مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2017/06/03 07:49
أضواء على بعض ملامح الفكر التربوي لشخصية سيدنا ونبينا محمد ( صلى الله عليه وسلّم )
أ . د / صالح بن علي أبو عرَّاد

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، أما بعد :
شهد ( الفكر التربوي الإسلامي ) الذي يُعد جزءًا هامًا من منظومة ( التُراث الإسلامي ) بروز نخبـةٍ طيبةٍ ومباركةٍ من النمـاذج الفكرية المتميزة للعلمـاء ، والفقهاء ، والمربين ، والمُفكرين ، والمعلمين الذين أسهموا جميعًا عبر مختلف العصور التاريخية الإسلامية بجهودٍ مشكورةٍ ومأجورةٍ - إن شاء الله تعالى - في خدمة مسيرة ( التربية الإسلامية ) على وجه الخُصوص ، من خلال ما قدّموه من إسهاماتٍ فكريةٍ تربويةٍ شكّلت في مـجموعها ما يُمكن أن يسمى بملامح ( الفكر التربوي الإسلامي ) الذي لا شك أنه كان يتطور تبعًا لتطور المجتمع الإسلامي بمـا فيه ومن فيه ، ولم يكن في يومٍ من الأيام فكرًا جامدًا أو مُنغلقًا أو منعزلاً عن ما يجري حوله من التغيُرات والتطورات الزمانية والمكانية وغيرها .

وعلى الرغم من غزارة ووفرة تلك الإسهامات الفكرية التربوية لأبناء الإسلام ؛ إلا أنها تتفاوت في قيمتها التربوية ؛ فمنها ما كان صوابًا ، ومنها ما كان غير ذلك ، ومنها ما كان صالحـًا ومناسبًا لظروفٍ زمانـيةٍ ومكانيـةٍ معـينةٍ ، ولاسيمـا أن كثيرًا من أصحاب تلك الإسهامات لم يكونوا قد كتبوا في المجال التربوي بطريقـةٍ مباشـرة ؛ إلا أن عطـاءهم العلمـي وتُراثـهم المكتوب يُبيِّـن أن لهم بعض الآراء ، والأفكار ، والنظريات ، والطروحات ، والتجارب التي يمكن الاستعانة بها ، والإفادة الإيـجابية منها في مـجال التربية .

من هنا فإن المستعرض والمتأمل لمسيرة تراثنا الإسلامي الخالد يرى أنها مسيرةٌ زاخرةٌ بالكثير من أعلام الفكر التربوي الإسلامي ، وأنهم أكثر من أن يُعدوا ، وأشهر من أن يُعرَّف بهم في مثل هذه العُجالة ، وهوما أشار إليه أحد الكُتاب الإسلاميين بقوله : " وأُمتُنا أغنى الأُمم بالعُظمـاء ، وما عرف تاريخُ أُمةٍ من الأُمم قدرًا من العُظمـاء يملؤؤن التاريخ بمآثرهم وآثارهم ، كمـا عرف ذلك تاريخ أُمتنا العظيمة " ( مصطفى السباعي ، 1405هـ ، ص 42 ) .

ولعل السبب في ذلك راجعٌ في المقام الأول إلى كونهم من خريجـي مدرسة النبوة العظيمة التي احتضنتهم ، وعملت على تربيتهم وفق منهج التربية الإسلامية السامية النابعة من تعاليم القرآن الكريم وهدي النبوة المبارك ؛ فكانت النتيجة أن تخرّج فيها " رجالٌ كانوا مشاعل هدايةٍ ، ورواد حضارة وبُنـاة مدنية ، وبمناهجها استطاعوا أن يـحولوا النظريات إلى تطبيق ، والقول إلى عمل ، والرأي إلى سلوك ، فكانوا يُجسدون المُثل في سلوكياتهـم ، والقيم في تصـرفاتهـم ، والشيم في أعمـالهم كلها " ( محمود أحمد السَّيّد ، 1398هـ ، ص ص 30 - 31 ) .

