تظل العملية التعليمية فى حاجة ماسة إلى اصطناع الازدواجية المتوقعة بين مصادر الثقافة العربية ومصادر الثقافات الأجنبية ، مما يجعل على الدارس ضرورة تعلم إحدى اللغات الأجنبية ، وإتقانها نطقا وكتابة لتكون سندا له فى الاطلاع على الثقافات الأجنبية ، ومحاولة اختراق حواجز المكان واقتحام مجالات الفكر ، والتوقف عن مناقشة فكر الآخر عن فهم ووعى من قبيل الإثراء لفكر الأمة ولغتها ، وهو ما يتأكد ويتأتى من خلاله منطق الانتماء للثقافة الأم من جانب ، وما قد يضيف إليها بما يثريها ويزيدها عمقا ونضوجا من جانب أخر .
من هنا كانت نقطة البداية الصحيحة التى نادى بها مجمع اللغة العربية ، ولم تؤخذ مأخذ التنفيذ – حتى الآن – عندنا فى قضية تعريب مصطلحات العلوم الطبية والهندسية وغيرها من علوم كيميائية وطبيعية ، وقد اخذ بها التوجه فى بعض الدول العربية ، ولعله اثبت نجاحا فيها ، ليبقى علينا أن نجرب توظيف هذا النمط فى مساق التلاقى والالتحام بمواد الثقافة الأجنبية ، لعله يزيد لغتنا العربية ثراء بإمدادها بأرصدة جديدة من تلك المصطلحات المعربة فى شتى مجالات المعرفة ، ولعله يثبت أيضا ويؤكد قدرتها على التطور وقابليتها لاستيعاب تلك المصادر والتفاعل معا والانطلاق من خلال الوعى بأبعادها وهو ما قد يماثل صورة العطاء التى منحتها العربية لتلك اللغات من قبل .
ومن هنا كانت دوافع ومبررات طرح هذا التصور المبدئى لإمكانية الأخذ بنظام تعريب العلوم ، إلى جانب ما صاحبه من الحرص على إجادة اللغات الأجنبية أو التعامل الجاد من خلال موادها العلمية ، مما يضمن للدارس العربى المزيد من الانفتاح على ثقافات الدنيا من حوله ، قبل أن تحيط بنا العولمة من كل اتجاه ، وهى آتية – لا محالة – وليست أمامنا مجالات لإغلاق فكرنا علينا ، ولا إمكانية إيقاف انفتاح الفكر العالمى على ثقافاتنا بقدر ما يجب أن نمتلكه من وسائل لحماية أنفسنا والحفاظ على هويتنا بمزيد من التجاوب مع مقومات ذلك الفكر فهما ودراسة ووعيا ، ومع الانفتاح عليه أخذا أو رفضا ، قبولا أو نقدا ، استحسانا أو استهجانا ، إذ يظل المهم أن تسجل لأنفسنا موقفا ورؤية إزاء كل ما نواجه فى زحام التكتلات الثقافية المستقبلية التى يحملها إلينا القرن القادم ، والتى بدأت بشائر زحفها خلال الأعوام الأخيرة من القرن العشرين .
وينطلق هذا الفهم من ضرورة تأمل قضايا التخطيط والتنفيذ لهذا التصور المطروح بدءا من إعادة النظر فى تكوين كوادر تعليمية واعية ، تستطيع أن تؤدى دورا فاعلا فى مستوى التخطيط للبرامج العلمية وتهيئة الظروف المناسبة ووضع الأطر التنظيمية الجادة التى تسير تكوين الطالب فى المرحلة الجامعية لعلها تصحح مساره من خلال التجريب الدقيق للتعامل مع المصطلح العربى فى موازاة التقاط المصطلح الغربى ، دون أن يكون بديلا له فى كل الأحوال ، ودون أن يسقطه من حساب مادة علمية بالضرورة كلما أحس احتياجا إليه .
أتصور أن يبدأ هذا التأسيس من خلال مستويين :
أولهما : أعداد مادة قرائية تراثية تزيد من تعريف الطالب بدور الموروث العربى فى التأسيس والتأصيل للثقافة الغربية التى فتحت علينا أبوابها الآن من كل جانب ، وكنا منذ زمن بعيد أصحاب العطاء عبر نشاط حركة الترجمة التى شهدتها عصور ارتقاء الحضارة العربية فى موازاة عصور الظلام فى أوربا ، وفى إطار المقترح من المادة المقروءة تراثيا يمكن أن نتأمل التوصيات الآتية :
1 – ترشيح قراءة نصوص مختارة من التراث العلمى العربى بما يمثل كل توجهات العلم وتفتح مجالات الفكر مثل اختيار نصوص طبية لابن سينا / ابن الهثيم ، ومثلها نصوص من بقية العلوم فلكية / رياضية / هندسية ، مع التعليق على موسوعية المرحلة ، وكشف طبيعة توظيف اللغة كأداة للنبوغ فى أى منها ، حيث استوعبت العربية كل هذه العلوم ، ولم تعلن يوما عن إفلاسها على الإطلاق فى توفير المصطلح العلمى المناسب لكل علم منها على حدة أو فى سياق تداخلاته مع العلوم الأخرى .
2 – التوقف عند نصوص نثرية منتقاة كاشفة عن مراحل الإشراق فى الكتابة العربية المنثورة من خلال قراءات خاصة فى أقسام النثر العلمى والفلسفى التاريخى ، ونصوص الرحالة والجغرافيين والمؤرخين وغيرهم من أساطير الفكر العربى فى اعلى فترات المد الثقافى التى شهدتها .
3 – انتقاء نصوص شعرية مما يجب أن يتم بحرص شديد يكشف عن طبائع حركات الثبات والتجديد التى شهدتها مراحل تطور الحياة العربية ، مع التركيز على صيغ التجديد فى المدارس الفنية ودراسة الاتجاهات المتميزة التى كشفتها القصيدة العربية عبر حركتها على مدار توالى عصور التاريخ الأدبى على اختلاف ما شهدته مقاييس حياتها العلمية .
