هدفاً دائماً للحروب باسم "الوطن" و"الوطنية" والوحدة.
والحقيقة أن هذا الحلف الذي احتوى ثورة سبتمبر كان قد هدم مشروع الوطن من أساسه، ووضع الحركة الوطنية بمجملها في موقع الخصومة الدائمة، ووظف مفهوماً ملتبساً وديماجوجياً للوطنية لتغطية كل ذلك.
وظل مصدراً لعدم الاستقرار الذي مر به اليمن.. إذا اتفقت أطرافه أعاقت بناء الدولة، وإن اختلفت أشعلت الحروب والكوارث في أنحاء البلاد.
كان إسقاط نموذج بناء الدولة الذي بدأه الشهيد الحمدي مثالاً حياً.
اليوم وقد صعر الجميع خده للكارثة التي حلت بالوطن على أيدي أحد أطراف ذلك الحلف الذي نما وترعرع في المساحة التي خصصت له بموجب اتفاق التسوية ذاك واخترق إلى جانب ذلك النصف الجمهوري، فإن البحث في الأسباب التي قادت إلى هذه الكارثة لا يمكن أن تغفل الانتكاسة التي أصابت المشروع الوطني والأسباب التي تقف وراء ذلك.
وبهذا الصدد سيتوجب على القوى التي تتصدى للمشروع الانقلابي الحوثي-الايراني أن تتجاوز أزمتها وتفتح فيما بينها حوارات صريحة وجادة لمعرفة أسباب هذه الانهيارات التي تعرض لها المشروع الوطني بعيداً عن منهج التخوين المتغطرس، أو التلويح بالقوة، والتي اختبرت في أكثر من محطة كخيار غبي لم يسفر إلا عن مزيد من تكسير هذا المشروع وتخريبه، ولتقف أمام ما يتوجب عمله في هذه اللحظة التاريخية التي تقلصت فيها الخيارات.
المجد للثورة، الخلود لشهداء الثورة، وكل عام والجميع بخير.