ولأن هذه الكوكبة المباركة كانوا قد تربوا على منهج التربية النبوية المبارك الذي جاء به مُعلم الناس الخير ( صلى الله عليه وسلّم ) ، فإنني في هذه المقالة سأحاول تسليط الضوء على بعض الملامح التربوية المُميزة لشخصية نبينا محمدٍ بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلّم ) الإنسانية ، وما كان لها من إسهاماتٍ عظيمةٍ ورياديةٍ على امتداد مسيرة الفكر التربوي الإسلامي التي انطلقت منذ بداية البعثة النبوية الكريمة لتكون بحق أبرز وأعظم شخصيةٍ بشـريةٍ أَثْرَت وأغنت الفكر التربوي الإسلامي بالكثـير من الآراء ، والأفـكار ، والخبرات ، والتجـارب ، والمعاني ، والتوجيهات ، والمواقف ، والدروس ، والدلالات ، والمضامين التربوية التي انطلقت في جـزءٍ كبيرٍ منها اعتمـادًا على إنسانيته وبشـريته التي - لا شك - أنه ( صلى الله عليه وسلّم ) كان يتعامل معها ويتصـرَّف فيها اعتمـادًا على خبراته الحياتية الخاصة ، وإنسانيته الـمحضة ، وفكره البشـري العظيم ، وأخلاقه السامية التي زكاها الله تعالى في أكثر من موضع من كتابه الكريم ؛ فقد زكَّى الله عقله فقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } ، وزكَّى لسانه فقال : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } ، وزكَّى شـرعه فقال :{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ، وزكَّـى أُستـاذه ومعلمـه فقال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } ، وزكَّى فؤاده فقال : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ، وزكَّى بصـره فقال : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } ، وزكَّاه كله فقال :{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .


ولأن ملامح وأبعاد الفكر التربوي الإسلامي في شخصية النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) الإنسانية البشـرية أمرٌ لا يُمكن الإحاطة به في مثل هذه العُجالة ؛ فإنه يكفينا أن نُشـير إلى ما يلي :
( 1 ) أن شخصية النبي محمدٍ ( صلى الله عليه وسلّم ) في جانبها الإنساني تُعد الأُنموذج المُتكامل للشخصية الإنسانية المسلمة المثالية ، التي يمكن أن تكون واقعـًا حيًا ونتيجةً فعليةً وفاعلةً لهذه التربية الإسلامية ، وإذا كُنا نبحث في تربيتنا الإسلامية عن نمـاذج تتجسد فيها المبادئ والقيم التربوية الإسلامية ، وتتضح من خلالها دروس ومضامين هذه التربية ؛ فلا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن نجد أشمل ، ولا أفضل ، ولا أكمل ، ولا أنبل ، ولا أجـمل ، ولا أعدل من هدي النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) الذي ينطلق في أصله من الوحي الإلهي الخالد ، والمُتمثـل في سُنته النبوية الشريفة وهديه المبارك الذي تعهـد الناس من خلالهمـا بمنهـجٍ سليمٍ يقول عنه ( صلى الله عليه وسلّم ) :
" تركتُ فيكم أَمرَينِ ، لن تَضِلُّوا مَا مَسَكْـتُم بِهِمـا ، كتَابَ اللهِ وسُنَّة نَبيِّه " ( مالك ، الحديث رقم 3 ، ص 899 ) .
وانطلاقًا من هذا المعنى فإن شخصية النبي محمدٍ ( صلى الله عليه وسلّم ) تُعد في ( جانبها الإنساني ) بمثابة الأُنموذج الكامل المُتكامل للشخصية الإنسانية المسلمة المثالية التي يقول فيها أحد الكُتاب :
" وكان الرسول الكريم في كل كلمةٍ يقولُها ، وكل تصـرُفٍ يتصـرفه ، وكل موقفٍ يقفه ، وكل التفاتةٍ يلتفتها ، صورةً حيةً لهذا الفكر التربوي الإسلامي " ( عبد الغني عبود ، 1985م ، ص 121 ) .
ومن هنا نرى ان شخصية نبينا محمدٍ ( صلى الله عليه وسلّم ) الإنسانية هي الشخصية التربوية المثالية التي أوجب الله تعالى على كل مسلمٍ أن تكون مثلُه الأعلى وقدوته الحسنة في أي زمانٍ وكل مكان ، وهو ما يؤكده كاتبٌ آخر بقوله :
" وأما محمدٌ الإنسان ، فهو الذي يحرص كل مسلمٍ على أن يكون ظله في الأرض ، يتخلقُ بخُلُقه ، ويهتدي بهديه ، ويقتدي به في صبره وجهاده ، وزُهده وعبادته ، وتضحيته وإيثاره ، ومأكله وملبسه ، وما أعتقد أن الله أكرم رسوله الإنسان بمدحٍ أعلى من هذا المديح { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } " ( مصطفى السباعي ، 1405هـ ، ص 49 ) .