4 – قراءات خاصة فى مناهج المؤرخين والفلاسفة وتأمل إطروحات رجال الفكر العربى ، مما يساعد على اكتشاف خصوصية الحضارة العربية وتفوقها من جانب ، ثم يعكس قدرتها على العطاء لكل ثقافات الدنيا من حولها ، أو حتى الآخذ منها من جانب آخر .
5 – قراءات خاصة فى كتاب قديم يحسن انتقاؤه بدقة وروية ، وتأمل الخطى المنهجية التى حكمت توجهات العقلية العربية فى عصور التأليف الموسوعى ، على غرار ما عرفته كتابات الجاحظ أو ابن خلدون وغيرهما كثير .
6 – قراءات موجهة تكشف طبيعة تداخل مصادر الفكر بين الشعراء والمفكرين على غرار التعريف بالحماسيات مثلا ، أو تحليل دور الشعراء فى تطوير حركة النقد العربى من خلال قراءات خاصة لنصوص نقدية منتقاة يتوفر لها منطق السهولة ويتحقق لها منطق التشويق فى آن واحد .
ثانيهما : ضرورة الانفتاح على الثقافة والفكر المعاصر من خلال تبنى حركة الترجمة التى تضيف الجديد – بالتأكيد – إلى فكرنا ، وتعمق لدينا المفاهيم ، وتزيد الرؤى عندنا وضوحا . وهنا يظل من واجبنا هنا أن نطرح عدة توصيات فى هذا الصدد أيضا . تبدأ من التسليم بوجود حيثيات مبدئية يحسن التسليم بها ورصدها بشكل موجز باعتبارها ’’ تحصيل حاصل ’’ بلغة الناطقة حيت تبدأ من حتمية الاعتراف والتسليم بان الترجمة علم وفن تتجاوز – فى صورتها الصحيحة – مجرد نقل الكلمة من لغة إلى أخرى ، ليصبح أمر الإحاطة بكل ما حول الكلمة من معان مباشرة أو غير مباشرة مطلبا ضروريا وملحا يقتضى الوعى بأسرار اللغة المنقول إليها أو منها على السواء .
والترجمة قد لا تنقل الأصل بكل خصائصه وسماته الفكرية أو الأدبية ولكنها يجب إن تقارب ذلك حتى وان بقى لذلك ’’ الأصل ’’ قسماته المميزة أيا كانت درجة مهارة المترجم أو براعته فى توظيف أدواته ولغته ، فيحسبه الاقتراب منه بالعمق الذى يحسب له فى ترجمته .
ويظل اعترافنا بأهمية الترجمة وخطرها أمرا مقررا أيضا باعتبارها نافذة فكرية ومدخلا حضاريا نطل منه على فكر العالم من حولنا ، أو يطل علينا ذلك الفكر من خلالها ، بما يضمن لهويتنا العربية مزيدا من التواصل وعدم الانغلاق ، كما يضمن لها المزيد من الصقل والانفتاح على كل ثقافات الأخر ومناهج فكره ومواد إبداعه .
كما تظل الترجمة – بكل المقاييس – ركنا أساسيا يضمن للمكتبة العربية المزيد من النضج والاكتمال من خلال تزايد إيقاع التفاعل المعرفى والحوار العقلى (وحتى الوجدانى) مع أى معطيات من معطيات الثقافات المحيطة بنا ، إذ لا نشك فى إنها ستظل مدخلا إلى الحفاظ على عالمية اللغة العربية مائلة فى فكرها ودراستها وحقولها المعرفية المتعددة .
وتزداد أهمية الترجمة وضوحا إذا أشرنا إلى جهود سابقة فيها، تتراءى لنا من خلالها الأدوار المتعددة التى نهضت بها بعض المؤسسات الثقافية العربية حين تبينت حركة الترجمة تشجيعا ودعما على غرار ما كان من دور الأزهر المتميز فى ترجمة بعض المواد المتصلة بالدراسات القرآنية والحديثة تحاشيا للخلط فى المفاهيم ، وتجنبا للوقوع فيما حول المصطلح من تعدد معان ، وكان لهذا الجانب من الدراسات خصوصيته خاصة إن ترجمة القران – مثلا – من قبل الأجنبى قد لا تخلو من سيطرة الأهواء ، أو على – احسن الفروض – قد تصدر عن تقصير فى فهم ما حول النص من مقومات الأعجاز وأسرار البلاغة ، وهو ما لا يتهيأ ببساطة لكثير من أصحاب اللغة الأم ، فما بالنا بغير أبنائها ممن يصرون على التصدى لأخص صورها بالترجمة ، أو اقتحام أسوارها المجازية والتصويرية الخاصة !
وإذا كانت الترجمة تحمل وجهة نظر صاحبها على المستوى الفردى ، وهى لا تبرأ – ولا تكاد – من سطوة المنطق الذاتى ، فمن باب أولى إن يتسلح صاحبها أمام النصوص المقدسة بأدوات يتفق عليها من قبل علماء الدين وأهل التخصص دون تهاون فى ذلك سعيا إلى ضبط حركة ترجمة النص المقدس من خلال علماء اللغة الأم ممن يطمئن إلى درجة الثقة فى وعيهم بما وراء معانيها الظاهرة من معان أخرى هم اقدر على فهمها وهم أولى ببثها من خلال ما يترجمونه .
وإلى جانب دور الأزهر الشريف يتجلى دور مجتمع اللغة العربية فى الرقابة الصارمة والتوجه الواعى لحركة الترجمة فى مختلف حقولها المعرفية ، بل يحسن أن يتم التنسيق بين المجامع العربية حتى يتسنى لها الالتقاء على كلمة سواء فى منطقة توحيد المعربات من جانب . ، أو فى إرساء مبادئ الترجمة وترسيخ قواعدها خاصة فى مجال الترجمة من العربية إلى أى من اللغات الأجنبية من جانب أخر ، وفى كل الأحوال فأن دور المجامع سيعمق – بالتأكيد – المادة المترجمة ويضمن عدم تشويه النص الأصلى ، ذلك التشويه الذى قد يرد عن قصد أو عن جهل ، و بذا قد نكون قد ضمنا رقابة الهيئات الإسلامية واللغوية على ما يذاع مترجما فى كل أنحاء العالم وعبر لغاته المتعددة ، لينتهى الموقف أما إلى تصحيح مسار الدعوة من خلال نشر الثقافة الإسلامية العربية ، وأما – وهذا مطلب حيوى واشد خطرا – إلى تصحيح المفاهيم حول مبادئ الدين وقيمه ، أو أسرار اللغة وطاقاتها التصويرية والإيحائية .
