مروان الغفوري
السبت 6 ديسمبر 2014 08:15:55 صباحًا
واجه الشاب العبقري سبينوزا، الذي سيموت قبل أن يكمل عامه الأربعين، معضلة حادة مع الكنيسة وأمته المسيحية. في الأخير توصل إلى استنتاج رياضي حاسم "نعم، لقد خلق الله العالم ولكننا نسيّره".
كانت الحروب الدينية قد أكلت وجه أوروبا. في مرّة طلب ملك فرنسا، وكان كاثوليكياً، أن تنحت على العملة صورة لمسيحي بروتستانتي وهو يلقى حتفه بالسيف.
ينظر المؤرخون الأوروبيون حالياً إلى المنطقة العربية فيرددون عبر أكثر من منبر "إنها حرب الثلاثين عاماً بوجهها الشرق أوسطي هذه المرّة". يوشكا فيشر، المثقف والسياسي الألماني المرموق، قال إنها كذلك وإنه قد مضى على انطلاقها أكثر من سبع سنوات حتى الآن. يقصد منذ تفجير مرقد الإمام العسكري في العراق.
كانت ألمانيا مسرحاً مركزياً لحرب الثلاثين عاماً "1618 ـ 1648". انفجرت الحرب الدينية، بكل أبعادها السياسية، وفجرت أوروبا. انخفض سكان ألمانيا عدة ملايين مع نهاية الحرب. كان القتلى جميعاً يموتون لأجل الله. وكان الله بروتستانتيّاً، وكاثوليكياً. اعتصرت تلك الحرب أوروبا وهزّت عقيدتها حتى الينابيع.
بحثت أوروبا وهي تقاتل نفسها عن كلمة السر، عن الخلاص. كان العقل الأوروبي يعمل، يجادل، وينتج، ويبتكر. بعد مائة عام من انتهاء تلك الحرب ستحضّر فرنسا ذاتها للثورة، وكذلك أميركا. ثم ستدخل أوروبا عصراً جديداً، ستنتقل إلى الحداثة بالمعنى السياسي والإبداعي وسيعلن نيتشه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "مات الإله، وما تلك الكنائس سوى شواهد قبوره" بينما هو يكتب عمله الخالد "عدو المسيح". مات الإله البروتستانتي والإله الكاثوليكي عندما أطلق التنوير الأوروبي الضوء الشديد على العالم واكتشف الإله الآخر، صديق الإنسان. لكن ذلك الإنسان سرعان ما سيصبح كولونيالياً متوحّشاً وسيكتشف العالم محدثاً حرائق بلا حصر من الجزر الأندونيسية حتى غرب القارة اللاتينية، في ألبيرو. استطاع جوزيف كونوراد مع نهاية القرن التاسع عشر في "قلب الظلام" أن يدون ظلام الكولونيالية الأوروبية. بعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية قلب الظلام "تحديداً 58 عاماً" سيكتب الفرنسي ساتر "عارنا في الجزائر". لكن الحياة العلمانية التي منحت الإنسان حريته الشاملة سرعان ما صححت ذاتها وعالجت عارها. فبعد أن غرقت أوروبا في حربين مدمرتين اكتشفت من جديد خطيئتها الكولونيالية فابتكرت عصبة الأمم 1919، ثم مشروع الأمم المتحدة مع نهاية الحرب الثانية. ومنذ الحرب الثانية، منذ الألم الأكثر قسوة في تاريخ البشرية، تغيّر شكل الحياة العلمانية كلّياً، ولم يعد العالم خارج أوروبا مستعمرات بل أمماً. وبصرف النظر عن سياسة الرجل الأبيض خارج حدوده فقد استطاع بخياراته العلمانية الصارمة والنهائية أن يخلق توازنه الداخلي الشامل وسلامه المجيد.
بقيت الكنيسة مشعّة وشيقة ومثيرة للأشجان لكنها لم تعد كنيسة القرن الخامس عشر، لم تعد كنيسة فريدناند وإيزابيلا. إنها ببساطة كنيسة فرانسيسكو وهو يخطب من البرازيل "من أنا لأحكم على المثليين، لست الرب، والرب رحمة". كان فرانسيسكو ينأى بنفسه عن مهمة إغراق المثليين في الجحيم، مستشعراً جريمة أن يقترح المرء على الرب ما الذي ينبغي عليه فعله. في الوقت نفسه كان مجاهدو الجزيرة العربية يقولون في تسجيلاتهم "وصلّ وسلم على نبيك الذي بعث بالسيف". وعندما وقفتُ مع جموع المصلين قبل عامين في كنيسة مون مارت في باريس سرقتني لوحة في الأعلى. وبينما كان المصلّون يرددون "أيها السيد المسيح ابقَ معنا" كنتُ أقرأ على تلك اللوحة "أيها المار في باريس، أنت ترى هذه الأنور مضاءة فتدرك للتو أن ثمة أناساً يصلون لأجلك، تبرّع لكي تبقى تلك الأنوار مضاءة".
