فيما يلي أربع ملاحظات أولية على ما جرى في تلك الليلة الحاسمة.
الجيش وفشل الانقلاب
ليس دقيقا القول إن عدم اتحاد الجيش كله وراء الانقلاب هو سبب أساسي لفشله؛ فالكثير من الانقلابات تقوم بها حركات سرية داخل الجيوش أو مجموعات محددة أو بعض المغامرين داخلها.
وفي أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية عشرات الأمثلة على انقلابات من هذا النوع أحسن أصحابها استغلال الظروف السياسية السيئة لبلدانهم وتمكنوا من السيطرة على مفاصل الدولة بشكل حاسم ثم فرضوا سيطرتهم على الجميع بقوة السلاح وقاموا بتصفية خصومهم داخل الجيش، وتم كل هذا بدعم خارجي في بعض الحالات.
|
وفي الحالة التركية الأخيرة اتضح أن القوات البرية والجوية وقادة الجيوش الثانية والثالثة والرابعة وقادة عسكريون آخرون وقادة أقسام من الداخلية ومجموعات مدنية أخرى كانت مع الانقلاب حسب المعلومات التي توفرت حتى اليوم. وهذا لا يتناقض مع تصريح المسؤولين الأتراك أن من حاولوا الانقلاب أقلية خائنة، فهذا أمر طبيعي حتى تسيطر الحكومة على الأوضاع على الأرض وداخل الجيش.
وهناك في الواقع عوامل أخرى أكثر أهمية وحسما لنجاح أو فشل الانقلاب أهمها طبيعة السياق السياسي وفشل السياسيين في إدارة البلاد، وفي الإجمال فإن الانقلابات لا تنجح إلا في الدول الضعيفة والتي تعاني من انقسام نخبتها السياسية أو فسادها وتسببها في أزمات سياسية حادة أو في فشل اقتصادي كبير. أما في الدول الديمقراطية فمن الصعوبة أن تنجح فيها الانقلابات العسكرية. وهذه الحالة الأخيرة هي الأقرب في تفسير فشل الانقلاب في تركيا كما سأوضح في الملاحظة التالية.
ولاء المؤسسات الأمنية
ليس دقيقا القول أيضا بأن من أحبط الانقلاب العسكري في تركيا هو فقط القوة المادية والموالين للرئيس رجب طيب أردوغان أو للحكومة القائمة (ممثلة في الأمن والمخابرات والقوات الخاصة)، لأن الديمقراطية لا تقوي المؤسسات الديمقراطية والأحزاب والشعب فقط كما يتصور البعض وإنما هي أيضا تقوي الجيش والأمن والأجهزة المخابراتية وكل مؤسسات الدولة الأخرى وتجعل ولاء هذه الأجهزة والمؤسسات للوطن والدستور في المقام الأول وتجعلها أكثر "ديمقراطية" من نواح كثيرة، تربوية وتعليمية وثقافية ومؤسسية.
وقد حدث هذا إلى حد كبير في تركيا التي صار شعبها أكثر وعيا وصارت أحزابها أكثر إدراكا لمخاطر الحكم العسكري والكوارث التي تترتب على استيلاء العسكريين على السلطة، وصارت مؤسساتها الأمنية والمخابراتية أكثر مهنية وأكثر ولاء للدستور والقانون وأكثر بعدا عن السقوط في مغامرات الانقلابيين.
ولهذا فإن وقوف مؤسسات الأمن والقوات الخاصة والمخابرات ضد الانقلابين يبرهن في واقع الأمر على النجاح النسبي للحكومات الديمقراطية هناك في معالجة عدد من الملفات ذات الصلة بالعلاقات المدنية العسكرية. أما إطلاق التعميمات المتسرعة بأن الأمر لا علاقة له بالديمقراطية فأمر غير صحيح من الناحية العلمية.
لكن عملية تحويل مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية إلى مؤسسات دولة غير مسيسة عملية معقدة وممتدة زمنيا كما سأتحدث في الملاحظة الثالثة.
إخراج العسكريين من السياسة
إخراج العسكريين من السلطة مهمة مختلفة تماما عن إخراج العسكريين من السياسة أو تقليل نفوذهم في السياسة بعد إخراجهم من السلطة.
فالمهمة الأولى تركز على تحقيق الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي المنتخب، وهي تتم بطرق مختلفة سبق وتحدثت عنها في مقالات سابقة.
أما المهمة الثانية فتستهدف إخراج العسكريين من السياسة وتحويل الجيش إلى مؤسسة مهنية محترفة، ولاؤها الأول للدستور الديمقراطي وللحكومة الوطنية المنتخبة (كما في معظم حالات التحول الديمقراطي الناجحة) وليس لحزب معين أو عصابة حاكمة (كما هو قائم في الحالات التي فشلت في التحول وفي كثير من دولنا العربية).
وعملية معالجة العلاقات المدنية العسكرية وتحويل الجيش إلى مؤسسة مهنية عملية ممتدة زمنيا وقد تنتهي في بضع سنين (إسبانيا) وقد تستغرق وقتا أكبر (البرازيل وتشيلي والأرجنتين وجنوب كوريا وغيرها) وقد تفشل أو تراوح مكانها لعقود كما حدث في الإكوادور وبيرو وباكستان وتايلند وغيرها.
