مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
عبر من غزة بلا عبرات
عبرمن غزة بلا عبرات
أحمد عبد المحسن العساف
لقدْ آنَ لنا معشرَ المسلمينَ أنْ نهجرَ البكاءَ والآهاتِ والدُّموعَ دونَ أنْ يصدقَ علينا قولُ الرّصافي:
مَنْ ليسَ يبكيهِ منْ أبناءِ جلدتهِ***** بكاؤُهم فهو منْ جنسِ التماسيح
ولا يعني هذا الهجرانُ نسيانَ الآلامِ وضعفَ الشعورِ تجاهَها؛ بيدَ أنَّ المقصودَ ألاَّ نكونَ كنسوةٍ كسيراتٍ في دارٍ بلا أبوابٍ تقعُ على طريقِ الأوغادِ واللئامِ وقدْ غابَ عنهنَّ قيِّمُهنَّ أوْ فقدنَ الوليَ الصالحَ فظللنَ يرقبنَ المارَّةَ خشيةَ معتدٍ أوْ سارقٍ أوْ حاقدٍ ولا يملكنَ غيرَ الأنينِ واستجداءَ أهلِ الغيرةِ وليسَ ثمَّ أخو نجدةٍ أوْ مغيث! وحتى لا نكونَ كذلكَ وأسوأَ منْ ذلكَ فقمينٌ بأهلِ الإسلامِ أنْ يتحركوا في خطواتٍ محدَّدةٍ على الصعيدِ النَّظري وفي الميدانِ العملي حتى يكتملَ المشروعُ الإسلاميُ لليقظةِ والمقاومةِ والتغييرِ والإصلاحِ والعزَّة؛ وإذا صدقتْ النوايا وتعاونَ المجتهدونَ كانَ النَّصرُ المبينُ والفرحُ الشرعيُ وما هو ببعيدٍ وإنْ رأيناه بعيداً؛ فمَنْ بدأَ سيبلغُ الغايةَ ومَنْ شرعَ سيظفرُ بالفوز.
ومنْ أهمِّ هذهِ الخطواتِ في الجانبِ النَّظري وفي المجالِ العملي ما يلي:
أولاً: نشرُ المفاهيمِ الشرعيةِ في مجتمعاتِنا؛ ومنها وجوبُ النُّصرةِ لمنْ استنصرَ بنا منْ إخوانِنا ’’وإنْ استنصروكم في الدِّينِ فعليكم النَّصرُ إلاّ على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق’’(1)، معْ تنبيهِ العامَّةِ والخاصَّةِ إلى أنَّ تركِ الذُّنوبِ صغيرِها وكبيرِها أمرٌ يتأكدُّ عندَ الفتنِ ليعلمَ اللهُ صدقَ تأثرِنا بما حلَّ في ديارِ المسلمين؛ فحريٌ بأهلِ المعاصي الكبيرةِ الرجوعُ إلى اللهِ والتوبةُ منْ الرِّبا والفجورِ والظلم؛ فقدْ هُزمَ خيرُ جيشٍ سارَ على الأرضِ بسببِ معصيةٍ واحدةٍ منْ الرُّماةِ فكيفَ بأكوامِ المعاصي والمخالفات؟ ومنْ أجلِّ المفاهيمِ ما أحيا الجذوةَ الإيمانيةَ في النُّفوس، وأكدَّ معانيَ التوحيدِ والانقيادِ للهِ والخضوعِ له وحدَه ليكونَ الدَّينُ حاكماً على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ؛ وهذا أمرٌ جادٌّ لا تكفي فيهِ الجهودُ الهامشيةُ المبعثرة.
ثانياً: تربيةُ الأمّةِ بمجموعِها على كلِّ احتمالٍ وأيِّ حالٍ حتى تكونَ مستعدَّةً للنوازلِ؛ فأرضُنا خصبةُ التربةِ ويكفيها القليلُ منْ الغيثِ المباركِ حتى يظهرَ ثمرُها ويفيضَ خيرُها فيعمَّ الأرجاء، وقدْ أبانتْ لنا غزَّةُ عنْ المعادنِ الخيِّرةِ لجماهيرِ النَّاسِ منْ الجنسينِ بمختلفِ الأعمار؛ وإنَّ أمّةً لديهَا هذه النَّسماتُ الزَّكيةُ بأعدادٍ كبيرةٍ لجديرةٌ بأنْ ينفرَ لها منْ رجالهِا ونسائهِا مَنْ يحملُ أعباءَ التربيةِ ومشقةَ الإعدادِ وتبعاتِ القيادةِ ومتطلباتِ الأخذِ بيدِ الأجيالِ المتلهفةِ لمَنْ يعبرُ بها بحرَ الضلالِ وصحراءَ التيهِ إلى واحاتِ التمكينِ والسؤدد.
