عاش اليمن أدهاراً وأزماناً مديدة يُعاني من أورام التسويات السياسية وانفجارها لاحقاً في صراعاته البينية بدءاً بالاتفاقية التي تمت بين العثمانيين وكناهير الإمامة مروراً بخيانة كل الوعود التي قطعتها لمعارضيها في تمرد حاشد وإعدام الشيخ حسين الأحمر ونجله حميد بعد ان مُنحوا الأمان وخُذلان كل مشايخ العسكرة والضمان حينها.
ومروراً باتفاقية مشايخ سهول اليمن (تعز – الحديدة – إب) وما حولها عقِبَ خروج العثمانيين من اليمن مع السلطات الهادوية في صنعاء. والغدر بمقاتلي ثورة المقاطرة عام 1922م من قِبَل جحافل يحي حميد الدين وأميره علي الوزير والحنث باتفاقية الصلح التي عقدت بينهم إلا أنهم غدروا بهم لاحقاً في واقعةٍ تراجيدية مأساوية ملأها التوحش والانتقام.
والتحول عن اتفاقية الصلح بين الجمهورية وفلول الملكية المنهزمة عقِب ثورة 26 سبتمبر الخالدة وتسللهم إلى السلطه والعمل ضدها من الداخل، وتسويات حزبي المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي إبَّان صراعهما بعد الوحدة، وصولاً إلى التسويات التي أعقبت ثورة 2011م وانقلاب ثنائي الشر، عفاش والحوثي، على كل مخرجات الحوار الوطني واتفاقية السلم والشراكة واقتحام صنعاء وتدمير الدولة. وكان آخر تلك الخيانات، خيانة الحوثي لشريكه عفاش وقتله وتشريد وتقييد حرية كل كوادر حزبه وحكومته المهترئة.
لم تُأت أياً من كل تلك الاتفاقيات أُكُلَها ولم يتحقق الوفاء ببنودها. بل نكثوا بما اتفقوا عليه ورجعوا عن ما وعدوا به، وبُذِرَت عجلة الصراعات التي تلت تلك المراحل من جديد! والأشد نكوثاً للعهد كانت أواخرها، والتي كان أحد طرفيها على صالح والحوثي معاً أو متفرقين، لأنها عبَّرت عن قيم مُوقِّعيها وأخلاقهم السياسية والدينية التي بلغت مداها في التدني والانحطاط.
وحتى لا تعمم الرؤية السوداوية دون نماذج للوفاء وثِقَ الرئيس سالم ربيع علي أثناء صراعه مع باقي رفاقه في الحزب عام 1978م بالعقيد علي عنتر لأنه رجل موقف ولا يخون. واشترط تسليم نفسه له دون غيره إلا أن المكر السياسي لباقي الأعضاء كان لهم بالمرصاد إذ أعلنوا للشعب حينها في الجنوب عن محاكمته واعدامه قبل أن يصل سالمين ورفيقه إلى مقر اللجنة المركزية. وأعدموه لاحقاً عندما وصوله، بحجة السبق في الإعلان عن إعدامه وإعلام الشعب بذلك.
أكَّدَت العصابات الحوثية ثقتها بالفريق علي محسن قُبيل دخولها صنعاء لأن تاريخه معروف بالوفاء وعدم الغدر وفقاً لما جاء على لسان وسيطها معه. وعرضت عليه التسليم وعدم المعارضة مقابل حفظ روحه وأولاده وماله والتخلي عن مبادئه الجمهورية والوطنية إلا أن رفضه كان شديداً وصارم ، فكان آخر الجمهوريين الرافضين لعودة الامامة ومعسكره "الفرقة الأولى مدرع" آخر قلاع الجمهورية التي وقفت في طريقهم إلى صنعاء بعد اللواء القشيبي في عمران.
السؤال هنا، هل لتلك المواقف والأحداث في حياتنا السياسية الحالية عِظةٌ ومكانةً وعبرة للقيادة الشرعية وحاملي ملف القضية اليمنية وتفادي الأصوات الداعية للتسويات السياسية بين اليمنيين وعصابات الحوثي الإيرانية؟ وهل سيكون لنكثها وخياناتها للمواثيق والعهود الدائمة أثراً على خيارات حسم الحرب الأخيرة ضدهم وعدم تكرار الأخطاء السابقة وتجريب المجَرَبْ؟ لأنه و على مر العصور التاريخية لم نسمع نتائج إيجابية للتسويات السياسية في البلدان التي عانت وتعاني من الحروب الطائفية ذات الدعاوى الإلهية، والأحقية المطلقة في الحكم والسيادة على رقاب الشعوب!
وعليه أي تسوية سياسية في حرب اليمن الأخيرة سيكون مصيرها الفشل، وسيتم الإلتفاف عليها وسيستمر الصراع إلى قيام الساعة! لأنها ستفتقر حتماً إلى الصدق والساسة الكبار من طرف الحوثي ذوي المصداقية والوفاء والقرار المستقل الغير خاضع الى اجندات واطماع الدول الخارجية.
ولا أشُكُ بطيبة اليمنيين، لأن رغبتهم في إقصاء خصومهم غير وارده وتسامحم في كل الأحداث ظاهر حد السذاجة في ظل النظام الجمهوري سابقاً ولاحقاً، وعليه وجب الحرص والحذر من التسويات في تحقيق مخرجات الحوار الوطني ونظام الدولة اليمنية الاتحادية الحديثة التي تسعى إلى عدم التمييز بين الناس على أي أساس عرقي أو طائفي جهوي أو مناطقي.
وعدم النظر إلى عروض وتسويات الوسطاء الدوليين والمراهنة عليها، لأن وظيفتهم تتمحور كممثلين أممين في المساعي السلمية الحميدة لحل الصراع والتوصل إلى حلول سياسية، دون النظر إلى طبيعة الصراع التاريخي وسبر أغوار دوافعه أسبابه ونتائجه، ومعرفة حقيقية لتفاصيل نفسية المواطن اليمني وما شابها من تشقق وجروح جراء الصراعات الدائمة. وذلك إما لعدم دراية تاريخيةٍ مدروسة من قبل الدول الراعية للملفات الساخنة تعمداً لإبقاءها مفتوحة، والتمسك بخيوط اللُعب السياسية التي تحمي مصالحهم وجعلها بأيديهم حتى يكونوا قبلة للمتصارعين تشدهم إليها على الدوام متى شاءت. ختاماً الحذر الحذر حتى لا ندلغ من الجحر نفسه ألف مرة.