من المفارقات المثيرة في التاريخ الأوروبي أن جامعة السوربون كانت في القرن الخامس عشر هي كلية السوربون اللاهوتية، وكانت في حقيقتها اليد الخشنة للكنيسة. وعندما ابتكر أبو الأدب الفرنسي فرانسو رابليه أعماله "غارغانتوا وبانتاغرويل" فإن السوربون هاجمتها ومنعت نشرها. كانت الكنيسة تحجب النور، وكان الإله يتجلّى بروحه المقدّسة لأناس بعينهم، ولم يكن قط يشمئز من منظر الدم. وكان كل شيء يعمل في خدمة الكنيسة، بما في ذلك السوربون.
أصبح كل ذلك الخراب أثراً، أو تاريخاً غابراً. لقد وجدت أوروبا خلاصها وابتكرت الطريق الذي ينجو بها. فقبل يومين كانت إيفا هوفمان، المحررة السابقة في النيويورك تايمز، تتساءل عن ظاهرة "الهروب من الحريّة" التي تجلت لدى بعض الإرهابيين الأوروبيين. وتساءلت عمّا إذا كنت العلمانية التي منحت الإنسان الحق الكامل في أن "يعتقد، يفكر، يبتكر، يشعر، يعترض، يسعى، يتملّك" دون أن يشعر بالخوف، ما إذا كانت تلك العلمانية كافية. واقترحت إنه لا بد من صياغة حزمة من القيم الجديدة لأن العلمانية على ذلك النحو تصبح بلا هويّة، الأمر الذي سيخلق الضجر والانفلات والوحشية. وفي نقاشها أحالت إلى فرويد في ثلاثينات القرن الماضي، وتلميذه إيريك فروم وهما يتحدثان عن نوع من الكائن البشري يجد الحرية أمراً جارحاً وصعباً ومرهقاً، لذلك يفرّ منها. بالنسبة لفرويد فهذا النوع من البشر غير مكتمل النضج، تحديداً لم تكتمل عناصر الاختيار الحرّ لديه، لذا يفضل على الدوام أن يتحرر من أزمته ليصبح مملوكاً لفكرة أخرى كلية وأناس آخرين. فقد ظهر بعض الإرهابيين الأوروبيين وهم يتحدثون عبر فيديوهات مصوّرة "تعالوا، جاهدوا معنا، الجهاد يعالج الاكتئاب". لقد سلموا أنفسهم كلّياً لفكرة قاسية وحاكمة، واندمجوا معها حتى إنهم مزقوا جوزات سفرهم
في تقديري لا علاقة لظاهرة الهروب من الحرية بالعلمانية بمعنى الشامل. الأمر هنا أشبه بفكرة الإفلات من المنظوماتية وليس الحرّية ذاتها، ولذلك تجليات كثيرة. البوهيمية مثالاً. كان الجابري في "التراث والحداثة" قد أجرى نقاشاً سريعاً للفكرة من منظور آخر. كما أن الجهاديين الأوروبيين، وهم يسعون إلى علاج الاكتئاب بالجهاد في سوريا، يشبهون على صورة ما الشاعر الفرنسي بودلير في سأم باريس، وذلك الروائي الذي ربط على قدمه حجراً كبيراً ثم ألقى بنفسه إلى النهر أو البحر لأنه لم يعد يجد من معنى للبقاء. انهيار المعنى كلّياً، معنى أن توجد وأن تكون. ذلك السؤال الذي ستوفره على الدوام الأديان على طريقتها، وستقبض من وقت لآخر على مجاميع سائمة سيحاولون تقويض المنظوماتية الصارمة عبر الانحياز إلى الأفكار الكلّية المتوحشة، كما حدث في العام 1995 في طوكيو عندما هاجم متدينون ضجرون وسئمون محطات الميترو بغاز السارين والبولي سارين.