ثالثاً: نفضُ اليدِ بعدَ غسلِها مِراراً منْ الحكوماتِ العربيةِ والإسلامية؛ وعدمُ التعويلِ عليها بشيءٍ لضعفِها -إذا أحسنا بِها الظنَّ- معْ غضِّ الطرفِ عنْ اللقاءاتِ الرسميةِ حيثُ أثبتتْ التجاربُ المتكررةُ أنَّها عديمةُ الفائدةِ إنْ لمْ تكنْ مضرَّة، ولقدْ كانَ حذاءُ منتظرِ الزَّيدي أجرأَ وأصدقَ وأبرَّ منْ بعضِ الزُّعماءِ الذينَ ربضوا على سدَّةِ الحكمِ ثلاثينَ عاماً ولا يزالونَ وربُّما يورثون! والشيءُ ذاتهُ يقالُ عنْ هيئةِ الأممِ بمجالِسها ولجانِها وقواتِها؛ فهذه المنظمَّةٌ خارجةٌ على قانونِها الذي وضعتُه بنفسِها فضلاً عنْ عدوانِها على شرعِ ربِّنا فكيفَ نرفعُ بها رأساً؟ وقدْ كشفتْ هذهِ الجرائمُ التي يضطربُ لها وجهُ الأرضِ أنَّ الأنظمةَ الأرضيةَ عاجزةٌ عنْ حمايةِ البشرية؛ وأنَّ أيَّ عدالةٍ مهما سمتْ في نظرِ أصحابِها ومهما اتسعتْ آفاقُها فإنَّها لا تزيلُ المظالمَ مادامتْ بعيدةً عن الهدي الإلهي، فنحنُ مخطئونَ كلَّ الخطأِ إنْ ركنَّا إلى رباطِ الإنسانيةِ المجرَّدةِ منْ العقيدةِ الصحيحة.
رابعاً: تفعيلُ الطاقاتِ وتحريكُ كافَّةِ القطاعاتِ الشعبيةِ للمقاومةِ بأنواعِها شريطةَ كونِها منظمةً ومستمرةً ومتكاملة وبعيدةً عنْ التصادمِ مع الحكومات، والاحتفاءُ بجميعِ القدراتِ والمواهبِ دونَ هدرٍ أوْ إهمالٍ فلكلٍّ موقعُه في العملِ والمدافعةِ وسلوكِ المنافذِ المتاحةِ لخدمةِ قضايانا منْ كلِّ سبيلٍ شرعيٍ مأمونٍ راجحِ المصلحة؛ فللكلمةِ ميدانٌ، وللفكرةِ مجالٌ، وللمالِ حاجاتٌ، وللسواعدِ قيمةٌ، وللجمعياتِ العلميةِ والمهنيةِ مكانةٌ، وللجانِ الفتوى ثقلٌ لا ترجحُ بهِ قناةٌ ولا صحيفة، وللعلماءِ وتراثهم قدمُ صدقٍ لا تُنكر. وإنَّ التركيزَ على الشعوبِ وأثرِها متعينٌ خاصَّةً معْ هذهِ الحكوماتِ المصابةِ بالعجزِ لضعفٍ أوْ هوى.
خامساً: فضحُ المنافقينَ الذينَ يخذِّلونَ ويرجفونَ في مثلِ هذهِ الأزماتِ والحوادث، ومنْ أولى الجهاتِ بالتعريةِ أحزابُ الروافضِ ومليشياتِ الباطنيةِ الذينَ جعجعوا فلمَّا واتتهم الفرصةُ السانحةُ للنُّصرةِ والإيقاعِ بالعدو نكصُوا وصرفوا الملامةَ إلى غيرهم؛ فبانتْ حقيقتُهم لمنْ شكَّ فيها، ومنْ الحكمةِ قراءةُ الخياناتِ الدَّاخليةِ التي أضرَّتْ بالحركاتِ الجهاديةِ وفحصُها وتحديدُ مَنْ يقفُ خلفَها ويؤازرُها وكيفيةِ قمعِها في مهدِها.
