ربما لم يحصل في تاريخ البشرية كلها من الشهادة لرجل بالفضل والتميّز مثل ما حصل للنبى محمد ، فقد اتفق موافقوه ومخالفوه وجمع ممن عادوه فشهدوا له بالصدق والأمانة والكرم والإحسان ، والرفق والتواضع والعدل والعفاف … وغيرها من صفات الحسن وجمال الخصال ، وقد قيل في المثل : ” والحق ما شهدت به الأعداء ” .
لقد أنصف كثير من الغربيين في العصر الحديث النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ، وكان هذا الإنصاف ناتجًا عن دراسة موضوعية مستفيضة لسيرة وحياة رسول الله ، بَيد أنهم يقدمونه كشخصيّة بشريّة عبقرية فذّة ، متعددة المواهب والقدرات ، حققت نجاحًا تاريخيًّا ، يستحق المدح والإشادة ، دون أدنى علاقة لذلك بالوحى والرّسالة ، وقد اكتملتْ في هذه الدراسة عناصر المنهج العلمي الحديث القائم على الملاحظة والتجربة والاستقصاء، فما وسعهم إلا الاعتراف بفضله والشهادة بصدقه ، كما حدث من أحد كبار خصومه قديمًا ( أبى سفيان ) – وكان خصمًا للنبى يومئذ – حين سأله ملك الروم ( هرقل ) عن بعض صفاته ، فاعترف بصدقه ووفاءه وأمانته ، فخرجت نتائجهم إيجابية تجاه رسول الله ، رغم الاختلاف في الدين والمذهب والعقيدة ، بل وأصبحت شهاداتهم نورًا يهتدي به الباحثون عن الحقيقة في الغرب.
وهذه الشهادات يصدقها الواقع الإسلامى المتنامى في عدد أتباعه ، الثابت في مبادئه وأسسه ، على الرغم مما يواجهه من صعوبة التحديات وكثرة العقبات ، فقد تكالبت عليه الأمم لكسره وتقويضه فازداد قوةً وصلابة وصمودًا وثباتًا وتوسعًا وانتشارًا .
وما أحوج العالم بأسره في ظل هذه الظروف إلى استحضار سير العظماء ، وعلى رأسهم النبي – صلى الله عليه وسلم – لتعريف الناس بهم ، واطلاعهم على سيرهم الشخصية ، ونشر تعاليمهم السمحة بين الناس ، وهذا في اعتقادى سوف يسهم في الترويج للأخلاق الفاضلة ، وفى التنفير من الأخلاق السيئة .
إن إبراز مكانة العظماء – وعلى رأسهم النبي – صلى الله عليه وسلم – يعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو محاصرة الشر وأهله ، الذى كثر في المشرق والمغرب ، وأيضا مطارة صنَّاع المشاكل ، العابثين بمصير البشريّة وبأمنها ، وبمقدراتها ، وبالطبع هي لا تعدو أن تكون خطوة في رحلة الألف ميل ، ولكن لها أهميتها ؛ ربما لأنها في الاتجاه الصحيح .
ولا بد وأن نراعى أن العظماء قليلون ، مهما كثروا ، وهذا يعين على تتبع سيرهم لأنهم ندرة ونخبة ، ومن كانت هذه حالهم فينبغى أن يكونوا محل عناية ، خاصة في وقت تحتاج البشرية إلى تراثهم الأخلاقى ، وتجاربهم التي نجحت في ميادين متعددة .
إذا أضيف إلى هذا – أيضا – أن الناس بطبعهم أخيار يميلون إلى الفضائل ، ويحبون رموزها الذين تميّزوا بها ، ترجّح لدى الباحثين أن في هذه الدراسات التي تهتم بالعظماء وعلى رأسهم الأنبياء والرسل وتقديمهم كنماذج حيّة لأشخاص مارسوا الأخلاق ، وجعلوا منها ومن الفضائل واقعًا معاشًا ، وسلوكا ممكنًا ، في دنيا الواقع ، خيرا كثيرًا للبشرية . ، فهي بحاجة ماسة إلى هذا التّوجيه بعدما أصاب كثيرًا من جوانب حياتها التشويه .