الحياة العلمانية الديموقراطية توفّر للكائن الفرصة الشاملة لأن يصبح كائناً كلي القدرة. تعطيه الحيّز الشامل، والحوافز الكاملة، لأن يطلق قدراته كلّها. بما في ذلك أن يكون متديناً ورعاً وناسكاً يقول للشيء كن فيكون. وهو أمر مختلف كلّياً عن الحياة ضمن النسق الأرثوذوكسي، ضمن الصرامة الدينية، في إطار "الأخ الأكبر يراقبك". في الحالة الثانية ينمو بداخلك الرقيب، ثم تنتكس ككائن لتصبح مع الأيام عضواً في جمهورية خوف يحدها الإله من كل جوانبها. تتجلى الفكرة على نحو حاسم عندما نتذكر الجهادي الأردني الشهير وهو يندب أيامه السعيدة في إنغلترا بعد أن ألقي في سجون النظام الهاشمي الأردني الديني. قال أبو حمزة "كنتُ حرّاً في بريطانيا، كنتُ حرّاً". كانت انغلترا تجري نقاشاً شاملاً ومستفيضاً في كل مرّة تفكّر باستجوابه، بينما تجد الهاشمية لديها الاستعداد لسحق كرامته حتى آخر جينة متوحشة في سلالته.
في "أخلاقيات الرأسمالية" تذكّر توم بالمر تلك الدراسة المثيرة التي أجريت على مصطلح "الرأسمالية" والتي توصلت إلى أن المصطلح كان سيء السمعة على نحو لا يصدق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وإن ذلك كان عائداً إلى المضامين الأخلاقية والاجتماعية لكلمة الرأسمالية بآنئذٍ. وفيما يبدو فإن الأمر يبدو، عربياً، شبيهاً بمصطلح الحياة العلمانية. فإذا كان السلفيون والإخوان تعاملوا مع المصطلح بسطحية وبلا خيال معتبرين العلمانية نظيراً للإمبريالية والحرب الصليبية، كما في مورثهم الأدبي، فإن الأمر أخذ منحى أكثر تعقيداً مع عبد الوهاب المسيري، أحد أهم المفكّرين العرب في القرن الماضي. كان بن باز يعتقد أن العلمانية تتمثل في الجينز ذلك أنه يفقد الفرد المسلم هويته ويماهيه بالآخر الكافر، طبقاً لبن باز. توقف المسيري عند الجينز أيضاً متطابقاً مع بن باز من زاوية مختلفة كليّاً ومفاجئاً. إذ بالنسبة للمسيري فالجينز مجرد حلقة في "متتالية بنيوية للعلمانية". بين هاتين الفكرتين سقطت العلمانية في حقبة سوء السمعة.
أما أكثر ملامحها سوءً فقد تمثل في الديكتاتورية العربية التي أسسها نظام يوليو 1952، فقد خلقت تك الديكتاتوريات حياة علمانية متوحّشة بدلاً عن أن تطلق الكائن من خوفه فإنها ذهبت تخلق جمهوريات خوف قوّضت الكائن كلّياً. بالعودة إلى سينما السبعينات في مصر، والشعر العراقي، ورواية الربع قرن الأخير في الوطن العربي سيعثر القارئ على ملامح كارثية للنسخة العربية من العلمانية. وهي خارج حديثنا هُنا، إذ نقصد بالحياة العلمانية هنا الحياة الليبرالية في أحدث تجلياتها، أي ما بعد الحداثة السائلة.
نهضت الحروب الدينية حالياً بكل وحشيتها وجنونها. وكالعادة لعبت الشريعة الإسلامية دور بئر الزيت لهذه الحروب. أصبح لدينا عشرات الإسلامات، كل إسلام منها محارِب ومسلّح ومدرّع. فالإسلام الحوثي ينظر لكل الذين يقعون خارجه على أنهم ليسو سوى ضالين وتائهين وعملاء، وفي أحسن الأحوال غير ناضجين وبحاجة إلى ضابط إيقاع.
بينما اتجه الإسلام الإخواني عقب الثورة المصرية إلى الحديث المستفيض حول جماعة الحل والعقد، ومرجعية الأزهر، ومرجعية علماء الدين. كان الإسلام الإخواني يركض بخفّة الذئب ليخلق أكبر كنيسة إسلامية معاصرة يجلس على منبرها فقيه عظيم يملك كل الحق في أن يقول لا، لتصبح تلك ال "لا" هي قانون القوانين، وكلمة الكلمات. أما الذين سيقدمون أطروحات فنية أو فلسفية ضد مجلس والحل والعقد فسينظر إليهم بوصفهم بشراً قالوا لا لله.