ويبقى لوزارة الثقافة دور مهم أيضا فى الترجمة الواعية لمواد الأدب العربى قديمه وحديثه حرصا على نشره وضمانا لذيوعه بين ثقافات العالم فى صور غير مشوهة تبدأ من الانتقاء وتنتهى عند دقة المعالجة مع امتلاك الأدوات من خلال أشباه لما كان يطرح من أعمال فى إطار سلسلة الآلف كتاب أو ما يهيئه المشروع القومى للترجمة من تعميق لهذا الاتجاه .
ثم تبقى أمامنا التوصيات التى قد تسهم فى استشراق أفاق افضل فى حقول الترجمة حتى تتحدد أبعادها وتبين ملامحها فيما يلى :
التركيز على إبراز دور الترجمة وخطرها وضرورتها فى حوار الثقافات ، مما يبشر بمزيد من التأكيد على عالمية اللغة العربية ، سواء فى سياق دراستها الموروثة ( علوم الأوائل ) بين ثقافة إسلامية أو أدبية ، أو بين قدرتها على احتواء لغة العلوم فى شتى صورها العلمية والتجريدية .
أعداد خطة قومية متكاملة تبدأ من تحديد أمهات المراجع والمصادر وتصنيفها ابتداء بالأولى بالترجمة ، حتى يسهل الإفادة منها ، واطلاع الدارسين عليها بما يهيئ لهم الفرص للتعرف على صور مشرقة من مواد الإبداع باللغة الأم ، على أن يكون المترجم هنا ملما بحقل المادة المترجمة وما حوله من حقول معرفية معينة ومجالات مساعدة تهيئه لبلورة أفكاره حول جوهر المادة المترجمة وما حولها من معارف هامشية تكمل صورتها.
للإصرار على استعادة – أو أحياء – الدور المعمق الذى لعبته التراجم العربية فى توجهات الفكر وتجديد مساراته التى ارتقت فى فروع معينة فى العصور الوسطى ، مع محاولة أحياء للأنماط والمواد المترجمة بشكل عصرى متجدد يضاف إليه ما يتحمص عنه التخطيط السليم لحركة الترجمة العلمية التى تسجل إنجازات البشر فى كل بلاد الدنيا ، وهى تيسر لنا الاتصال بها ، والإفادة منها أو نشر ما أنجز عندنا على نفس المستوى فى مجالات العلوم الطبية والهندسية وغيرها .
ويبقى فى صناعة الترجمة أشياء لا تقبل التنازل ولا تجدر المساومة حولها : منها ما يتعلق بصقل ثقافة المترجم وضمان وعيه بالسياق العام لما يترجمه ، لعله – بذلك – يتجاوز مثل ما وقع من أخطاء للعرب فى بدايات ترجماتهم لكتاب الشعر لأر سطو حين ترجموا المأساة مديحا والملهاة هجاء ، فمن الضرورى أن نطمح إلى تجاوز حرفية الترجمة أو التوقف عند قاموسية الألفاظ حيث يشغل بها المترجم الضعيف مما قد يسىء إلى النصوص المترجمة ، وهنا يظل مطلوبا من المترجم – أيضا – الإلمام بتراث الثقافتين المنقول منها والمنقول إليها حتى يمتلك الأدوات بشكل واع على غرار ما صورة القدماء من أمر أبى موسى الأسوارى حين كان يفسر الآية القرآنية بالعربية والعرب عن يمينه ثم بالفارسية للفرس عن يساره ، فلا يدرى بأى اللسانين هو أبين على حد تعبير الجاحظ .
ٍكما يحسن الإلحاح على تشكيل لجان متخصصة لمراجعة المواد المترجمة بما يضمن صحتها ودقتها وتحديد مدى صلتها بلغة الأصل مما يطمئن إلى عدم تشويه المضامين كما يضمن – على الأقل – ندرة الأخطاء فيما هو منقول من المادة ، إلى جانب اتساق المادة المترجمة مع تيارات الفكر المساندة ، أو الأنماط المقبولة فى المجتمع على المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام .
ضرورة تشجيع معارض الكتب المترجمة وتنشيط أسواقها وتيسير تناولها اقتصاديا بعد ضمان مصداقية الرقابة عليها باعتبارها وسيلة اتصال هامة بالثقافة العالمية ، وسبيلا إلى المشاركة والإسهام الفاعل فى مقومات تلك الثقافة .
وربما بدا بديهيا أو فى غير حاجة إلى تأكيد وعندئذ تكفى الإشارة إلى ضرورة توفير وسائل العمل بين أيدى المترجمين وما يتبع ذلك من إلحاح على تفرغهم العلمى لصياغة الأعمال المترجمة مع كفالة حماية مترجماتهم من سطو آخرين عليها لتكتمل للحركة صورتها لعلها تنتهى إلى سلامة الأداء وثراء اللغة .
وانتقالا من هذه التصورات المتصلة بضرورة الاهتمام بالترجمة من العربية واليها تنطلق الرؤى المستقبلية محكومة بمطلب إعادة النظر فى المنظومة التعليمية من خلال تأمل دور اللغة العربية ذاتها فى تأكيد استمرارية الانتماء من جانب ، وضمان انفتاح المستقبل العلمى الواعى من خلالها من جانب آخر .
ولاشك إن تحقيق أى هذه الأهداف قد يظل مرهونا بزيادة أعضاء هيئة التدريس من ذوى الخبرة والاختصاص والتدريب الكافى بشكل عصرى وبشكل مطرد يتناسب مع الزيادات الطلابية المتوقعة فى الأعداد ، مما يتطلب اصطناع نمط من أنماط الاتساق بين الأمرين ، حتى يمكن أن يعاد توزيع الطلاب بشكل مقبول يسمح بأداء التدريبات اللغوية وتلقى المزيد من صيغ تحليل النص اللغوى ، أو حتى تقديم أبحاث يمكن مناقشتها وتقويم ما فيها من أخطاء منهجية أو علمية ، مما يعد خطوة مبدئية على طريق تعليم الطالب الجامعى جانبا من منهج البحث فى صورتيه النظرية والتطبيقية .