تعتمد هذه العملية على عوامل متعددة، أهمها عامل -لابد أن تفهمه قوانا السياسية العربية جيدا- وهو تقوية النظام الديمقراطي ذاته، أي تقوية المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ووجود قيادات ونخب سياسية ديمقراطية قوية وواعية، بجانب وجود رؤية واقعية ومعلنة لهذه المؤسسات والقيادات الديمقراطية لمعالجة العلاقات المدنية العسكرية. فبدون وجود هذه الشروط لا يمكن الشروع في الأساس في معالجة العلاقات المدنية العسكرية.
ومن العوامل الحاسمة أيضا وجود ضغط من الشعب للوصول إلى هذا الهدف وقدرة الأحزاب على تحويل هذا المطلب الشعبي إلى برامج سياسية ومسائل حيوية تُطرح وتُناقش أثناء الانتخابات. وهناك عوامل أخرى مهمة تتصل بالسياق والظروف الداخلية وهيكلة الجيش من الداخل. كما يكتسب العامل الخارجي تحديدا أهمية قصوى وكذلك علاقات الجيش الخارجية وغير ذلك.
كانت هناك في الحالة التركية عوامل إيجابية كثيرة كالنظام الديمقراطي المستقر وقوة الحزب الحاكم والنجاحات الاقتصادية التي حققتها حكومات حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، إلى جانب استفادة هذه الحكومات من معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي لمعالجة العلاقات المدنية العسكرية في السنوات الأخيرة.
لكن أيضا هناك عوامل تعمل منذ سنوات في الاتجاه المعاكس، كتربص ومحاربة عدد من القوى الإقليمية والدولية للحكومة التركية والحزب الحاكم هناك، وتداعيات الثورة المضادة في مصر وفي غيرها في الدول العربية، وتداعيات الحرب في سوريا، ودخول المنطقة في حرب على الإرهاب وصعود التنظيمات العنيفة في المنطقة، ودخول تركيا في حرب مع الأكراد وما ترتب على هذا من انتهاكات وأزمات. وهذه العوامل كلها ساهمت في تأزم الساحة السياسية وتمهيد الطريق أمام المحاولة الانقلابية.
تقوية الديمقراطية والجيش
ليس حتميا أن تؤدي تداعيات محاولة الانقلاب إلى إضعاف الجيش التركي والحكومة التركية كما يرى أو يتمنى البعض.
إن فشل الانقلاب يمثل عاملا إيجابيا في غاية الأهمية إذا أحسن استخدامه من قبل الحكومة لاستكمال معالجة العلاقات المدنية العسكرية وتحقيق هدف إخراج الجيش التركي من المعادلة السياسية ووقف مسلسل الانقلابات التي تعاني منه البلاد منذ عقود طويلة.
من الأهمية أن تتم هذه العملية في ظل الأطر الدستورية والقانونية الشرعية، وبتوافق وطني واسع بين الأحزاب السياسية الرئيسية، وطبقا لرؤية وطنية مشتركة ومعلنة. إن انفراد حزب واحد بهذه المهمة غير ممكن من الناحية العملية لسبب أساسي هو حاجة هذه العملية إلى شرعية شعبية واسعة لتوفير الضغط الشعبي المطلوب على الجيش. وهذه الشرعية غير ممكنة في ظل النظام الديمقراطي البرلماني القائم في تركيا إلا بتوافقات سياسية واسعة بين الأحزاب الرئيسية. وهذا أمر ممكن في تركيا فكل الأحزاب تعارض تدخل العسكريين ولا يؤخر توافقها إلا اختلافاتها في قضايا أخرى كالمسألة الكردية.
|
والهدف هنا مزدوج: تقوية المؤسسات الديمقراطية وحكم القانون وحماية الحريات والحقوق من جهة، واستكمال "دمقرطة" الجيش ذاته وتحويله إلى مؤسسة دولة غير مسيسة، أي أكثر قوة وجاهزية ومهنية واحترافية وأكثر احتراما لحكم القانون ودولة المؤسسات الديمقراطية المنتخبة والإرادة الشعبية وذلك من جهة أخرى.
كما أن معاقبة كل من تورط في التخطيط وفي تنفيذ هذه المحاولة الانقلابية أمر في غاية الأهمية وذلك لرفع تكلفة أي خروج على الدستور والحكومة المنتخبة في المستقبل.
سيظل هناك دوما عسكريون يفكرون في الانقلاب أو يتم استخدامهم من قبل الخصوم في الخارج لتدبير الانقلابات، وهؤلاء لن توقفهم إلا قوة النظام الديمقراطي بقيمه ومؤسساته ونخبه وقياداته من جهة، وإدراك العسكريين للثمن المرتفع لأي تحرك من جهتهم ضد الإرادة الشعبية ومؤسساتها المنتخبة وذلك من جهة أخرى.
إن العسكريين يُدفعون دفعا إلى قبول الحد من نفوذهم في السياسة، وظهور عسكريين يؤمنون بالفعل بحكم القانون والديمقراطية هو الاستثناء، أما انتظار ظهور هؤلاء فهو قصور في الفهم.
في قادم الأيام أمام الحكومة التركية والأحزاب السياسية الأخرى فرصة ذهبية لإنجاز الهدف الذي أنجزه قادة ديمقراطيون في حالات أخرى وجعل هذه المحاولة الانقلابية آخر المحاولات الانقلابية في التاريخ التركي الحديث.