لم تكتمل الصورة الإخوانية لكنها اكتملت في مكان آخر، في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية. هناك إذ يؤمن حوالي 15 ـ 20 % من الشعب بالإسلام الحوثي، بينما تقع النسبة الأكبر خارج هذا الدين، تؤمن بدين مختلف، نسخة مختلفة من الإسلام ليست فقط غير متشابهة مع الإسلام الحوثي بل متصارعة معه. فالإسلام الحوثي يجعل من فئة من الناس حكاماً بأمر الكتاب المقدّس، مبقياً خياراً وحيداً للآخرين: أن يكونوا مواطنين صالحين في دولته.
وسيقصد بالمواطن الصالح هو ذلك الذي لا يقول إن مثل هذا الدين بحاجة إلى إعادة نظر. في المجمل يحتكر الحوثي، الحاكم، الحقيقة والتأويل.
تكمن الأزمة الوجودية هُنا في حقيقة أن الزمن تغيّر كلّياً، وأن الأجيال الجديدة ـ التي هي جزء من الحياة الجديدة في العالم ـ لا يمكن إخضاعها للخرافات الدينية التي على تلك الشاكلة. إذ لا يبدو أن عشرة شباناً يسترجعون دروسهم قبل امتحان نهاية الترم يكنون أي قدر من الاحترام لفكرة إن رجلاً هو سيد الرجال لأن جدّه كان سيد الجدود. برغم إن الجيل الجديد في اليمن لم يلتحق بعد بركب الحياة العلمانية، بل تابعها عن بعد فصاغت اعتقاده وكبرياءه وخياله من السينما الأميركية إلى فن الرواية إلى قصيدة النثر إلى التكنولوجيا المذهلة، ووسائل التواصل الفائقة مع العالم .. إلخ. لقد أنجزت العلمانية كل هذا الكون الجديد عندما أطلقت الإنسان من أسره، ومن سجونه وحررّته كلّياً، ليثبت كم هو قوي وجبار وكم أن خياله لا يحد. في هذا الوجود الجديد سيصعب تشغيل أوهام الحوثي، كما سيكون من المستحيل أن يشغل الدينيون الآخرون أوهامهم وخيالاتهم القديمة، تلك التي تعود إلى الحقبة البعيدة عندما كان العالم يقسم إلى "مسلمين وغير مسلمين" أو "دار إسلام ودار كفر".
إذ، وياللغرابة، كان الإمام مالك يعرّف دار الكفر بأنها تلك الدار التي لا يأمن فيها الفرد على نفسه وماله وأهله، وهي مواصفات تنطبق على مصر واليمن والسعودية والأردن، وعلى مكة والمدينة، ولا تنطبق على أسبانيا ولا نيوزيلاندا.
سيجد الحوثي صعوبة تاريخية في أن يقنع الناس بأنه شخص عاقل، أو على الأقل أنه يمكن دمجه في الحضارة بيسر. كما إن الإسلامات الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي، وستبدو محاولة الحوثي لتمرير تصوره الديني بقوة السلاح أمراً شبيهاً بالظاهرة الاستعمارية، وسينظر إلى ثكناته المسلحة بوصفها مفارز للعدو، الذي لن تمر أيام كثيرة قبل أن يداهمه الخوف والقلق ثم سيسكنه إلى الأبد.
في هذه الأزمة المركبة يبدو الخروج من هذا الجنون عبر حياة علمانية ديموقراطية تميز الطريق بين الله والقيصر، وتمنح الحق الكامل للحوثي والزنداني والعامري في أن يكونوا قديسين وملائكة في حوزاتهم ومعاهدهم، كما يحلو لهم. بفارق جوهري وهو أن تنزع منهم الحق في أن يصدروا أوامرهم إلى أي مزيد من البشر.
تلك الحياة الفائقة الجديدة التي يموت العرب والمسلمون في البحار والمحيطات بحثاً عنها باعتبارها حلم الأحلام، والعجل المقدّس، والخلاص الإلهي النبيل، هي الطريق. وهي،كما نعلم، صعبة المنال، وعصية لأن أصعب خصومها ليس الحوثي والزنداني وحسب، بل أولئك الذين تهدف إلى تحريرهم. وهم الذين تحدث عنهم إيريك فروم وفرويد في ثلاثينات القرن المنصرم: الهاربون من الحرّية
عن صفحة الكاتب على الفيسبوك
السبت 6 ديسمبر 2014 08:15:55 صباحًا
واجه الشاب العبقري سبينوزا، الذي سيموت قبل أن يكمل عامه الأربعين، معضلة حادة مع الكنيسة وأمته المسيحية. في الأخير توصل إلى استنتاج رياضي حاسم "نعم، لقد خلق الله العالم ولكننا نسيّره".
