إنه ثعلب إسرائيل العجوز، وسياسيها المحنك، وحكيمها المخضرم، الرجل الهرم المعتق؛ الذي شهد تأسيس الكيان الصهيوني، وعاصر حرب ما يسمى بـــ"الاستقلال"، وشهد حروب كيانه كلها، وأشرف على الاعتداء على لبنان، وارتكب فيه مجزرة قانا الشهيرة، ومكن بلاده من بناء المفاعلات النووية، وامتلاك الأسلحة النووية، ورعى علاقاته الدولية، ونقلها من كنفِ عاصمةٍ كبرى إلى أخرى، حتى استقرت في حضانة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تقلد مناصب كثيرة ومختلفة، كلها رفيعةٌ وخطيرة، أعلاها رئاسة الكيان، ورئاسة الحكومة، ووزارة الخارجية والمالية وغيرهما، ومن قبل كان مديراً عاماً لوزارة الدفاع، وساعداً أيمن للعديد من رؤساء حكومة الكيان ووزراء الدفاع فيه، حتى غدا عندهم مفتاحاً للأبواب الموصدة، وحلالاً لكل مشكلةٍ ومعضلةٍ تعترض كيانهم، وتؤرق حكومتهم، وتشغل وتقلق بال شعبهم.
ما زال الرجل رغم تقدمه في السن، حيوياً وناشطاً، وفاعلاً وحاضراً، ينصح ويوجه ويرشد، ويرعى ويتابع ويتوسط، وينتقد ويعارض ويرفض، رغم سنه الطاعن، فهو واحدٌ من القلائل المؤسسين الذين ما زالوا على قيد الحياة، وخلوه من المناصب الرسمية بعد أن انتهت ولايته في رئاسة كيانه؛ الذي جعل منه فاعلاً ومؤثراً، وهو الفخري الرمزي الذي لا يشارك في الأحداث، ولا يساهم في القرارات، وليس له دور في السياسة أو إدارة البلاد، ورغم أنه ترك المناصب الرسمية إلا أنه لم يتخلَ عن السياسة، ولم يترك مواقعه، وقد أصبح لدى الأجيال الإسرائيلية التي تلته والجديدة، المرجع والموئل، والحكم والمرشد، فهو عند الجميع صاحب الرؤية الثاقبة، والرأي الرشيد، والفكر السديد، ينصح لصالح شعبه، ويتفانى في خدمة كيانه.
يدرك شيمعون بيرس خصوصية المرحلة التي تمر بها المنطقة، والصعوبات التي يواجهها سكانها، والتحديات التي تعترضهم، ويعتقد أن العرب في هذه المرحلة أضعف ما يكونون، وأوهى مما يتصورون، ليس لجهة القوة العسكرية، والإمكانيات المادية، فهم ربما اليوم أقوى عسكرياً، وأكثر عتاداً وأخطر تسليحاً، وعندهم قدراتٌ مالية كبيرة، وسيادة كانت مفقودة، وقراراً مستقلاً كان مغلولاً، لكنهم فقدوا روح القتال، وتخلوا عن عقيدة العداء للكيان، ولم تعد إسرائيل بالنسبة لهم هي العدو المركزي؛ التي يجتمعون حولها، ويتفقون على مواجهتها، بل أصبحت بالنسبة إلى بعضهم صديقاً وحليفاً، عليها يعتمدون ويستندون، ومعها يتفقون وينسقون، وإليها يستمعون، وعلى مشورتها يحرصون، ولم تعد الحكومات العربية تفكر في قتال إسرائيل، أو إعلان الحرب عليها، أو دعم القوى التي تقاتلها وتحاربها، اعتقاداً منهم بوجود عدوٍ آخر أشد وأخطر.
لا يخفي شيمعون بيرس شماتته بالعرب، وفرحته بما أصابهم، وسعادته بما حل بهم، ويرى ذلك من علامات رضا الرب على اليهود، أبناء يعقوب الذين تفضل عليهم واختصهم بالمكان الأقدس، وجعلهم دون الشعوب والأمم الأخرى شعبه المختار؛ الذي مَنَّ عليه بالأمن والسلام، ومنحه أرض السلام، ولعله يرقص فرحاً وطرباً وهو يرى النار تلتهم جيرانه، وتقتل أبناءهم، وتخرب ديارهم، وتحرق خيراتهم، وتدمر مستقبلهم، وتقضي على أي أملٍ عندهم بالنهوض واستعادة الحقوق، والعودة إلى مربعات التهديد والقتال.