ومع هذه الزيادة المطلوبة تظل الحاجة قائمة – أيضا – إلى استمرار توظيف تكنولوجيا التعليم على مستوى انتشار ورش العمل ومجالات التطبيقات التحليلية إلى جانب ما هو متوقع – بالتأكيد – من صور أخرى مساعدة تنهض بها القنوات التعليمية المتخصصة ، حيث تزيد من رسوخ المادة العلمية المتداولة فى الوسط الطلابى عبر مختلف التخصصات العلمية فى الكليات الجامعية .
ولا شك إن ثمة أسسا وقواعد يحسن التنبيه إليها إدراكا لخطرها ، واعترافا بضرورة الصدور عنها فى مجال تحقيق هذا الطموح ، مما يوسع دائرة التثقيف بالعربية حتى تتجاوز أنصاف المثقفين ، ليرتقى دورها فتصبح اللغة الحاوية لمجمل المكونات الثقافية العربية بشقيها القديم الموروث والجديد المعاصر .
ومن هنا أيضا كان وجوب إعادة النظر فى فلسفة التعليم باللغة العربية أمرا مهما ينبغى أن يسير فى اتجاهين متوازين :
أولهما : يتعلق بالعلوم المكتوبة بالعربية أساسا ، مما يتطلب إعادة النظر فى محتواها ثم إعادة صياغة المناهج القائمة – بالفعل – مما يتطلب مراجعتها ، ولضمان الحد الأدنى من صيغ الجمع بين الأصالة والمعاصرة قصدا إلى إقامة لسان المثقف العربى بشكل سليم دون ابتذال أو إسفاف لغوى ، وليصبح خريج الجامعة فى أى من مجالات العلم اكثر تمكنا من توظيف لغته القومية فى كتاباته وحواراته العلمية على وجه التحديد .
ثانيهما : يتعلق بطبيعة المادة المنقولة من الثقافات الأخرى وهذه يجب الحفاظ عليها فى سياق المترجمات ، مما يتطلب قيام فريق عمل من المترجمين بمراجعة دقيقة لها بعد ترجمتها من قبيل الاطمئنان إلى سلامة لغة الترجمة ، وتجنب الركاكة وتجاوز صور الانحدار اللغوى التى يخشى من تأثيرها على اللغة ذاتها ، فما بالنا بلسان جمهور المتلقين الذين يعتمدون مصداقية المترجم دون تردده .
أما فى مجال التعليم باللغات الأجنبية فيظل الأمر هنا محدودا باعتبار اللغات مدخلا من المداخل الضرورية لاستكمال أدوات الدارس ، وضمان تفاعله فى سياق مجالات التخصص ، سواء تمثل ذلك فى إدراك مفهوم المصطلح ، أو كشف ما وراءه من دلالات الصياغة مما يتطلب – أيضا – إعادة النظر فى مدى جدية تدريس اللغات الأجنبية فى المرحلة الأولى من التعليم الجامعى ، فمن الملاحظ أن جرعات الثقافة الأجنبية تبدو مهشمة إلى حد بعيد وواضح خاصة إذا استبعدنا المواد التخصصية ، وكأن اللغة الأجنبية بدت اقل مستوى مما درسه الطالب فى مرحلة التعليم قبل الجامعى ، الأمر الذى بات مطلوبا – وبإلحاح – إعادة تقييمه والنظر فيه بحزم ومناقشته فى إطار مرجعى واع يستهدف وضع برامج تعليمية واضحة المعالم تجعل لتعليم اللغات الأجنبية معيارا يكشف جدواها لتتجاوز مرحلة سد الفراغ من قبل المدرسين وتقديم مادة جديدة لها أهميتها فى إعادة تشكيل الثقافة والإضافة إليها ، مما يساعد الطالب فى إجادة لغته ، إلى جوارها – على الأقل – لغة أخرى تظل مساعدة له فتتجاوز حد التهميش الذى تعانى منه الدراسة الجامعية الآن خضوعا لمستويات الأداء من خلال تعليم تلك اللغات .
وقبل نهاية الحوار يحسن رصد خلاصة فلسفة التعليم بالعربية من خلال عدة محاور :
1 – ان نصنع كما صنع القدماء حين ترجموا فأضافوا وشاركوا وابتكروا وكان ما ترجموه من فكر قد حثهم على المزيد من الإنتاج المعرفى الكاشف عن هوية الأمة وعبقرية أقطابها الكبار
2 – أن نعيد النظر في تدريس اللغة العربية لكل المثقفين فى جميع التخصصات العلمية صقلا للسان وإقامة الجملة وتأصيل الوعي بمدركاتها وما تحمله من دلالات ، فمن غير المنطقي أو المقبول أن يجهل المثقف لغته الأم ويجيد غيرها وهو محسوب عليها .
3 – إن ثمة نقطة التقاء يجب أن تتم بين المجامع العربية للانتهاء إلى الموقف أكثر وضوحا وجلاء إزاء تعريب مصطلحات العلوم ويحسن هنا توحيد الصياغة بين هذه المجامع على مستوى الأقطار العربية .
4 – لابد من الاستعانة بأحدث صور التكنولوجيا في النهوض بمقومات العربية وإعادة توظيفها فى خدمة العلم والثقافة خاصة إنها معروفة بتراثها وعمق معانيها وكثرة مجازاتها وتعدد صور الاشتقاق فيها مما يدعو إلى مزيد من الثراء اللغوي الذي يجعلها جاهزة لاستقبال أى مصطلح علمي قابلة لاستيعابه واحتوائه وإعادة التعبير عنه .