ولقد أحسن الأستاذ العقاد قولا حينما شخّص الداء ووصف الدواء بقوله : ” إن البشريّة بقدر اجتراءها على هؤلاء العظماء بقدر حاجتها إليهم .
وحينما صنف الكاتب الأمريكى ” مايكل هارت ” الشخصيات الأكثر تأثيرًا عبر تاريخ البشرية ، فاختار منهم أفضل ( 100 ) شخصية مؤثرة وضمّنها كتابه ” العظماء المائة في التاريخ ” فجعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم – على رأس هؤلاء جميعًا ، وقال مبينا علة ذلك من وجهة نظره : ” لقد اخترت محمدا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في أول هذه القائمة … لأنّ محمدا عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات ، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد 13 قرن من وفاته ؛ فإن أثر محمد – عليه السلام- ما يزال قويا متجددا”. وقال – أيضا – : “ولما كان الرسول صلي الله عليه وسلم قوة جبارة لا يستهان بها فيمكن أن يقال أيضا إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ ” .
لقد جمع مايكل هارد عظماء الأمم التي تسطر أقوامهم قصصهم ، بيد أننا نلحظ أن العظماء ربما اشتهروا بجانب واحد فكرى أو سياسى أو إدارى … أو نحو ذلك ، وندر أن تجد منهم من تميز في أكثر من مجال ؛ لذا كان الفرق بينا بين عظيمنا النبي- صلى الله عليه وسلم – وباقى المشاهر الذين جمعهم مايكل هارد في كتابه ، فعظيمنا يفوق مشاهير العظماء بتميّزه في جميع جوانب الكمال البشرى ، وعظيمنا برغم مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام على تاريخ مولده ، ومع كثرة مخالفيه وتنوّع أعدائه ، بيد أنهم عجزوا جمعيا عن العثور على جانب نقص واحد في شخصيته أو توجيه طعن في خلقه وسيرته .
ولم تكن شهادة ” مايكل هارد وحيدة في بابها ، فهذا الباحث الروسى” آرلونوف ” يتحدث عن نبى الرحمة ويقول : ” اشتهر محمد – صلى الله عليه وسلم – بدماثة الأخلاق ، ولينِ العريكةِ ، والتواضعِ ، وحسن المعاملة مع النَّاس .
قضى محمد – صلى الله عليه وسلم – أربعين سنة مع الناس بسلام وطمأنينة ، وكان جميع أقاربه يحبُّونه حبًّا جمًّا ، وأهل مدينته يحترمونه احترامًا عظيمًا ، لما عليه من المبادئ القويمة ، والأخلاق الكريمة ، وشرف النفس والنَّزاهة ” .
وأما برناردشو الإنكليزي ،الذى أحرقت السلطات البريطانية كتابه الذى سماه ” محمد ” ، فيقول :
:”إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد ، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها”.
إنه يعترف أن المشكلات التي تجتاح العالم كله ولا تستطيع المنظمات الإقليمية والدولية إيجاد حلول لها بإمكان محمد – صلى الله عليه وسلم – حلها ، فما بالنا وسنة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بيننا .
ويعترف تولستوي الأديب العالمي بفضل محمد- صلى الله عليه وسلم – فيقول : ” يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة
وأما الشاعر الألماني ” جوته ” فيقول :إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا لم نصل إلى ما وصل إليه محمد نبي المسلمين، لم يتقدم عليه أحد في التاريخ عن أعلى مثل لهذا الإنسان، لقد وجدته نجح في إخضاع العالم كله على كلمة التوحيد كما أنه أعظم رجل في التاريخ.