كانت الحروب الدينية قد أكلت وجه أوروبا. في مرّة طلب ملك فرنسا، وكان كاثوليكياً، أن تنحت على العملة صورة لمسيحي بروتستانتي وهو يلقى حتفه بالسيف.
ينظر المؤرخون الأوروبيون حالياً إلى المنطقة العربية فيرددون عبر أكثر من منبر "إنها حرب الثلاثين عاماً بوجهها الشرق أوسطي هذه المرّة". يوشكا فيشر، المثقف والسياسي الألماني المرموق، قال إنها كذلك وإنه قد مضى على انطلاقها أكثر من سبع سنوات حتى الآن. يقصد منذ تفجير مرقد الإمام العسكري في العراق.
كانت ألمانيا مسرحاً مركزياً لحرب الثلاثين عاماً "1618 ـ 1648". انفجرت الحرب الدينية، بكل أبعادها السياسية، وفجرت أوروبا. انخفض سكان ألمانيا عدة ملايين مع نهاية الحرب. كان القتلى جميعاً يموتون لأجل الله. وكان الله بروتستانتيّاً، وكاثوليكياً. اعتصرت تلك الحرب أوروبا وهزّت عقيدتها حتى الينابيع.
بحثت أوروبا وهي تقاتل نفسها عن كلمة السر، عن الخلاص. كان العقل الأوروبي يعمل، يجادل، وينتج، ويبتكر. بعد مائة عام من انتهاء تلك الحرب ستحضّر فرنسا ذاتها للثورة، وكذلك أميركا. ثم ستدخل أوروبا عصراً جديداً، ستنتقل إلى الحداثة بالمعنى السياسي والإبداعي وسيعلن نيتشه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "مات الإله، وما تلك الكنائس سوى شواهد قبوره" بينما هو يكتب عمله الخالد "عدو المسيح". مات الإله البروتستانتي والإله الكاثوليكي عندما أطلق التنوير الأوروبي الضوء الشديد على العالم واكتشف الإله الآخر، صديق الإنسان. لكن ذلك الإنسان سرعان ما سيصبح كولونيالياً متوحّشاً وسيكتشف العالم محدثاً حرائق بلا حصر من الجزر الأندونيسية حتى غرب القارة اللاتينية، في ألبيرو. استطاع جوزيف كونوراد مع نهاية القرن التاسع عشر في "قلب الظلام" أن يدون ظلام الكولونيالية الأوروبية. بعد أكثر من نصف قرن على صدور رواية قلب الظلام "تحديداً 58 عاماً" سيكتب الفرنسي ساتر "عارنا في الجزائر". لكن الحياة العلمانية التي منحت الإنسان حريته الشاملة سرعان ما صححت ذاتها وعالجت عارها. فبعد أن غرقت أوروبا في حربين مدمرتين اكتشفت من جديد خطيئتها الكولونيالية فابتكرت عصبة الأمم 1919، ثم مشروع الأمم المتحدة مع نهاية الحرب الثانية. ومنذ الحرب الثانية، منذ الألم الأكثر قسوة في تاريخ البشرية، تغيّر شكل الحياة العلمانية كلّياً، ولم يعد العالم خارج أوروبا مستعمرات بل أمماً. وبصرف النظر عن سياسة الرجل الأبيض خارج حدوده فقد استطاع بخياراته العلمانية الصارمة والنهائية أن يخلق توازنه الداخلي الشامل وسلامه المجيد.
بقيت الكنيسة مشعّة وشيقة ومثيرة للأشجان لكنها لم تعد كنيسة القرن الخامس عشر، لم تعد كنيسة فريدناند وإيزابيلا. إنها ببساطة كنيسة فرانسيسكو وهو يخطب من البرازيل "من أنا لأحكم على المثليين، لست الرب، والرب رحمة". كان فرانسيسكو ينأى بنفسه عن مهمة إغراق المثليين في الجحيم، مستشعراً جريمة أن يقترح المرء على الرب ما الذي ينبغي عليه فعله. في الوقت نفسه كان مجاهدو الجزيرة العربية يقولون في تسجيلاتهم "وصلّ وسلم على نبيك الذي بعث بالسيف". وعندما وقفتُ مع جموع المصلين قبل عامين في كنيسة مون مارت في باريس سرقتني لوحة في الأعلى. وبينما كان المصلّون يرددون "أيها السيد المسيح ابقَ معنا" كنتُ أقرأ على تلك اللوحة "أيها المار في باريس، أنت ترى هذه الأنور مضاءة فتدرك للتو أن ثمة أناساً يصلون لأجلك، تبرّع لكي تبقى تلك الأنوار مضاءة".