5 – يظل تاريخ لغتنا – باعتبارها لغة العلوم أيضا – شاهدا لها لا عليها ، وهى الشهادة التى تجعلنا شديدي الحرص عليها من جانب ، وعلى تطويرها لتساير تغير الحياة من جانب آخر ، وفى كل الجوانب تظل اللغة بوتقة جامعة لكل ما ننتجه ونبدعه ، وتزداد ثراء بالتأكيد إذا ما اقتحمت عالم الترجمة نقلا منها أو نقلا إليها على السواء .
من هنا كانت نقطة البداية الصحيحة التى نادى بها مجمع اللغة العربية ، ولم تؤخذ مأخذ التنفيذ – حتى الآن – عندنا فى قضية تعريب مصطلحات العلوم الطبية والهندسية وغيرها من علوم كيميائية وطبيعية ، وقد اخذ بها التوجه فى بعض الدول العربية ، ولعله اثبت نجاحا فيها ، ليبقى علينا أن نجرب توظيف هذا النمط فى مساق التلاقى والالتحام بمواد الثقافة الأجنبية ، لعله يزيد لغتنا العربية ثراء بإمدادها بأرصدة جديدة من تلك المصطلحات المعربة فى شتى مجالات المعرفة ، ولعله يثبت أيضا ويؤكد قدرتها على التطور وقابليتها لاستيعاب تلك المصادر والتفاعل معا والانطلاق من خلال الوعى بأبعادها وهو ما قد يماثل صورة العطاء التى منحتها العربية لتلك اللغات من قبل .
ومن هنا كانت دوافع ومبررات طرح هذا التصور المبدئى لإمكانية الأخذ بنظام تعريب العلوم ، إلى جانب ما صاحبه من الحرص على إجادة اللغات الأجنبية أو التعامل الجاد من خلال موادها العلمية ، مما يضمن للدارس العربى المزيد من الانفتاح على ثقافات الدنيا من حوله ، قبل أن تحيط بنا العولمة من كل اتجاه ، وهى آتية – لا محالة – وليست أمامنا مجالات لإغلاق فكرنا علينا ، ولا إمكانية إيقاف انفتاح الفكر العالمى على ثقافاتنا بقدر ما يجب أن نمتلكه من وسائل لحماية أنفسنا والحفاظ على هويتنا بمزيد من التجاوب مع مقومات ذلك الفكر فهما ودراسة ووعيا ، ومع الانفتاح عليه أخذا أو رفضا ، قبولا أو نقدا ، استحسانا أو استهجانا ، إذ يظل المهم أن تسجل لأنفسنا موقفا ورؤية إزاء كل ما نواجه فى زحام التكتلات الثقافية المستقبلية التى يحملها إلينا القرن القادم ، والتى بدأت بشائر زحفها خلال الأعوام الأخيرة من القرن العشرين .
وينطلق هذا الفهم من ضرورة تأمل قضايا التخطيط والتنفيذ لهذا التصور المطروح بدءا من إعادة النظر فى تكوين كوادر تعليمية واعية ، تستطيع أن تؤدى دورا فاعلا فى مستوى التخطيط للبرامج العلمية وتهيئة الظروف المناسبة ووضع الأطر التنظيمية الجادة التى تسير تكوين الطالب فى المرحلة الجامعية لعلها تصحح مساره من خلال التجريب الدقيق للتعامل مع المصطلح العربى فى موازاة التقاط المصطلح الغربى ، دون أن يكون بديلا له فى كل الأحوال ، ودون أن يسقطه من حساب مادة علمية بالضرورة كلما أحس احتياجا إليه .
أتصور أن يبدأ هذا التأسيس من خلال مستويين :
أولهما : أعداد مادة قرائية تراثية تزيد من تعريف الطالب بدور الموروث العربى فى التأسيس والتأصيل للثقافة الغربية التى فتحت علينا أبوابها الآن من كل جانب ، وكنا منذ زمن بعيد أصحاب العطاء عبر نشاط حركة الترجمة التى شهدتها عصور ارتقاء الحضارة العربية فى موازاة عصور الظلام فى أوربا ، وفى إطار المقترح من المادة المقروءة تراثيا يمكن أن نتأمل التوصيات الآتية :
1 – ترشيح قراءة نصوص مختارة من التراث العلمى العربى بما يمثل كل توجهات العلم وتفتح مجالات الفكر مثل اختيار نصوص طبية لابن سينا / ابن الهثيم ، ومثلها نصوص من بقية العلوم فلكية / رياضية / هندسية ، مع التعليق على موسوعية المرحلة ، وكشف طبيعة توظيف اللغة كأداة للنبوغ فى أى منها ، حيث استوعبت العربية كل هذه العلوم ، ولم تعلن يوما عن إفلاسها على الإطلاق فى توفير المصطلح العلمى المناسب لكل علم منها على حدة أو فى سياق تداخلاته مع العلوم الأخرى .
2 – التوقف عند نصوص نثرية منتقاة كاشفة عن مراحل الإشراق فى الكتابة العربية المنثورة من خلال قراءات خاصة فى أقسام النثر العلمى والفلسفى التاريخى ، ونصوص الرحالة والجغرافيين والمؤرخين وغيرهم من أساطير الفكر العربى فى اعلى فترات المد الثقافى التى شهدتها .
3 – انتقاء نصوص شعرية مما يجب أن يتم بحرص شديد يكشف عن طبائع حركات الثبات والتجديد التى شهدتها مراحل تطور الحياة العربية ، مع التركيز على صيغ التجديد فى المدارس الفنية ودراسة الاتجاهات المتميزة التى كشفتها القصيدة العربية عبر حركتها على مدار توالى عصور التاريخ الأدبى على اختلاف ما شهدته مقاييس حياتها العلمية .
4 – قراءات خاصة فى مناهج المؤرخين والفلاسفة وتأمل إطروحات رجال الفكر العربى ، مما يساعد على اكتشاف خصوصية الحضارة العربية وتفوقها من جانب ، ثم يعكس قدرتها على العطاء لكل ثقافات الدنيا من حولها ، أو حتى الآخذ منها من جانب آخر .
