عبد الله عبد الرحمن
ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المادة/18 : “لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة …”
المواثيق الدولية تملك كافة الوسائل لرسم لوحة فنية مقبولة لحرية الاعتقاد، فهناك الألوان الموحية، والخلفية البارزة، والريشة المواتية، والأنامل الماهرة التي يدفعها الهوى، ويمدها التصور، فينتج ذلك تلك الصورة المعبرة عن مستوى التطور الفكري لدى أصحابها! لكن الغريب في الأمر أن تلك الوسائل كلها لم تضمن لوحة سليمةً فَنِّيّاً، بل جاءت الصورة متناقضة مع خلفيتها، فما هي تلك الصورة؟ والتى من خلالها نَفْهم حرية الاعتقاد المطلقة في تلك المواثيق.
الاعتقاد كما تصوره المواثيق الدولية عبارة عن أمر خاضع للمزاج الشخصي، غير منضبط بأي معيار، وهذه الصورة تناقض خلفيتها، فما هي تلك الخلفية؟ وكيف تناقضها الصورة؟
الاعتقاد كما تصوره المواثيق الدولية عبارة عن أمر خاضع للمزاج الشخصي، غير منضبط بأي معيار
الخلفية التي تعتمد عليها تلك الصورة: هي تكريم الإنسان بالاحترام التام لإرادته، لكنها تهمل اعتبار سبب التكريم (وهو العقل) الذي إذا نقص دوره في اختيارات الإنسان، قل مستوى التكريم الذي يستحقه بقدر ذلك؛ فكيف نُسَوِّي بين من يلتزم مسار العقل، وبين المنحرف الذي قد يسير عكس اتجاه السير، فيعظم الجمادات، بل قد يعبدها!
أليس ذلك دليلا على الخلل العقلي؟ ألم يتفق العقلاء على وجوب تقييد الحرية في تلك الحالة؟ ألا يستحق تصرف ذلك الشخص أن يقابل بالاستنكار المبني على الحجة والبرهان لعله يصحح المسار؟ ألا تقتضي مصلحة البشرية أن يحجر عليه بالقدر الذي يمنع نشر العدوى بين الناس؟
كل ذلك تتجاهله المواثيق الدولية، وبذلك يظهر تناقضها مع الخلفية التي اعتمدتها في تلك الصورة، وهي تكريم البشرية!!!
هكذا تبدو صورة حرية الاعتقاد في المواثيق الدولية بالتحليل، عن قرب، فما هي الصورة الحقيقية للاعتقاد؟ وكيف رسمتها الشريعة الإسلامية؟
الصورة الحقيقية للاعتقاد كما رسمتها الشريعة تبدو في لوحة موحية بالحياة والنور، والطاقة الباعثة على السُّمُوِّ والنهوض برؤية واضحة، والدافعة إلى الانطلاق والسير على صراط مستقيم، هذه اللوحة يرسمها القرآن الكريم بمجموعة من الآيات، فتشع من ألوانها تلك المعاني المتضافرة على حقيقة واحدة: هي أن مسمى: (اعتقاد أو عقيدة) لا يصح إطلاقه على أمر لا يجمع تلك المعاني كلها!
ما هي الآيات التي ترسم هذه اللوحة؟
منهج الإسلام يخالف المواثيق الدولية، فلا َيَعُدُّ كل اختيار حَرِيّاً بالاحترام، ما لم يتناسب مع مقتضى التكريم
قال تعالى: ﴿أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام/122]
وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك/22]
وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [هود/24].
هل المواثيق الدولية توافق منهج الإسلام في حرية الاعتقاد؟
منهج الإسلام يخالف المواثيق الدولية، فلا َيَعُدُّ كل اختيار حَرِيّاً بالاحترام، ما لم يتناسب مع مقتضى التكريم، فلذلك ينتقد كل انحراف بالحجة والبرهان دون مجاملة، ويواصل ذلك نظريا وعمليا، حتى تقوم الحجة، فلا يبقى للمخالفين إلا أن يقولوا: آمنا، أو يقولوا ولو بلسان حالهم مثل ما قص الله عن قوم موسى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ [النمل/14]. هذا منهج الإسلام، أما المواثيق الدولية، فكأنها تقول للإنسان: لا عليك، لا تكلف نفسك عناء النظر والتفكير، فأنت إنسان حر!!!