من المفارقات المثيرة في التاريخ الأوروبي أن جامعة السوربون كانت في القرن الخامس عشر هي كلية السوربون اللاهوتية، وكانت في حقيقتها اليد الخشنة للكنيسة. وعندما ابتكر أبو الأدب الفرنسي فرانسو رابليه أعماله "غارغانتوا وبانتاغرويل" فإن السوربون هاجمتها ومنعت نشرها. كانت الكنيسة تحجب النور، وكان الإله يتجلّى بروحه المقدّسة لأناس بعينهم، ولم يكن قط يشمئز من منظر الدم. وكان كل شيء يعمل في خدمة الكنيسة، بما في ذلك السوربون.
أصبح كل ذلك الخراب أثراً، أو تاريخاً غابراً. لقد وجدت أوروبا خلاصها وابتكرت الطريق الذي ينجو بها. فقبل يومين كانت إيفا هوفمان، المحررة السابقة في النيويورك تايمز، تتساءل عن ظاهرة "الهروب من الحريّة" التي تجلت لدى بعض الإرهابيين الأوروبيين. وتساءلت عمّا إذا كنت العلمانية التي منحت الإنسان الحق الكامل في أن "يعتقد، يفكر، يبتكر، يشعر، يعترض، يسعى، يتملّك" دون أن يشعر بالخوف، ما إذا كانت تلك العلمانية كافية. واقترحت إنه لا بد من صياغة حزمة من القيم الجديدة لأن العلمانية على ذلك النحو تصبح بلا هويّة، الأمر الذي سيخلق الضجر والانفلات والوحشية. وفي نقاشها أحالت إلى فرويد في ثلاثينات القرن الماضي، وتلميذه إيريك فروم وهما يتحدثان عن نوع من الكائن البشري يجد الحرية أمراً جارحاً وصعباً ومرهقاً، لذلك يفرّ منها. بالنسبة لفرويد فهذا النوع من البشر غير مكتمل النضج، تحديداً لم تكتمل عناصر الاختيار الحرّ لديه، لذا يفضل على الدوام أن يتحرر من أزمته ليصبح مملوكاً لفكرة أخرى كلية وأناس آخرين. فقد ظهر بعض الإرهابيين الأوروبيين وهم يتحدثون عبر فيديوهات مصوّرة "تعالوا، جاهدوا معنا، الجهاد يعالج الاكتئاب". لقد سلموا أنفسهم كلّياً لفكرة قاسية وحاكمة، واندمجوا معها حتى إنهم مزقوا جوزات سفرهم
في تقديري لا علاقة لظاهرة الهروب من الحرية بالعلمانية بمعنى الشامل. الأمر هنا أشبه بفكرة الإفلات من المنظوماتية وليس الحرّية ذاتها، ولذلك تجليات كثيرة. البوهيمية مثالاً. كان الجابري في "التراث والحداثة" قد أجرى نقاشاً سريعاً للفكرة من منظور آخر. كما أن الجهاديين الأوروبيين، وهم يسعون إلى علاج الاكتئاب بالجهاد في سوريا، يشبهون على صورة ما الشاعر الفرنسي بودلير في سأم باريس، وذلك الروائي الذي ربط على قدمه حجراً كبيراً ثم ألقى بنفسه إلى النهر أو البحر لأنه لم يعد يجد من معنى للبقاء. انهيار المعنى كلّياً، معنى أن توجد وأن تكون. ذلك السؤال الذي ستوفره على الدوام الأديان على طريقتها، وستقبض من وقت لآخر على مجاميع سائمة سيحاولون تقويض المنظوماتية الصارمة عبر الانحياز إلى الأفكار الكلّية المتوحشة، كما حدث في العام 1995 في طوكيو عندما هاجم متدينون ضجرون وسئمون محطات الميترو بغاز السارين والبولي سارين.