5 – قراءات خاصة فى كتاب قديم يحسن انتقاؤه بدقة وروية ، وتأمل الخطى المنهجية التى حكمت توجهات العقلية العربية فى عصور التأليف الموسوعى ، على غرار ما عرفته كتابات الجاحظ أو ابن خلدون وغيرهما كثير .
6 – قراءات موجهة تكشف طبيعة تداخل مصادر الفكر بين الشعراء والمفكرين على غرار التعريف بالحماسيات مثلا ، أو تحليل دور الشعراء فى تطوير حركة النقد العربى من خلال قراءات خاصة لنصوص نقدية منتقاة يتوفر لها منطق السهولة ويتحقق لها منطق التشويق فى آن واحد .
ثانيهما : ضرورة الانفتاح على الثقافة والفكر المعاصر من خلال تبنى حركة الترجمة التى تضيف الجديد – بالتأكيد – إلى فكرنا ، وتعمق لدينا المفاهيم ، وتزيد الرؤى عندنا وضوحا . وهنا يظل من واجبنا هنا أن نطرح عدة توصيات فى هذا الصدد أيضا . تبدأ من التسليم بوجود حيثيات مبدئية يحسن التسليم بها ورصدها بشكل موجز باعتبارها ’’ تحصيل حاصل ’’ بلغة الناطقة حيت تبدأ من حتمية الاعتراف والتسليم بان الترجمة علم وفن تتجاوز – فى صورتها الصحيحة – مجرد نقل الكلمة من لغة إلى أخرى ، ليصبح أمر الإحاطة بكل ما حول الكلمة من معان مباشرة أو غير مباشرة مطلبا ضروريا وملحا يقتضى الوعى بأسرار اللغة المنقول إليها أو منها على السواء .
والترجمة قد لا تنقل الأصل بكل خصائصه وسماته الفكرية أو الأدبية ولكنها يجب إن تقارب ذلك حتى وان بقى لذلك ’’ الأصل ’’ قسماته المميزة أيا كانت درجة مهارة المترجم أو براعته فى توظيف أدواته ولغته ، فيحسبه الاقتراب منه بالعمق الذى يحسب له فى ترجمته .
ويظل اعترافنا بأهمية الترجمة وخطرها أمرا مقررا أيضا باعتبارها نافذة فكرية ومدخلا حضاريا نطل منه على فكر العالم من حولنا ، أو يطل علينا ذلك الفكر من خلالها ، بما يضمن لهويتنا العربية مزيدا من التواصل وعدم الانغلاق ، كما يضمن لها المزيد من الصقل والانفتاح على كل ثقافات الأخر ومناهج فكره ومواد إبداعه .
كما تظل الترجمة – بكل المقاييس – ركنا أساسيا يضمن للمكتبة العربية المزيد من النضج والاكتمال من خلال تزايد إيقاع التفاعل المعرفى والحوار العقلى (وحتى الوجدانى) مع أى معطيات من معطيات الثقافات المحيطة بنا ، إذ لا نشك فى إنها ستظل مدخلا إلى الحفاظ على عالمية اللغة العربية مائلة فى فكرها ودراستها وحقولها المعرفية المتعددة .
وتزداد أهمية الترجمة وضوحا إذا أشرنا إلى جهود سابقة فيها، تتراءى لنا من خلالها الأدوار المتعددة التى نهضت بها بعض المؤسسات الثقافية العربية حين تبينت حركة الترجمة تشجيعا ودعما على غرار ما كان من دور الأزهر المتميز فى ترجمة بعض المواد المتصلة بالدراسات القرآنية والحديثة تحاشيا للخلط فى المفاهيم ، وتجنبا للوقوع فيما حول المصطلح من تعدد معان ، وكان لهذا الجانب من الدراسات خصوصيته خاصة إن ترجمة القران – مثلا – من قبل الأجنبى قد لا تخلو من سيطرة الأهواء ، أو على – احسن الفروض – قد تصدر عن تقصير فى فهم ما حول النص من مقومات الأعجاز وأسرار البلاغة ، وهو ما لا يتهيأ ببساطة لكثير من أصحاب اللغة الأم ، فما بالنا بغير أبنائها ممن يصرون على التصدى لأخص صورها بالترجمة ، أو اقتحام أسوارها المجازية والتصويرية الخاصة !
وإذا كانت الترجمة تحمل وجهة نظر صاحبها على المستوى الفردى ، وهى لا تبرأ – ولا تكاد – من سطوة المنطق الذاتى ، فمن باب أولى إن يتسلح صاحبها أمام النصوص المقدسة بأدوات يتفق عليها من قبل علماء الدين وأهل التخصص دون تهاون فى ذلك سعيا إلى ضبط حركة ترجمة النص المقدس من خلال علماء اللغة الأم ممن يطمئن إلى درجة الثقة فى وعيهم بما وراء معانيها الظاهرة من معان أخرى هم اقدر على فهمها وهم أولى ببثها من خلال ما يترجمونه .
وإلى جانب دور الأزهر الشريف يتجلى دور مجتمع اللغة العربية فى الرقابة الصارمة والتوجه الواعى لحركة الترجمة فى مختلف حقولها المعرفية ، بل يحسن أن يتم التنسيق بين المجامع العربية حتى يتسنى لها الالتقاء على كلمة سواء فى منطقة توحيد المعربات من جانب . ، أو فى إرساء مبادئ الترجمة وترسيخ قواعدها خاصة فى مجال الترجمة من العربية إلى أى من اللغات الأجنبية من جانب أخر ، وفى كل الأحوال فأن دور المجامع سيعمق – بالتأكيد – المادة المترجمة ويضمن عدم تشويه النص الأصلى ، ذلك التشويه الذى قد يرد عن قصد أو عن جهل ، و بذا قد نكون قد ضمنا رقابة الهيئات الإسلامية واللغوية على ما يذاع مترجما فى كل أنحاء العالم وعبر لغاته المتعددة ، لينتهى الموقف أما إلى تصحيح مسار الدعوة من خلال نشر الثقافة الإسلامية العربية ، وأما – وهذا مطلب حيوى واشد خطرا – إلى تصحيح المفاهيم حول مبادئ الدين وقيمه ، أو أسرار اللغة وطاقاتها التصويرية والإيحائية .