سادساً: استثمارُ وجودِ الجالياتِ الإسلاميةِ والطلابِ المبتعثين والوفودِ التجاريةِ في دولِ العالمِ بعدَ دراسةِ نظمِ تلكَ الدُّولِ ومعرفةِ قوانينِها حتى لا يتضرروا أوْ يتأثرَ هدفُهم الأصليُ منْ الغربة، ولوْ أنَّ الغرفَ التجاريةَ اعترضتْ على مآسينا لدى مثيلاتِها في أوروبا وآسيا وأمريكا لرأينا أثراً عجيباً إذْ المالُ يهزُّ القناعاتِ ويغيرُ مجرى الانتخابات، وإنَّ المبتعثينَ رسلُ آلامِنا وآمالِنا في البيئاتِ الأكاديميةِ الأجنبيةِ التي تساهمُ في صناعةِ الرأي العامِّ والتأثيرِ على القرارِ السياسي منْ خلالِ الدراساتِ والأبحاث، كما أنَّ انتشارَ الجالياتِ الإسلاميةِ الملتزمةِ بأخلاقِ دينِها في المجتمعاتِ الغربيةِ كفيلٌ بإحداثِ تغييرٍ في التصورِ الغربي عنْ الشرقِ الإسلامي ولوْ بعدَ حين؛ ولا ننسى التواصلَ معْ العقولِ المهاجرةِ منْ ديارِنا إلى بلادِ العالمِ ولكثيرٍ منهم مكانةٌ عاليةٌ وكلمةٌ مسموعةٌ؛ وفي بعضِهم حميةٌ وولاءٌ لأمتِّهم ولامناصَ منْ استنهاضِهم.
سابعاً: الاستفادةُ منْ تجاربِ الاحتلالِ التي ابتليتْ بها بلادُ المسلمينَ خلالَ القرنينِ الماضيينِ وخاصَّةً ما كانَ منْها في العقودِ الستةِ الأخيرةِ وما أكثرَها وأشنَعها! ودراسةُ الحصارِ المريرِ الذي تعرَّضتْ له بلدانُ المسلمين وأسبابِ استمراره دونَ كسرٍ أوْ نقضٍ معْ أنَّ تلكَ البلادِ محاطةٌ (أوْ محصورةٌ) ببلادٍ إسلاميةٍ منْ جميعِ الجهاتِ، وتقييمُ تجاربِ الجهادِ والمقاومةِ كما حدثَ معْ طالبان والمحاكم وحماس والجهاد وغيرها؛ على أنْ تكونَ هذهِ الاستفادةُ مدخلاً لاستشرافِ مستقبلِ الشرقِ الإسلامي وما قدْ يتعرضُ له فالدَّعاوى ضدَّ عالمِنا المسلمِ لنْ تعوزَ الغزاة؛ والصراعُ بينَ الحقِّ والباطلِ أبديٌ لا يقطعهُ إلاّ قيامُ الساعة.
ثامناً: إنشاءُ مراكزَ لدراساتِ الأعداءِ وبيانِ عقائدِهم وطرائقِهم التربويةِ والتعليميةِ ومعرفةِ تنظيمِ جيوشِهم وطبيعةِ مجتمعاتِهم؛ وإطلاقُ مسابقاتٍ علميةٍ لكشفِ الأعداءِ منْ اليهودِ والصليبين والمنافقين ومواقفِهم تجاهَ المشروعِ الإسلامي معْ التركيزِ على توضيحِ علاقاتِهم الخفية. وقدْ برعَ الأعداءُ في دراسةِ مجتمعاتِنا وسبرِ أغوارِنا؛ ومنْ ذلكَ أنْ ابتاعتْ الجامعةُ العبريةُ في القدسِ خزانةَ العالمِ المجري اليهودي كولد صهر لعنايتهِ بالعلومِ الشرقيةِ حيثُ كانَ يدَّرسُ تفسيرَ القرآنِ في جامعةِ بودابست؛ وقدْ زارَ شيخُ العربِ أحمد زكي الأستاذَ درنبرغ في مدرسةِ اللغاتِ الشرقيةِ بباريزَ وهو يدَّرسُ القرآنَ فقال: إسرائيليٌ يدَّرسُ كتابَ المسلمينَ لجماعةٍ منْ النَّصارى(2)!
تاسعاً: تفريغُ شبابٍ منْ أذكياءِ المسلمين وأمنائِهم لدراسةِ اللغاتِ الأجنبيةِ التي يتحدَّثُ بِها مئاتُ الملايينِ منْ البشرِ وإتقانِها حتى نتمكنَ منْ مخاطبةِ العالمِ ونشرِ الحقائقِ بمنظورنا وتوهينِ العدو وترجمةِ إعلامهِ ومخرجاتهِ الثقافية، وقدْ ندبَ النبيُ- صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- الصحابيَ الجليلَ زيدَ بنَ ثابتٍ- رضيَ اللهُ عنه- لتعلمِ لغةِ يهودِ المدينةِ خدمةً للدولةِ الإسلاميةِ النَّاشئة.