( 2 ) أن شخصية النبي محمدٍ ( صلى الله عليه وسلّم ) الإنسانية قدنـجحت نـجاحًا باهرًا لم يشهد له التاريخ مثيلاً في تطبيق ما تدعو إليه وتُنـادي به من الأقوال والأفعال ، والمبادئ والقيم ، و الأخلاق والمُثل ؛ والمضامين والدروس ، وهو ما يُمكن تأكيده من خلال التأمل الواعي في سيرته النبوية التي نُقلت عنه بكل جزئياتها وتفاصيلها الدقيقة ، وبكل تطبيقاتها العملية ؛ الأمر الذي يُميزها ويجعلها تنفرد بكل صدقٍ عن غيرها من الشخصيات الإنسانية الأُخرى التي عُرفت في مختلف المجالات والميادين عبر تاريخ البشـرية . وفي ذلك يقول أحد الباحثين :
"إن التطبيق الفعلي والعملي المُتجسد لمضمون الرسالة التربوية يُعد إحدى المُميزات الكبرى للرسول العربي الأمين ، والتي يعلو بها ساميًا على غيره من المربين العاديين ؛ إذ إن أولئك المربين في كثيرٍ من مبادئهم التربوية يكتفون بإلقاء الوصايا والتعاليم على غيرهم ، دون أن يُلزموا أنفسهم ومن حولهم بها ، بل إنهم قد يفعلون عكس ما يدعون إليه . بينمـا الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) يُقدَّم بنفسه الأُنموذج الحي الذي ينبغي للإنسان المسلم المُتكامل أن يكون عليه ؛ فهو القرآن الحـي الذي يمشي على الأرض ، ويُجسد أفكاره ومعانيه وآدابه للناس ، فإنمـا كان خُلقه ، وسلوكه ، وتربيته القرآن " ( عبد الحميد الهاشمي ، 1401هـ ، ص 76 ) .


( 3 ) أن شخصية النبي محمدٍ ( صلى الله عليه وسلّم ) الإنسانية لا تختلف في طبيعتها التكوينـية العضوية عن أي شخصـيةٍ بشريـةٍ أُخرى ، وأن ما يجري على البشر يجري عليه من الأحوال والظروف والحالات البشرية المختلفة وخير دليلٍ على ذلك ما صحَّ عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) :
" .. إنمـا أنا بشـرٌ مثلكم ، أذكُر كمـا تذكرون ، وأنسى كمـا تنسون " ( مسلم ، الحديث رقم 1284 ، ص 232 ) .
وما جاءفي الحديث الصحيح عن رافع بن خَديجٍ ( رضي الله عنه ) أنه قال : قال ( صلى الله عليه وسلّم ) :
" إنمـا أنا بشـرٌ ، إذا أمرتُكم بشيءٍ من دينكم فخُـذوا به ، وإذا أمرتُكم بشيءٍ من رائـي ، فإنمـا أنـا بشـرٌ " ( مسلم ، الحديث رقم 6127 ، ص 1039 ) .
وهنا لا بُد من الإشارة إلى أنه على الرغم من بشـرية تلك الشخصية العظيمة ؛ إلا أنها قد كُرِمت من الله تعالى بأن تم اصطفاؤها ، وإعدادها الإعداد اللائق والمناسب لحمل أعباء الرسالة السمـاوية ، وأداء مهام ووظائف القيادة التربويـة النبوية للأُمة تحقيقـًا لقوله تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ( سورة الأنعام : من الآية 124 ) ؛ وفي هذا الشأن يقول أحد الكتاب :
" ومع كون الرسول ( صلى الله عليه وسلّم ) بشـرًا ؛ إلا أن الله - عز وجل - هيأه تهيئةً خاصةً تتناسب مع هذا الأمر العظيم الذي اصطُفي له ، فكمَّلهُ في الخـَـلق والخـُلُق ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) أكمل البشـر في كافة الجوانب البشـرية ، كمـا كان أكملهم عبوديةً لربه وقيامًـا بحقه " ( عبد الرؤوف محمد عثمـان ، 1414هـ ، ص 19 ) .