يصف شيمعون بيرس المرحلة التي يمر بها الشعب اليهودي بأنها الأكثر ذهبية في تاريخهم الطويل، وأن الله لم يَمُن عليهم بأفضل مما اختصهم به في هذه الأوقات، فما كان العرب يوماً أسوأ حالاً، وأكثر تمزقاً، وأشد يأساً، وأضعف أملاً، وأبعد هدفاً، وأقل حيلة، وأضيق نفساً، مما هم عليه الآن، فقد مزقتهم الأحداث، وطحنتهم رحى الحروب، وشردتهم المآسي، وباعدت بينهم الحدود والسدود، ولم تعد روابط العروبة تجمع، كما لم تعد عُرى الإسلام توحد، وبات العرب بلا نصيرٍ أو سند، فقد تخلى عنهم المناصرون الأولون، والراعون التاريخيون؛ فعادوا بمشاكلهم وحدهم، لا يؤيدهم أحد، ولا تساندهم قوة.
يحرص بيرس على أن تستغل بلاده هذه الظروف، وتنتهز هذه الفرصة، التي يبدو فيها الفلسطينيون متفرقين متناقضين، ومتصارعين ومتنازعين، ومتنافسين ومتعارضين، ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم، وما يخيفهم من بعضهم أكثر مما يطمئنهم، لهم أكثر من رأسٍ ورئيس، وعندهم أكثر من رأيٍ وتيارٍ، ويتنازعهم كل حزبٍ وتنظيم، وقد بات كل فريقٍ يحرص على العمل بعيداً عن الآخر، ينافسه ويسابقه، ويخفي عنه ويخدعه، ويحاول أن يفرض شروطه ويملي مواقفه؛ ليكون برضا إسرائيل هو الأول المقدم، والقوي المتحكم.
ليس في نظر شيمعون بيرس الذي لا يستحي من وقاحته، ولا يخجل من بجاحته، ولا يجبن في باطله، ولا يتردد في مواقفه، فرصةً أنسب لكيانه من هذه المرحلة من التاريخ العربي؛ لتفرض حكومته مواقفها، وتملي شروطها، وتبرم مع الأطراف الفلسطينية اتفاقاً يحقق الأماني اليهودية، ويضمن شروط الأمن والسلامة التي تتطلع إليها، وهو يعتقد أن ما ستقدمه حكومته للفلسطينيين في هذه المرحلة، هو أقل بكثيرٍ مما كانت تنوي حكوماتٌ إسرائيلية سابقة أن تقدمه لهم.
وفي الوقت نفسه يحذر حكومة كيانه، من أن التعنت والتشدد، ورفض القبول بالعودة إلى طاولة المفاوضات، ومحاولة فرض شروطٍ جديدة، تتزامن مع إجراءاتٍ أمنية وعسكرية متشددة، تتسبب في مقتل مواطنين فلسطينيين، أو إلحاق أضرارٍ موجعة بهم، فضلاً عن إحراج قيادتهم، أو دفعها نحو المزيد من التطرف والرفض، وهي التي تبدي اليوم استعداداً للقبول بما توافق عليه الحكومة الإسرائيلية، فإن هذا من شأنه أن يزيد من احتمالات اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة، تكون السلطة الفلسطينية طرفاً فيها، فتمنحها القوة والشرعية، وتزيد من الضغوط الأوروبية والأمريكية المفروضة على بلاده، وهي ضغوطٌ كبيرة لا يقلل من شأنها، ولا يستخف بأثرها، ولا يعتقد أن بلاده قادرة على الصمود أمامها.
يجب علينا ألا نستخف بأفكار هذا الثعلب العجوز الماكر، ولا نظن أنها هرطقات رجلٍ عجوز قد خرف، وأصاب عقله التلف والبلى، بل هو رجلٌ يعرف ما يقول، ويدرك ما حوله جيداً، وهو رجلٌ يخاف على شعبه، ويخلص لكيانه، ويدرك أن الفرص لا تتكرر، والزمان لا يجود بالعطايا دائماً، وهو ينصح حكومته ويصدقها القول، ولا يخدع حكومته ولا يوردها المهالك، فهل نصدق كلامه ونهرول، ونستفيد من نصحه ونفاوض، ونقبل بتوجيهه ونستسلم، أم ننتفض ونثور، ونرفض أن نموت أو نهون، ولا نقبل بما يعرضه، ولا نوافق على ما يقدمه، فالحق كله لنا ونحن أهله، وهم ليسوا إلا غاصبين ومحتلين، يبحثون عن أمانٍ لن يجدوه، ويستجدون سلاماً لن يذوقوه، وضعفنا هذا لن يدوم، وتمزقنا لن يطول، وأرضنا مهما طال الزمن فإنها ستعود.