عاشراً: افتتاحُ مؤسساتٍ عالميةٍ تُعنى بالأعمالِ الخيريةِ والإنسانيةِ لنجدةِ المسلمين منْ غيرِ أنْ تنقادَ لوصايةِ دولِ العالمِ الإسلامي المسيَّرة؛ معْ ضرورةِ كونِها في بلادٍ يحكمُها نظامٌ واضحٌ وهيَ غيرُ معروفةٍ بعداءِ العالمِ الإسلامي مثل البرازيل، واليونان التي يتعاطفُ شعبُها كثيراً معْ القضيةِ الفلسطينية؛ ولنْ يعدمَ الغيورونَ أماكنَ مأمونةٍ لاتخاذها منطلقاً حرَّاً للدِّفاعِ عنْ المظلومينَ منْ أبناءِ أمتِنا بعدَ النَّظرِ في جميعِ الاحتمالاتِ وكيفيةِ التعاملِ معها.
حاديَ عشر: ما أحوجَنا إلى عددٍ كبيرٍ منْ القنواتِ الفضائيةِ والإذاعاتِ والصحفِ والمجلاتِ والمواقعِ التي تلتزمُ بالمهنيةِ وتسعى للاحترافِ والتخصصِ حتى يكونَ لنا صوتٌ وصورةٌ وكلمةٌ بكلِّ لسانٍ وأرضٍ وحدث؛ وحينها ستبورُ تلكَ الوسائلُ التي كانتْ شاهدَ زورٍ أوْ مخذِّلةً عنْ النُّصرةِ ومخدِّرةً عنْ الحركةِ وغارقةً في أمواجِ السفاسفِ مغرقةً معها جيلاً منْ فلذاتِ الأكباد، وهذه الحاجةُ لا تُسدُّ إلاّ بمالٍ وعقولٍ وجهودٍ وخبراتٍ وعزمٍ لا يلينُ معْ نشدانِ رضا اللهِ في كلِّ مرحلةٍ واستلهامِ عونهِ دوماً.
وإنَّ الخطواتِ السابقةَ نوعٌ منْ الجهادِ المأجورِ أهلُه؛ لكنَّنا لا ندَّعى استغنائَنا عنْ الجهادِ الشرعي المقدَّسِ لقتالِ أعداءِ المسلمين بعيداً عنْ الغلو والظلمِ والاعتداء، وإنَّه لمنْ الحكمةِ إقامةُ الدوراتِ العلميةِ حولَ فقهِ الجهادِ وأحكامهِ ودراسةُ أحاديثِ المعركةِ معْ اليهودِ وملاحمِ آخرِ الزَّمانِ حتى تبقى جذوةُ ذروةِ السنَّامِ حيةً في نفوسِ الأمَّةِ المحمَّدية، فبالجهادِ يرتفعُ الظلمُ ويندحرُ العدو؛ وبدونِه سنظلُّ نرددُ لمدَّةِ خمسينَ سنةٍ قادمةٍ ما قاله شاعرٌ قبلَ خمسينَ سنةٍ ماضية:
في غزة أطفـال بلا آبــاء
عيونـهم تستنجد السمـاء
لأنـها تؤمـن بالسمــاء
تـؤمن بالله بكتبه بالأنبيـاء
صـافية ليـس بها ريــاء
عالـقة الأهداب بالفضـاء
تبـحـث عـن أشـيـاء
تصرخ يا ربُّ فيرتج الفضـاء
يا أنت يالله يا أرحم الرحمـاء
يا خيّر العطاء يا منقذ البؤساء(3(
----------------------------------------
(1) الأنفال آية 72؛ وقد قال القرطبي في تفسيره تعليقا على هذه الآية:’’ فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، على ما حلّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو وبأيديهم خزائن الأموال...’’ 8/57.
(2) محمد كرد علي، المعاصرون،دار صادر،بيروت الطبعة الثانية 1413 ،ص 134
(3) هارون هاشم رشيد؛غزة في خط النار، المكتب التجاري للطباعة والنشر، بيروت 1957 ص5 نقلا عن د.إبراهيم محمد صبيح،الطفولة في الشعر العربي الحديث، دار الثقافة، الدوحة 1405ص 422.
*عن موقع المربي
أضافة تعليق