مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
كيف نخاطب الجماهير..؟
درج عــدد كـبـيـر مـــــن رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال المنابر المختلفة، ووجد كثير مـنـهــم - ولله الحمد - إقبالاً واسعاً، والتفَّت الجموع بين أيديهم، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كـثـيــر من رموز الفكر والأدب والثقافة الآخرين. ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين إعـــــادة الـنـظــــر فـي طروحاتهم وطريقتهم في الخطاب وتقويمها، لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر الإمـكــــان، والاسـتـفــادة من التجربة الماضية. وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها في هذا الأسلوب أضعها بين أيديـكــم للحوار وتبادل الرأي حولها:
أولاً: الإيمان بالهدف:
مرَّ على الناس في العصور التاريخـيــة المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين ودعاة التغيير، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم. وبتتبع سيرهم وأخبارهم نجد أن صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلـى صدقهم وجديتهم وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك المبادئ، والتضحية من أجلها. وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت مــن تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها، وقديـمــــــــاً قال الرافعي: ’’رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة’’(1).
ثانياً: الحذر من الخيلاء وحب الرياسة:
مـحـبـــة الـنــاس لـلـمـصـلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض النفوس الضعيفة، وتُنبت فيها الـخـيــلاء والاستكبار وحب الرياسة، وتصرفها عن كثير من معالي الأمور. وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير، أو تناستها، حينما غلبت عليها تلك الشهوة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ’’ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه’’(2).
ولهذا قال ابن تيمية: ’’كان شــــداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفـية. قال أبو داود صاحب السنن: الشهوة الخفية: حب الرياسة. وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم’’(3). وقال أيضاً: ’’وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له’’(4).
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعـظــم أبــواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن يأخذ بها، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل، ومن تعلَّــق قلبه بحبِّ الظهور صغرت نفسه، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحـــرافـــــات التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية، وما أحسن قول الرافعي: ’’إذا أسندت الأمة مناصـبـهـــا الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم’’(5).
ثالثاً: الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة:
حـيـنـمـــــــا يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر! - في دائرتهم، فيقودونه ويدفــعــونــــه لمحبوباتهم، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة الهتاف والتصفيق، وتأخذه النـشـــــوة بكثرة الحشود؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقـــدامـهــم، ولا يحـيـطـــــــون بكثير من التداخلات الفكرية والسياسية، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية.
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان:
الأول: الـتـأثــر الإيجـابـي:
وهـو في غاية الأهمية؛ لأنهم يشعـرون بالـتـفـــاعــــل والاهتمام، ويحسون بأهمية آرائهم، وقيمتهم المعنوية، كما يحسون بدورهم في البناء والتـغـيـيـر، مـمَّــــا يزيدهم ارتباطاً بدعاة الإصلاح، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون.
الثاني: التأثر السلبي:
حيث ينساق المرء وراء عـواطـفـهـم، ويقع في شراكهم، ويصبح برنامجه الإصلاحي مرتبطاً برغباتهم، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم، وتكون النتيجة أن الجماهير هي التي تقوده، وهو يحسب أنه يقودهم..!!
رابعاً: الدقة في الخطاب:
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجمـاهير لا يسلم من الخطأ والزلل، حاله كحال غيره من المتحدثين، ’’وليس صنف من الناس إلا ولــه حشو وشوْب’’(6). ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصـغـيـرهـــم، وقد يطير خطؤه في الآفاق. وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن يتصيد الـعـثـرات، ويتسقَّط الزلات، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح، ولهذا قال عمر بن الخطـــاب : ’’ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد لـــه غــامــزاً’’(7). ولمَّا قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليـتـتـبـعـــــوا سقط كلامك! فقال الحسن: ’’يا هذا! إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع، إني لمَّا رأيــت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم’’(8).
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً، وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة وإتقان، حتى ينفع سامعيه ويـســــد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس، ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مـهـمـا بلغ حرصه، ويعجبني المتحدث الذي يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله، ويوضح ما استشكله الناس عليه، ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ.
الهوامش:
(1) مجلة الرسالة العدد(94) محرم 1354هـ.
(2) أخرجه: الترمذي في الزهد (4/508) رقم (2376)،وقال حسن صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5496).
(3) شرح حديث أبي ذر (ص25)، وانظر: رسالة في التوبة ضمن جامع الرسائل (1/ 233).
(4) الفتاوي (10/215).
(5) مجلة الرسالة العدد (84) ذو القعدة 1353هـ.
(6) تأويل مختلف الحديث (ص54).
(7) بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر القرطبي (1/406).
(8) تبيين كذب المفتري، لابن عساكر (ص422).

وقفات
كيف نخاطب الجماهير..؟
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
ذكرتُ في الحلقة الماضية ضرورة إعـادة النظر في خطابنا الجماهيري، وأثرت أربعة أمــور، هي: (الإيمان بالهدف)، و (الحذر من الخـيـــلاء وحب الرياسة)، و (الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة)، و (الدقة في الخطاب)، وفي هـذه الحلقة أنبه إلى أمور أخرى إتماماً للموضوع:
خامساً: الحذر من التعلق بالأشخاص:
مـن الآفـات الـمـزمـنـــة التي تظهر عند كثير من الجماهير؛ سواء أكان ذلك على المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجـتـمـاعي أم الفقهي... ونحوها: التعلق بالرموز والانكفاء عليها، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض بها من كبوتها، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الـنـاس بـالإحـبــاط، وثـارت فـي كـوامـنهـم دواعي العجز والحيرة، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحياناً إلى ازدراء مصلحين آخرين ربـمـــا لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهماً وقدرة، وقد يؤدي هذا التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة فـي بـقــيـــة الأفراد، أو عدم استغلال الفرص السانحة لهم.