هل أسيء فهم ضمان حريات الأفراد في الدولة الإسلامية؟
لا شك في وجود سوء فهم أو سوء قصد، فيما يتعلق بضمان حريات الأفراد في الدولة الإسلامية، أما سوء الفهم: فيظهر في اعتبار تطبيق ضوابط النظام الإسلامي تضييقا للحريات، جهلا بمزية ذلك، وأما سوء القصد: فيظهر في السعي من وراء ذلك للغاية التي حذر منها قوله تعالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾ [النساء/89]، فالنظام الإسلامي له ضوابطه الخاصة، ككل نظام متميز عن غيره، فما هي مزية تلك الضوابط؟
تظهر مزية بعض تلك الضوابط عند بيان موقف الإسلام من حرية تغيير الدين، وهي مثار جدل واسع بين المفكرين، فما موقف الإسلام منها ؟
الدين الإسلامي يقبل الدخول فيه، ولا يقبل الخروج منه، وذلك أن الإسلام يأخذ على عاتقه مصلحة الفرد والجماعة، فكما لا يسمح بالانتحار، ولا ما دونه من أذية النفس، فلا يأذن في الردة باعتبارها ضررا أكبر؛ فلذلك شرع الإسلام العلاج لبذرة الشر في كل مراحلها، فعلاجها في المرحلة القلبية هو البيان المقنع، الذي تزول به الشُّبَه، فليست معالجة الإسلام للردة قاصرة على علاج مظاهرها في الأقوال أو الأفعال، وإنما هذا المستوى منها هو الذي يمكن تنزيل الأحكام عليه، ويتعدى أثره للمجتمع.
الإسلام لا يسمح بفتح باب الفساد، ولا بزيادة رقعته، لذلك يعتبر بذرة الكفر في القلب (جرثومة) يشتد خطرها كلما تطورت
وذلك يبين أن التدين في ذلك المستوى ليس أمرا شخصيا، فالاعتناء بتقويمه ليس تدخلا في شأن الفرد الخاص؛ إذ شأن الفرد الخاص هو ما بينه وبين ربه، وذلك لا سلطان للناس عليه! وما يوجه إلى الإسلام من انتقاد في هذا الموضوع، يعود إلى تصور خاطئ: هو أن الإسلام دين كالأديان الأخرى، فلماذا لا يقبل الانتقال منه وإليه كغيره؟!
والأمر ليس كذلك فالإسلام دين الله، الذي لا يقبل غيره، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران/85]، والإسلام لا يسمح بفتح باب الفساد، ولا بزيادة رقعته، لذلك يعتبر بذرة الكفر في القلب (جرثومة) يشتد خطرها كلما تطورت، فيحاصرها في أُولَى مراحلها بالحجة الدامغة، وتشريع العقوبة الرادعة، فإن لم يكف ذلك، فتطورت الجرثومة من القلب إلى اللسان ثم إلى الجوارح، فهنا تتطلب حالة هذا الشخص حجرا صِحِّيّاً؛ لأن حالته أصبحت معدية، كما تستدعي مضاعفة العلاج، وهذا ما يعرف في الشرع الإسلامي بالاستتابة، وهي علاج تمتد مدته بحسب تقدير المشرفين على الحالة من المختصين، فقد تطول ما دام احتمال الشفاء مَرْجُوًّا، لأن الشرع لم يجعل لها مدة محددة، فإذا فقد الأمل في الشفاء، لم يبق إلا تغليب المصلحة العامة بتخليص المجتمع من مصدر العدوى.!