موقف مؤلم حدث أمس في تركيا للطالب اليمني الحضرمي سلطان يحيى باتيس ، قال لي ورائحة الحزن تفوح من قلبه، حدثني وعبارات القهر تختنقه، كنت أشعر أنه يريد البكاء ولكن الألم الذي يشعر به حبس عليه دموعه، وأكظم صدره عن البوح بمشاعره حتى مع ذاته .
قال ذهبتُ إلى مستشفى الـ75 عام لصحة الفم والأسنان قسم المرضى الأجانب في أنقرة ، وسجلت اسمي فطلبوا إثباتي فأعطيتهم إقامتي ، وأنتظرت في صالة الإنتطار، وما هي إلا دقيقتين حتى نادتني الموظفة باسمي ، فقمت إليها معتقداً أن دوري قد حان ، واتفاجأ أنها تقول لي لا يوجد اسم وطنك في النظام لدينا !
فقلتُ لها ولكن أنا مريض ولازم أتعالج ، والدوام بالمستشفى على نهايته بقي له ساعة وينتهي الدوام ؛
فنادت هذه الموظفة زميلة أخرى لها بالمستشفى ، فجاءت وقالت لي ممكن نسجلك لاجئ !! قلت لها ولكن أنا هنا طالب يمني، فقالت هذا الخيار الوحيد حتى تتلقى العلاج ، قلت لها لا مشكلة ولكن لاجئ من أي وطن ستسجلين ؟ – لكون الدول التي تستقبل تركيا منها الاجئيين ، معروفه ومحددة في النظام لديهم، واليمن ليست من ضمن هذه الدول - فقالت لي بالتركية : سنسجلك (( vatansız )) – وطن سيز – من لا وطن !
بهذه الجملة القصيرة من لا وطن أي بلا دولة اختصرت الموظفة التركية، حقيقة معاناة الطالب سلطان باتيس وكل يمني مثله ، لقد كان يتمنى على الأقل أن تسجله كلاجيء يمني مع أنه مقيم ولكن لا خيار أمامه سوى هذا الخيار ، بيد أن ظنونه خابت وأنكسر خاطره، حينما قالت له سأسجلك من لا وطن !
لم يلقي سلطان باللائمة على الأتراك ، ولم يسبهم أو يلعنهم أو يشتمهم ، فهو كما أعرفه من أكثر الناس حباً لتركيا وشعبها ، وحتى هذه الموظفة التي سجلته من بلا وطن لم يلمها ، إلا بقوله أن أصحاب الطب لديهم قلوب قاسية !
اللوم كل اللوم على نظام اليمن منذ عهد المخلوع ، هو من تسبب بنزع الوطن من قلوبنا ، ونزعه بعد ذلك من عقول الآخرين حتى صرنا بلا وطن في نظرهم.
ما أعمقه من شعور مؤلم أن لا يكون لديك وطن ، وما أسواء ذلك الشعور حينما يكون لديك وطن ولكن تعيش بحقيقة بلا وطن يظلك ويحتويك؛ وأسواء كل هذا أن تكون يمني ممن حكى التاريخ عن أمجادهم وبطولاتهم ، وسطرت صفحاته بماء الذهب أسطوراتهم وحضارتهم العميقة ،ومع ذلك تكون بلا وطن ، وفي دولة مسلمة شقيقة !
سلطان باتيس خريج الثانوية العامة في المكلا حصل على معدل ٩٥٪ من القسم العلمي بفضل الله ثم بجهده الكامل، دون غش أو محسوبية ، وهو من الأوائل الأذكياء الذين نبغوا في ثانويته، حصل مع بعض زملاءه من طلاب مركز حضرموت للموهوبين على المركز الثاني في البطولة العربية الثامنة للروبوت على مستوى الوطن العربي في الأردن ، متفوقين بذلك على فرق من السعودية ولبنان والأردن وعدة دول عربية .
سلطان هو أحد الذين يمضون نحو مستقبلهم مشياً على الشوك ، وجرياً على الجمر المتبعثرة في الطريق .
سلطان الحضرمي يدرس لغة تركية في جامعة غازي بأنقرة على حساب فاعل خير من محافظة إب (( الشمالية ))، بعد أن تركته مؤسسات حضرمية ، وعدته سلفاً بمنحة دراسية على حسابها !
مضى على سلطان نحو ٨ أشهر في دراسته ولم يتبقى عليه سوى أربعة أشهر أو أقل لإكمال ما يشبه التوفل ولكن باللغة التركية .
يحاول سلطان جاهداً منذ أشهر في الحصول على منحة دراسية بعد إكمال دراسته للغة التركية ، ولكن كل محاولاته تبوء بالفشل على الرغم من تفوقه الكبير على زملائه من دول عدة ممن يدرس معه بنفس القسم بجامعة غازي بأنقرة .
هذه قصة سلطان لمن يريد أن يشعره أن لديه وطن ينتمي إليه ، ويخبره أن الوطن سيسقيه ولو قطرات ماء بعد أشهر .
قال سلطان في ختام حديثه لي ، رحت للمستشفى لتلقي العلاج من مرض ورجعت بمرض أكبر منه ليس له علاج ، مرض أن تعلم أنك من لا وطن !