والخلاصة ؛ أننا لا يُمكن أن نكون مُغالين أو مبالغين حينمـا نقررُ قائلين :
إن ما اشتملت عليه سُّنة المصطفى ( صلى الله عليه وسلّم ) ، وهديه ، وسيرته ، وتربيته النبوية من تعاليم ، وتوجيهات ، ومضامين ، وأبعاد ، ومواقف ، ودروسٍ تربويةٍ إنمـا تُعد مصدرًا أساسيًا للتربية الإسلامية ، وهي إلى جانب ذلك مدرسةً تربويةً عظيمةً خَرَّجت أفذاذ الرجال ، وأساتذة الأجيال ، وأساطين الفكر ، ومعلمي الأخلاق ، ودعاة الحق ، وقادة الأُمم الذين " ارتفعوا من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والسلوك والاختراع والمُنجزات العملية ؛ فكان الواحد منهم إمامًا للصلاة ، وقاضيًا في الخُصومة ، وخطيبًا في المجتمعات ، ومُفتيًا في المسائل ، وعاملاً في أي جانبٍ من جوانب بناء الحياة لا يأنف من أي عملٍ مهمـا كان صغيرًا ، فليس في الإسلام مهـنةٌ وضيعةٌ يترفعُ القوم عليها إلاّ ما حرّم الله " ( كمـال محمد عيسى ، 1404هـ ، ص 64 ) .
وفي الختام ، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع هدي النبوة العظيم ، والسير على نهجه المبارك الذي يُعد منهجًا تربويًّا فريدًا تتجـسد فيه كل المعاني الإنسانية النبيلة ، وجميع الفضائل الأخلاقية التي عرفتها البشرية ، وتربت عليها جيلاً بعد جيلٍ ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .



------------------
المصادر و المراجـع
- القرآن الكريم .
- عبد الحميد الهاشمي . ( 1405هـ / 1985م ) . الرسول العربـي المُربـي . ط ( 2 ) . الرياض : دار الهُدى للنشـر والتوزيع .
- عبد الرؤوف محمد عثمـان . ( 1414هـ ) . مـحبة الرسول صلى الله عليه وسلّم بين الاتباع والابتداع . ط ( 2 ) . الرياض : رئاسة إدارة البحوث العلمية و الإفتاء ، وكالة الطباعة والترجـمة .
- عبد الغني عبود . ( 1985م ) . في التربية الإسلامية . ط ( 2 ) . القاهرة : دار الفكر العربي .
- كمـال محمد عيسى . ( 1404هـ / 1983م ) . خصائص مدرسة النبوة . ط ( 2 ) . جدة : دار الشروق للنشـر والتوزيع والطباعة .
- مالك بن أنس . ( د . ت ) . المُوطَّـأ . صححه ورقمه وخرَّج أحاديثه وعلَّـق عليه / محمد فؤاد عبد الباقي . القاهرة : دار الحديث .
- محمود أحمد السّيد . ( 1398هـ / 1978م ) . مُعجزة الإسلام التربويـة . الكويت : دار البحوث العلمية للنشـر والتوزيع .
- مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشيري . ( 1419هـ /1998م ) . صحيح مُسلم . الرياض : دار السلام .
- مصطفى السباعي . ( 1405هـ / 1985م ) . عُظمـاؤنا في التاريخ . ط ( 4 ) . بيروت : المكتب الإسلامي .
*أستاذ التربية الإسلامية بكلية التربية في جامعة الملك خال

أضافة تعليق