و عالم الاجتماع الفرنسي الشهير غوستاف لوبون الذى أغرم بالحضارة الإسلامية فكتب مصنفا عن حضارة العرب ، فصرح في أكثر من موضع في مصنفه الفريد بعظمة النبي محمد وفضل الحضارة العربية على الحضارة الغربية :
لم يشهد التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين ويتمنى لو أن العرب فتحوا أ وربا كلها في القرون الوسطى.
ويقول :
“إنني لا أدعو إلى بدعة مُحْدَثة، ولا إلى ضلالة مستهجَنَة، بل إلى دين عربي قد أوحاه الله إلى نَبِيِّه محمد، فكان أمينًا على بثِّ دعوته بين قبائل تلهَّتْ بعبادة الأحجار والأصنام، وتلذَّذَتْ بتُرَّهَات الجاهلية، فجمع صفوفهم بعد أن كانت مبعثرة، ووحَّدَ كلمتهم بعد أن كانت متفرِّقَة، وَوَجَّهَ أنظارهم لعبادة الخالق، فكان خير البرية على الإطلاق حُبًّا ونسبًا وزعامة وَنُبُوَّة، هذا هو محمد الذي اعتنق شريعته أربعمائة مليون مسلم، منتشرين في أنحاء المعمورة، يُرَتِّلُونَ قرآنًا عربيًّا مبينًا”
ويقول المؤرّخ البلجيكى جورج سارتون : ” وخلاصة القول … إنه لم يتحْ لنبى من قبلُ ولا من بعدُ أن ينتصر انتصارًا تامًّا كانتصار محمد ” .
ويقول كارل بروكلمان : ” لم تُشِبْ محمدًا صلى الله عليه وسلم شائبةٌ من قريبٍ أو بعيدٍ ، فعندما كان صبيّا وشابًّا عاش فوق مستوى الشُّبهات التي كان يعيشها أقرانه من بنى جنسِه وقومِه ” .
ولم يقتصر الأمر على أصحاب الديانات السماوية من نصارى ويهود في شهاداتهم المنصفة للنبى – صلى الله عليه وسلم – وجهرهم بالحق ، فنجد بعض الوثنيين في الأمم الشرقية يصرحون بذلك ، يقول رئيس الوزراء الهندي الأسبق جواهر لال نهرو: ” “كان محمد كمؤسسي الأديان الأخرى ناقمًا على كثير من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في عصره، وكان للدين الذي بَشَّر به -بما فيه من سهولة وصراحة وإخاء ومساواة- تجاوبٌ لدى الناس في البلدان المجاورة؛ لأنهم ذاقوا الظلم على يد الملوك الأوتوقراطيين والقساوسة المستبدين، لقد تعب الناس من النظام القديم، وتاقوا إلى نظام جديد، فكان الإسلام فرصتهم الذهبية؛ لأنه أصلح الكثير من أحوالهم، ورفع عنهم كابوس الضيم والظلم”.
لقد أبرزت هذه الشهادات وغيرها مما لا يتسع المقام لذكرها بعضًا من جوانب عظمة الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – ، التي يقر بها كل من عايشه ، أو يقرأ قسطًا من حياته ، وتكمن هذه العظمة في أنه كان حاملَ رسالة سماويّة شموليّة ، تهدف أساسًا إلى إصلاح حياة البشرية عامة .
وفى الختام يطيبُ لى أن أنوّه أن هذه الشهاداتِ المنصفة وغيرها ، لم يكُ منبعها التّصديق أو العاطفة الإيمانيّة بالرسالة المحمّديّة ، وإنما صدرت من أناس يقّومون شخصية بشريّة عبقرية فذّة – من وجهة نظرهم – متعددة المواهب والقدرات ، حققَت نجاحًا تاريخيًّا يستحق المدحَ والإشادة، دون أدنى علاقة بالوحى أو الرّسالة ، بل ربما حملت هذه الشّهادات بين طيّاتها أساليب خفيّة لتشيه صورة النبي – صلى الله عليه وسلم – ؛ لذا وجب التأمّل وأخذ الحيطة والحَذر .