ويبقى لوزارة الثقافة دور مهم أيضا فى الترجمة الواعية لمواد الأدب العربى قديمه وحديثه حرصا على نشره وضمانا لذيوعه بين ثقافات العالم فى صور غير مشوهة تبدأ من الانتقاء وتنتهى عند دقة المعالجة مع امتلاك الأدوات من خلال أشباه لما كان يطرح من أعمال فى إطار سلسلة الآلف كتاب أو ما يهيئه المشروع القومى للترجمة من تعميق لهذا الاتجاه .
ثم تبقى أمامنا التوصيات التى قد تسهم فى استشراق أفاق افضل فى حقول الترجمة حتى تتحدد أبعادها وتبين ملامحها فيما يلى :
التركيز على إبراز دور الترجمة وخطرها وضرورتها فى حوار الثقافات ، مما يبشر بمزيد من التأكيد على عالمية اللغة العربية ، سواء فى سياق دراستها الموروثة ( علوم الأوائل ) بين ثقافة إسلامية أو أدبية ، أو بين قدرتها على احتواء لغة العلوم فى شتى صورها العلمية والتجريدية .
أعداد خطة قومية متكاملة تبدأ من تحديد أمهات المراجع والمصادر وتصنيفها ابتداء بالأولى بالترجمة ، حتى يسهل الإفادة منها ، واطلاع الدارسين عليها بما يهيئ لهم الفرص للتعرف على صور مشرقة من مواد الإبداع باللغة الأم ، على أن يكون المترجم هنا ملما بحقل المادة المترجمة وما حوله من حقول معرفية معينة ومجالات مساعدة تهيئه لبلورة أفكاره حول جوهر المادة المترجمة وما حولها من معارف هامشية تكمل صورتها.
للإصرار على استعادة – أو أحياء – الدور المعمق الذى لعبته التراجم العربية فى توجهات الفكر وتجديد مساراته التى ارتقت فى فروع معينة فى العصور الوسطى ، مع محاولة أحياء للأنماط والمواد المترجمة بشكل عصرى متجدد يضاف إليه ما يتحمص عنه التخطيط السليم لحركة الترجمة العلمية التى تسجل إنجازات البشر فى كل بلاد الدنيا ، وهى تيسر لنا الاتصال بها ، والإفادة منها أو نشر ما أنجز عندنا على نفس المستوى فى مجالات العلوم الطبية والهندسية وغيرها .
ويبقى فى صناعة الترجمة أشياء لا تقبل التنازل ولا تجدر المساومة حولها : منها ما يتعلق بصقل ثقافة المترجم وضمان وعيه بالسياق العام لما يترجمه ، لعله – بذلك – يتجاوز مثل ما وقع من أخطاء للعرب فى بدايات ترجماتهم لكتاب الشعر لأر سطو حين ترجموا المأساة مديحا والملهاة هجاء ، فمن الضرورى أن نطمح إلى تجاوز حرفية الترجمة أو التوقف عند قاموسية الألفاظ حيث يشغل بها المترجم الضعيف مما قد يسىء إلى النصوص المترجمة ، وهنا يظل مطلوبا من المترجم – أيضا – الإلمام بتراث الثقافتين المنقول منها والمنقول إليها حتى يمتلك الأدوات بشكل واع على غرار ما صورة القدماء من أمر أبى موسى الأسوارى حين كان يفسر الآية القرآنية بالعربية والعرب عن يمينه ثم بالفارسية للفرس عن يساره ، فلا يدرى بأى اللسانين هو أبين على حد تعبير الجاحظ .
ٍكما يحسن الإلحاح على تشكيل لجان متخصصة لمراجعة المواد المترجمة بما يضمن صحتها ودقتها وتحديد مدى صلتها بلغة الأصل مما يطمئن إلى عدم تشويه المضامين كما يضمن – على الأقل – ندرة الأخطاء فيما هو منقول من المادة ، إلى جانب اتساق المادة المترجمة مع تيارات الفكر المساندة ، أو الأنماط المقبولة فى المجتمع على المستويات الدينية والاجتماعية والسياسية والفكرية بوجه عام .
ضرورة تشجيع معارض الكتب المترجمة وتنشيط أسواقها وتيسير تناولها اقتصاديا بعد ضمان مصداقية الرقابة عليها باعتبارها وسيلة اتصال هامة بالثقافة العالمية ، وسبيلا إلى المشاركة والإسهام الفاعل فى مقومات تلك الثقافة .
وربما بدا بديهيا أو فى غير حاجة إلى تأكيد وعندئذ تكفى الإشارة إلى ضرورة توفير وسائل العمل بين أيدى المترجمين وما يتبع ذلك من إلحاح على تفرغهم العلمى لصياغة الأعمال المترجمة مع كفالة حماية مترجماتهم من سطو آخرين عليها لتكتمل للحركة صورتها لعلها تنتهى إلى سلامة الأداء وثراء اللغة .
وانتقالا من هذه التصورات المتصلة بضرورة الاهتمام بالترجمة من العربية واليها تنطلق الرؤى المستقبلية محكومة بمطلب إعادة النظر فى المنظومة التعليمية من خلال تأمل دور اللغة العربية ذاتها فى تأكيد استمرارية الانتماء من جانب ، وضمان انفتاح المستقبل العلمى الواعى من خلالها من جانب آخر .
ولاشك إن تحقيق أى هذه الأهداف قد يظل مرهونا بزيادة أعضاء هيئة التدريس من ذوى الخبرة والاختصاص والتدريب الكافى بشكل عصرى وبشكل مطرد يتناسب مع الزيادات الطلابية المتوقعة فى الأعداد ، مما يتطلب اصطناع نمط من أنماط الاتساق بين الأمرين ، حتى يمكن أن يعاد توزيع الطلاب بشكل مقبول يسمح بأداء التدريبات اللغوية وتلقى المزيد من صيغ تحليل النص اللغوى ، أو حتى تقديم أبحاث يمكن مناقشتها وتقويم ما فيها من أخطاء منهجية أو علمية ، مما يعد خطوة مبدئية على طريق تعليم الطالب الجامعى جانبا من منهج البحث فى صورتيه النظرية والتطبيقية .