وقد يُرسِّخ هذا المفهوم بعض هؤلاء الرموز، ويدفع الناس إلى تقليده وتعظيمه، بلسان المقال حـيـنـاً، وبـلـسان الحال أحياناً أخرى. والتقليد قاصمة من القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتـفـكـيـر، وتـحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال، وهي تسـتـجـيـب لـه بكل دعة وخنوع. والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس إلـيـهـم فحسب، بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم؛ فمن تبعهم تبعهم بـحـجــــة وبـرهــان، ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم.
سادساً: وضوح الرؤية:
تـتـم مخاطـبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية رتيبة؛ حيث لا توجد لديهم رؤيــــــة واضحة، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي يريدون الوصول إليها؛ وقــد ترى أن كثيراً من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية على خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم مــن هنا أو هناك، بل تلمس أحياناً أن بعضهم لا يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي، ولهذا تراه يجتر كثيراً من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة!
إن وضوح الأهــداف يعـيـن كـثـيـراً فـي الاعـتـبــار بالماضي واستبصار الحاضر واستشراف المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فـيـهــا بدقة: ما الموضوعات التي سوف يتحدث عنها؟! وما القواعد التي يريد بناءها؟! وما الأمـــــــراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها؟! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك؟ ويعرف في ذلـك الأولـويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة، ونحو ذلك مما يعدّ من البدهيات المنـهـجـيــة التي لا غنى عنها.
سابعاً: تلمس احتياجات المخاطبين:
احـتـيـاجـات الناس المنهجـية والفكرية والعملية كثيرة جداً، ويتميز المصلح الجاد بقدرته على تلمس احـتـيـاجـات الناس، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون، ويتـحـدثــون عـــن أشياء كثيرة، لكنهم بعيدون عن نبض الشارع واهتمامات الناس.
ومـعـلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيراً، ويألفه في بداية أمره، لكنه يبتعد عنه شيئاً فـشـيـئـاً إذا فقد المادة الأصيلة المتجددة التي تشبع حاجاته وطموحاته، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجـمـهـور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم بالحيوية والتجدد، وهذا ـ فيما أحسب ـ أحد المعايير الرئيسة للاستمرارية والبقاء.
ثامناً: الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي:
يغـلـب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي يُبنى على استثارة المشاعر، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه، ولكنه وحده لا يكفي على الإطلاق، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء. نعم قد تجمِّع العاطفة أناساً كثيرين، ولكنها وحدها لا تحيي أمة، ولا تبني رجالاً، ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن.
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة عواطفهم،ولكنَّ القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم وصناعتهم من جديد. وإنَّ مـن أكـبـر الـتـحـديـات التي تـواجـــه دعاة الإصلاح: هي القدرة على توظيف الطاقات، واستثمارها في البناء والعطاء، وكم هي الـطـاقـــات المهدرة التي طالما استهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة!
ولـذا كـان ممـَّا يـنبغي على دعاة الإصلاح إدراكه أنَّ من واجبهم التأثير الفكري والمنهجي على الجماهير، ورفع مستواهم الثقافي، وإحياء الوعي في صفوفهم، وتربيتهم تربية راسخة عميقة، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة العطاء والوعي الإنتاجي.
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنَّه لو دعاهم لتحرير القدس لما تخلف مـنـهـم رجل واحد، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق هذه الغاية العظمى، ولكنه يفاجأ بأنَّ كثيراً مـنـهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته! ولـســــت هنا أدعو إلى ترك الجماهير أو عدم الثقة بهم، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة.
لقد ظلت الجماهير عقوداً متتابعة مغيَّبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر والوطنية، وها هنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعــــادة تشكيل عقولهم وصناعة أفكارهم، ولا شك بأن هذا يتطلب جهداً كبيراً ونَفَساً طويلاً.
تاسعاً: الارتقاء بمستوى الخطاب:
كـثـيــر مــن الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة ومشكلاتهم، وتتوافق مـــع طموحاتهم وتطلعاتهم، ولا شك بأن هذه الطموحات محدودة، وتدور في أطر ضيقة، وقد يـغـفـل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة طبقات أخرى في المجتمع، ولا بأس أن يوجد من يـتـخـصــص فـي مخـاطـبة العامة ويقصر اهتمامه في دائرتهم، ولكن ليس من المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر الأخرى!
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الـذي أدى إلـى انفـتـاح اجتماعي وفكري عريضين، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية مــن أهــــم أدوات الـتـأثـيـر الـفـكـري، وأعـتـقــد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية الأهمية، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجـامعة، وما يصلح في المسجد قد لا يصلح في وسائل الإعلام، وما يصلح في هذا البلد قد لا يـصـلح في البلد الآخر.. وهكذا. وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحــــد الـمـفـكرين الإسلاميين مع مفكر ليبرالي، فآلمني جداً أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية خطابية هزيلة، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء والمراوغة، شعرت من خلالها أنَّه يعرف ماذا يريد. ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور عريض من العامة!
أضافة تعليق