الحياة العلمانية الديموقراطية توفّر للكائن الفرصة الشاملة لأن يصبح كائناً كلي القدرة. تعطيه الحيّز الشامل، والحوافز الكاملة، لأن يطلق قدراته كلّها. بما في ذلك أن يكون متديناً ورعاً وناسكاً يقول للشيء كن فيكون. وهو أمر مختلف كلّياً عن الحياة ضمن النسق الأرثوذوكسي، ضمن الصرامة الدينية، في إطار "الأخ الأكبر يراقبك". في الحالة الثانية ينمو بداخلك الرقيب، ثم تنتكس ككائن لتصبح مع الأيام عضواً في جمهورية خوف يحدها الإله من كل جوانبها. تتجلى الفكرة على نحو حاسم عندما نتذكر الجهادي الأردني الشهير وهو يندب أيامه السعيدة في إنغلترا بعد أن ألقي في سجون النظام الهاشمي الأردني الديني. قال أبو حمزة "كنتُ حرّاً في بريطانيا، كنتُ حرّاً". كانت انغلترا تجري نقاشاً شاملاً ومستفيضاً في كل مرّة تفكّر باستجوابه، بينما تجد الهاشمية لديها الاستعداد لسحق كرامته حتى آخر جينة متوحشة في سلالته.
في "أخلاقيات الرأسمالية" تذكّر توم بالمر تلك الدراسة المثيرة التي أجريت على مصطلح "الرأسمالية" والتي توصلت إلى أن المصطلح كان سيء السمعة على نحو لا يصدق في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وإن ذلك كان عائداً إلى المضامين الأخلاقية والاجتماعية لكلمة الرأسمالية بآنئذٍ. وفيما يبدو فإن الأمر يبدو، عربياً، شبيهاً بمصطلح الحياة العلمانية. فإذا كان السلفيون والإخوان تعاملوا مع المصطلح بسطحية وبلا خيال معتبرين العلمانية نظيراً للإمبريالية والحرب الصليبية، كما في مورثهم الأدبي، فإن الأمر أخذ منحى أكثر تعقيداً مع عبد الوهاب المسيري، أحد أهم المفكّرين العرب في القرن الماضي. كان بن باز يعتقد أن العلمانية تتمثل في الجينز ذلك أنه يفقد الفرد المسلم هويته ويماهيه بالآخر الكافر، طبقاً لبن باز. توقف المسيري عند الجينز أيضاً متطابقاً مع بن باز من زاوية مختلفة كليّاً ومفاجئاً. إذ بالنسبة للمسيري فالجينز مجرد حلقة في "متتالية بنيوية للعلمانية". بين هاتين الفكرتين سقطت العلمانية في حقبة سوء السمعة.
أما أكثر ملامحها سوءً فقد تمثل في الديكتاتورية العربية التي أسسها نظام يوليو 1952، فقد خلقت تك الديكتاتوريات حياة علمانية متوحّشة بدلاً عن أن تطلق الكائن من خوفه فإنها ذهبت تخلق جمهوريات خوف قوّضت الكائن كلّياً. بالعودة إلى سينما السبعينات في مصر، والشعر العراقي، ورواية الربع قرن الأخير في الوطن العربي سيعثر القارئ على ملامح كارثية للنسخة العربية من العلمانية. وهي خارج حديثنا هُنا، إذ نقصد بالحياة العلمانية هنا الحياة الليبرالية في أحدث تجلياتها، أي ما بعد الحداثة السائلة.
نهضت الحروب الدينية حالياً بكل وحشيتها وجنونها. وكالعادة لعبت الشريعة الإسلامية دور بئر الزيت لهذه الحروب. أصبح لدينا عشرات الإسلامات، كل إسلام منها محارِب ومسلّح ومدرّع. فالإسلام الحوثي ينظر لكل الذين يقعون خارجه على أنهم ليسو سوى ضالين وتائهين وعملاء، وفي أحسن الأحوال غير ناضجين وبحاجة إلى ضابط إيقاع.
بينما اتجه الإسلام الإخواني عقب الثورة المصرية إلى الحديث المستفيض حول جماعة الحل والعقد، ومرجعية الأزهر، ومرجعية علماء الدين. كان الإسلام الإخواني يركض بخفّة الذئب ليخلق أكبر كنيسة إسلامية معاصرة يجلس على منبرها فقيه عظيم يملك كل الحق في أن يقول لا، لتصبح تلك ال "لا" هي قانون القوانين، وكلمة الكلمات. أما الذين سيقدمون أطروحات فنية أو فلسفية ضد مجلس والحل والعقد فسينظر إليهم بوصفهم بشراً قالوا لا لله.