ومع هذه الزيادة المطلوبة تظل الحاجة قائمة – أيضا – إلى استمرار توظيف تكنولوجيا التعليم على مستوى انتشار ورش العمل ومجالات التطبيقات التحليلية إلى جانب ما هو متوقع – بالتأكيد – من صور أخرى مساعدة تنهض بها القنوات التعليمية المتخصصة ، حيث تزيد من رسوخ المادة العلمية المتداولة فى الوسط الطلابى عبر مختلف التخصصات العلمية فى الكليات الجامعية .
ولا شك إن ثمة أسسا وقواعد يحسن التنبيه إليها إدراكا لخطرها ، واعترافا بضرورة الصدور عنها فى مجال تحقيق هذا الطموح ، مما يوسع دائرة التثقيف بالعربية حتى تتجاوز أنصاف المثقفين ، ليرتقى دورها فتصبح اللغة الحاوية لمجمل المكونات الثقافية العربية بشقيها القديم الموروث والجديد المعاصر .
ومن هنا أيضا كان وجوب إعادة النظر فى فلسفة التعليم باللغة العربية أمرا مهما ينبغى أن يسير فى اتجاهين متوازين :
أولهما : يتعلق بالعلوم المكتوبة بالعربية أساسا ، مما يتطلب إعادة النظر فى محتواها ثم إعادة صياغة المناهج القائمة – بالفعل – مما يتطلب مراجعتها ، ولضمان الحد الأدنى من صيغ الجمع بين الأصالة والمعاصرة قصدا إلى إقامة لسان المثقف العربى بشكل سليم دون ابتذال أو إسفاف لغوى ، وليصبح خريج الجامعة فى أى من مجالات العلم اكثر تمكنا من توظيف لغته القومية فى كتاباته وحواراته العلمية على وجه التحديد .
ثانيهما : يتعلق بطبيعة المادة المنقولة من الثقافات الأخرى وهذه يجب الحفاظ عليها فى سياق المترجمات ، مما يتطلب قيام فريق عمل من المترجمين بمراجعة دقيقة لها بعد ترجمتها من قبيل الاطمئنان إلى سلامة لغة الترجمة ، وتجنب الركاكة وتجاوز صور الانحدار اللغوى التى يخشى من تأثيرها على اللغة ذاتها ، فما بالنا بلسان جمهور المتلقين الذين يعتمدون مصداقية المترجم دون تردده .
أما فى مجال التعليم باللغات الأجنبية فيظل الأمر هنا محدودا باعتبار اللغات مدخلا من المداخل الضرورية لاستكمال أدوات الدارس ، وضمان تفاعله فى سياق مجالات التخصص ، سواء تمثل ذلك فى إدراك مفهوم المصطلح ، أو كشف ما وراءه من دلالات الصياغة مما يتطلب – أيضا – إعادة النظر فى مدى جدية تدريس اللغات الأجنبية فى المرحلة الأولى من التعليم الجامعى ، فمن الملاحظ أن جرعات الثقافة الأجنبية تبدو مهشمة إلى حد بعيد وواضح خاصة إذا استبعدنا المواد التخصصية ، وكأن اللغة الأجنبية بدت اقل مستوى مما درسه الطالب فى مرحلة التعليم قبل الجامعى ، الأمر الذى بات مطلوبا – وبإلحاح – إعادة تقييمه والنظر فيه بحزم ومناقشته فى إطار مرجعى واع يستهدف وضع برامج تعليمية واضحة المعالم تجعل لتعليم اللغات الأجنبية معيارا يكشف جدواها لتتجاوز مرحلة سد الفراغ من قبل المدرسين وتقديم مادة جديدة لها أهميتها فى إعادة تشكيل الثقافة والإضافة إليها ، مما يساعد الطالب فى إجادة لغته ، إلى جوارها – على الأقل – لغة أخرى تظل مساعدة له فتتجاوز حد التهميش الذى تعانى منه الدراسة الجامعية الآن خضوعا لمستويات الأداء من خلال تعليم تلك اللغات .
وقبل نهاية الحوار يحسن رصد خلاصة فلسفة التعليم بالعربية من خلال عدة محاور :
1 – ان نصنع كما صنع القدماء حين ترجموا فأضافوا وشاركوا وابتكروا وكان ما ترجموه من فكر قد حثهم على المزيد من الإنتاج المعرفى الكاشف عن هوية الأمة وعبقرية أقطابها الكبار
2 – أن نعيد النظر في تدريس اللغة العربية لكل المثقفين فى جميع التخصصات العلمية صقلا للسان وإقامة الجملة وتأصيل الوعي بمدركاتها وما تحمله من دلالات ، فمن غير المنطقي أو المقبول أن يجهل المثقف لغته الأم ويجيد غيرها وهو محسوب عليها .
3 – إن ثمة نقطة التقاء يجب أن تتم بين المجامع العربية للانتهاء إلى الموقف أكثر وضوحا وجلاء إزاء تعريب مصطلحات العلوم ويحسن هنا توحيد الصياغة بين هذه المجامع على مستوى الأقطار العربية .
4 – لابد من الاستعانة بأحدث صور التكنولوجيا في النهوض بمقومات العربية وإعادة توظيفها فى خدمة العلم والثقافة خاصة إنها معروفة بتراثها وعمق معانيها وكثرة مجازاتها وتعدد صور الاشتقاق فيها مما يدعو إلى مزيد من الثراء اللغوي الذي يجعلها جاهزة لاستقبال أى مصطلح علمي قابلة لاستيعابه واحتوائه وإعادة التعبير عنه .
5 – يظل تاريخ لغتنا – باعتبارها لغة العلوم أيضا – شاهدا لها لا عليها ، وهى الشهادة التى تجعلنا شديدي الحرص عليها من جانب ، وعلى تطويرها لتساير تغير الحياة من جانب آخر ، وفى كل الجوانب تظل اللغة بوتقة جامعة لكل ما ننتجه ونبدعه ، وتزداد ثراء بالتأكيد إذا ما اقتحمت عالم الترجمة نقلا منها أو نقلا إليها على السواء .