مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) رواه مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه برقم 6751 .
حديث نبوي شريف ما أحوجنا لتطبيقه على أرض الواقع في عصرنا الحالي , والمسلمون في مختلف بقاع الأرض مقهورون مظلومون , دماؤهم تسيل وأعراضهم ومقدساتهم تنتهك , وأموالهم تسرق وتنهب وأرضهم تغتصب , وهم مع كل ذلك تراهم مفرقون مشتتون , لا يشعر بعضهم بمصاب الآخرين إلا في حدود ضيقة ونطاق محصور بطبقة الشعوب وعامة الناس , ممن لا تزال فطرتهم سليمة وقلوبهم حيه ومشاعرهم الدينية والأخلاقية مرهفة , إلا أنهم لا يملكون تقديم العون والمساعدة الكافية لإخوانهم , إلا النذر اليسير الذي يستطيعونه , والذي لا يسد المصاب الجلل الذي وقع بأبناء هذه الأمة .
بينما نجد تصرفات بعض من أغنياء المسلمين وأثريائهم , وكذلك من يملكون السلطة والجاه والأمر والنهي في بعض الدول العربية والإسلامية , بعيدة كل البعد عن مفهوم الحديث أو حتى الاقتراب منه , بل زادوا على تقاعسهم عن تقديم العون والمساعدة والمؤازرة لإخوانهم المنكوبين والمعذبين ماديا ومعنويا , بالاستخفاف بآلامهم وأوجاعهم وأحزانهم , وعدم مراعاة مشاعرهم وأحاسيسهم , في مشهد مؤلم وموجع , وله تأثيره السلبي ليس على أؤلئك المضهدين من المسلمين فحسب , بل على أبناء الأمة بأسرها .
فبينما ما زالت تدك مدن عظام من بلاد الشام بمختلف الأسلحة الثقلية , لينشغل الناس بعد ذلك بالبحث عن شهدائهم و لملمة جراحاتهم , نجد أناس آخرين من المسلمين يحتفلون بمناسبة ليس لها في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أي وجود , بل هناك تحذير شديد من العلماء بالمشاركة في مثل هذه الاحتفالات , كونها مخالفة لشرع الله تعالى ودين الإسلام .
وبينما تنفق مدينة عربية الملايين من الدولارات لشراء الألعاب النارية , ليستمع الناس لأصوات فرقعتها التي تضيء سماء شوارع تلك المدينة وساحاتها للحظات يسيرة , وتنطلق خلالها صيحات الفرح والابتهاج , يموت مسلمون في مدينة أخرى من البلاد العربية والإسلامية على وقع صوت انفجارات حقيقية , ليس لها صوت الفرقعات بقدر ما لها صوت الموت والدمار , وليس لها بريق وضوء الألعاب النارية , بقدر ما لها لهيب النار الذي يحرق الأنسان .
وبينما تذخر موائد بعض المسلمين بأفضل أنواع الطعام مما لذ وطاب , يموت آخرون جوعا لقلة الطعام بسبب الفقر أو الحصار , في أكثر من بلد عربي وإسلامي , دون أن نرى التراحم والتعاطف بين المسلمين الذي جاء الأمر به في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ورغم تحذير كثير من علماء المسلمين من مشاركة المسلمين لليهود والنصارى فيما يسمونه أعياد , وعلى رأسهم ابن القيم الذي يقول : (وكما أنهم - أي الكفار - لا يجوز لهم إظهاره - أي أعيادهم - فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم , ولا مساعدتهم , ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم الذين هم أهله ) أحكام أهل الذمة 2/722 , إلا أن بعض المسلمين ما يزالون يشاركون اليهود والنصارى أعيادهم هذه بحجج واهية ودعاوى باطلة .
ومما يزيد الطين بلة كما يقال , ويزيد هذه المشاركة بشاعة وشناعة , أنها تتلازم مع ما يصيب المسلمين من محن وآلام وجراحات بمساعدة اليهود والنصارى وأتباعهم , ليس في سورية فحسب , بل في معظم أرجاء العالم شرقا وغربا .
لقد ذكرني مشهد تبذير أموال المسلمين في أمر محرم , والتي كان من الأولى أن توضع في سبيل إنقاذ طفل مشرف على الموت جوعا أو مرضا , أو في سبيل دعم المظلومين والمهجرين والمنكوبين من المسلمين , أو على أقل تقدير توفيرها تقديرا لمشاعر آلام المسلمين وأحزانهم .
ذكرني بمشهد آخر من سيرة سلفنا الصالح مخالف ومغاير تماما لواقعنا الأليم , ومعبر بحق عن تضامن المسلمين وتعاطفهم وتراحمهم فيما بينهم , والذي كان بلا شك السبب الأهم في نصر الله تعالى لهم وتأيديهم , والذي نرجو أن نصل إلى معشاره أو يزيد , إنه مشهد عام الرماة والمجاعة في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
ومَن مِن المسلمين يستطيع أن يملك دمعه وهو يقرأ ما فعل أمير المؤمنين في تلك السنة 18 هجرية , يوم أصاب المسلمين جدب وقحط , وقل الزاد والطعام في المدينة المنورة وما حولها , حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس , وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها وإنه لمقفر , كما ورد في الطبري عن كعب بن مالك , فماذا كان فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه تضامنا وتراحما مع رعيته والمسلمين ؟
لقد اتخذ كافة التدابير الكفيلة بإنهاء المجاعة واحتوائها , فبعد أن نفذت مؤن المدينة كتب إلى عماله في الأمصار أن يرسلوا إليهم الطعام والميرة , وكان يشرف بنفسه على إطعام الناس ومواساتهم , حتى قال نافع مولى الزبير: سمعتُ أبا هريرة يقول : "يرحم الله ابن حنتمة ، لقد رأيته عام الرمادة، وإنه ليحمل على ظهره جرابين، وعكة زيت في يده، وإنه ليعتقب هو وأسلم ... فأخذت أعقبه ، فحملناه حتى انتهينا إلى صرار، فإذا صرم نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال عمر: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد ... فرأيت عمر طرح رداءه ، ثم ائتزر فما زال يطبخ لهم حتى شبعوا، وأرسل أسلم إلى المدينة فجاء بأبعرة فحملهم عليها، حتى أنزلهم الجبانة، ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك".
وكانت بداية المواساة أن منع أمير المؤمنين نفسه من أكل اللحم حتى يشبع منه المسلمون , قال أنس رضي الله عنه : غلا الطعام بالمدينة فجعل عمر رضى الله عنه يأكل الشعير وجعل بطنه يصوّت فضرب بيده على بطنه وقال : والله ما هو إلا ما ترى حتى يوسع الله على المسلمين .
وبعد كل هذه الأسباب والمواساة يتضرع إلى الله تعالى في كل ليلة أن يرفع الله البلاء ويكشف بأس المسلمين وكربهم , حتى ذكر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذلك بقوله : "كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي" .
أعلم أن المقارنة غير منصفة ولا مقبولة بين من اختارهم الله تعالى وشرفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم , وبين مسلمي هذا العصر , ولكنها المفارقة الكبيرة والفجوة الرهيبة بين تعاليم ديننا الحنيف وتطبيقاته في سيرة السلف , وبين الواقع الأليم الذي لا يمكن أن يمر دون أن ننوه بخطورة آثاره .
وقد صدق الشاعر إذا قال :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
*موقع المسلم