لم تكتمل الصورة الإخوانية لكنها اكتملت في مكان آخر، في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية. هناك إذ يؤمن حوالي 15 ـ 20 % من الشعب بالإسلام الحوثي، بينما تقع النسبة الأكبر خارج هذا الدين، تؤمن بدين مختلف، نسخة مختلفة من الإسلام ليست فقط غير متشابهة مع الإسلام الحوثي بل متصارعة معه. فالإسلام الحوثي يجعل من فئة من الناس حكاماً بأمر الكتاب المقدّس، مبقياً خياراً وحيداً للآخرين: أن يكونوا مواطنين صالحين في دولته.
وسيقصد بالمواطن الصالح هو ذلك الذي لا يقول إن مثل هذا الدين بحاجة إلى إعادة نظر. في المجمل يحتكر الحوثي، الحاكم، الحقيقة والتأويل.
تكمن الأزمة الوجودية هُنا في حقيقة أن الزمن تغيّر كلّياً، وأن الأجيال الجديدة ـ التي هي جزء من الحياة الجديدة في العالم ـ لا يمكن إخضاعها للخرافات الدينية التي على تلك الشاكلة. إذ لا يبدو أن عشرة شباناً يسترجعون دروسهم قبل امتحان نهاية الترم يكنون أي قدر من الاحترام لفكرة إن رجلاً هو سيد الرجال لأن جدّه كان سيد الجدود. برغم إن الجيل الجديد في اليمن لم يلتحق بعد بركب الحياة العلمانية، بل تابعها عن بعد فصاغت اعتقاده وكبرياءه وخياله من السينما الأميركية إلى فن الرواية إلى قصيدة النثر إلى التكنولوجيا المذهلة، ووسائل التواصل الفائقة مع العالم .. إلخ. لقد أنجزت العلمانية كل هذا الكون الجديد عندما أطلقت الإنسان من أسره، ومن سجونه وحررّته كلّياً، ليثبت كم هو قوي وجبار وكم أن خياله لا يحد. في هذا الوجود الجديد سيصعب تشغيل أوهام الحوثي، كما سيكون من المستحيل أن يشغل الدينيون الآخرون أوهامهم وخيالاتهم القديمة، تلك التي تعود إلى الحقبة البعيدة عندما كان العالم يقسم إلى "مسلمين وغير مسلمين" أو "دار إسلام ودار كفر".
إذ، وياللغرابة، كان الإمام مالك يعرّف دار الكفر بأنها تلك الدار التي لا يأمن فيها الفرد على نفسه وماله وأهله، وهي مواصفات تنطبق على مصر واليمن والسعودية والأردن، وعلى مكة والمدينة، ولا تنطبق على أسبانيا ولا نيوزيلاندا.
سيجد الحوثي صعوبة تاريخية في أن يقنع الناس بأنه شخص عاقل، أو على الأقل أنه يمكن دمجه في الحضارة بيسر. كما إن الإسلامات الأخرى لن تقف مكتوفة الأيدي، وستبدو محاولة الحوثي لتمرير تصوره الديني بقوة السلاح أمراً شبيهاً بالظاهرة الاستعمارية، وسينظر إلى ثكناته المسلحة بوصفها مفارز للعدو، الذي لن تمر أيام كثيرة قبل أن يداهمه الخوف والقلق ثم سيسكنه إلى الأبد.
في هذه الأزمة المركبة يبدو الخروج من هذا الجنون عبر حياة علمانية ديموقراطية تميز الطريق بين الله والقيصر، وتمنح الحق الكامل للحوثي والزنداني والعامري في أن يكونوا قديسين وملائكة في حوزاتهم ومعاهدهم، كما يحلو لهم. بفارق جوهري وهو أن تنزع منهم الحق في أن يصدروا أوامرهم إلى أي مزيد من البشر.
تلك الحياة الفائقة الجديدة التي يموت العرب والمسلمون في البحار والمحيطات بحثاً عنها باعتبارها حلم الأحلام، والعجل المقدّس، والخلاص الإلهي النبيل، هي الطريق. وهي،كما نعلم، صعبة المنال، وعصية لأن أصعب خصومها ليس الحوثي والزنداني وحسب، بل أولئك الذين تهدف إلى تحريرهم. وهم الذين تحدث عنهم إيريك فروم وفرويد في ثلاثينات القرن المنصرم: الهاربون من الحرّية
عن صفحة الكاتب على الفيسبوك