لكن ما تشهده بلادنا ليس بفريد، فقد شهدت أوروبا حروبا مدمرة مماثلة في طبيعتها وجوهرها ونتائجها، القارة الأوروبية في القرن الـ16 انخرط فيها الكل في محاربة الكل، مع انقسام إلى معسكرين رئيسين هما الكاثوليكية والبروتستانتية، الحرب بين الطرفين استمرت نحو 130 عاما، مارس فيها الطرفان مختلف الفظاعات، حتى بمقاييس تلك العصور، من قطع رؤوس "الكفار والزنادقة" إلى إغراق البشر في الماء وحرق الأحياء وصب البراز والبول في فم العدو! كما شهدت تلك الحروب، التي فقدت أوروبا فيها ثلث سكانها، إحراق آلاف النساء أحياء بتهمة ممارسة السحر.
لكن بعد أكثر من قرن من الفظائع المتبادلة وصل السكان وقادتهم إلى قناعة بعدم جدوى هذا الطريق، خضع القادة الكُثر لرغبات السكان فتم الاتفاق عبر قنوات غاية في التعقيد على تصالح الطرفين.
"استمرت الحرب في أوروبا نحو 130 عاما، مارس فيها الطرفان مختلف الفظاعات، حتى بمقاييس تلك العصور، من قطع رؤوس "الكفار والزنادقة" إلى إغراق البشر في الماء وحرقهم أحياء"
لم يكن الأمر سهلا إطلاقا بسبب عدد الأطراف المشاركة في الصراع (نحو 150 جهة) وتضارب المصالح وسوء نوايا بعض الوسطاء واعتراض هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتضررة، لكن خسائر استمرار الحرب كانت أكبر مما تتحمله القوى المشاركة فيها، فاتفقت على الجلوس والتفاوض وتوقيع صلح دائم بينها عام 1648، وهو ما يعرف باسم صلح أو سلم "فستفاليا" (اسم الإقليم الذي وقع فيه الصلح) والذي يشكل اليوم جزء من الدولة الألمانية.
لا يعرف تحديدا الطرف الذي بادر إلى الدعوة لإنهاء الصراع وإن كان الظن أن المبادر كان الكاردينال جول مزارين الوصي الإيطالي على العرش الفرنسي في ذلك الوقت، حيث تفيد المعطيات أنه كان الرأس المدبر لمعظم اتفاقيات الصلح في سلم فستفاليا.
مزارين هذا يعرفه القراء المطلعون من روايات شرلوك هولمز للروائيين الإنجليزي آرثر كنن دويل والفرنسي ألكسندر دوما، وكتابات العالم السيميائي والروائي الإيطالي أمبرتو إكو، ويعرف المهتمون بالسينما التاريخية، أن الممثل الفرنسي جِرار دبارديو أدى شخصيته في فيلم "الفارسة" الذي شاركت فيه الممثلة الألمانية نستازيا كنسكي.
يقول المؤرخون المتخصصون إن دوافع مزارين كانت فرنسية أكثر منها كاثوليكية، أي مادية أكثر منها روحية، ويقال أيضا: إن السبب احتفاظه بعلاقة خاصة مع ملكة فرنسا النمساوية، آن، ووالد طفلها!.
ومع الأخذ في الاعتبار تعقد المشاكل وكثرة الأطراف المشاركة في المفاوضات ومزاجية كل طرف وطمعه وخوفه وقلقه.. إلخ، فإن التئام مؤتمر الصلح واستمراره لمدة خمس سنوات مثّل "معجزة" حقيقية، ولكنه مع ذلك أمر مفهوم ومتوقع وبديهي، حيث إن كثرة المشاكل والتعقيدات وثمن الإخفاق الباهظ هو الذي دفع كافة الأطراف إلى التمسك بطريق السلم الأهلي.
ليتخيل القارئ الكريم الآتي: أكثر من مائة وفد قدمت من مختلف أنحاء القارة الأوروبية لتتفاوض على إنهاء حرب مستمرة شاركت فيها أجيال عديدة، حتى اندثر من الذاكرة الفردية والجماعية سبب اندلاعها، واستحالت حربا من أجل الحرب. نعلم أن الأسباب المادية تقف خلف كافة الحروب، مثل الإثراء والهيمنة وما إلى ذلك، لكن الشعوب وهي الطرف الأكثر تضررا ملت تسويغات قادة الصراعات فأجبرتهم على الاستجابة.
في العصر الحديث لدينا مثال حرب الولايات المتحدة في فيتنام، حيث مل الأميركيون من دعاوى قادتهم لاستمرار الحرب هناك بعدما وصلت الخسائر البشرية الأميركية حدا لم يعد يمكن قبوله، فاقتنعوا بعبثيتها وأجبروا قادتهم على وقفها والانسحاب.
"مل الأميركيون من تبريرات قادتهم لاستمرار الحرب في فيتنام بعد أن وصلت الخسائر البشرية الأميركية حدا لم يعد يمكن قبوله، فأجبروا قادتهم على وقفها والانسحاب"
عود على بدء، من المشاكل التي لا حصر لها التي واجهت الأطراف المشاركة في حرب المئة عام هذه، وبصرف النظر عن الخسائر المتوقعة لهذا الطرف أو ذاك فقد رفض أي من المشاركين لقاء الطرف الآخر وجها لوجه، وإزاء ذلك تم الاتفاق على تجريد بلدتين متباعدتين من السلاح (هما منستر وأزنابروك الواقعتين اليوم في ألمانيا) ليقيم في كل منها طرف مفاوض، وكان الوسطاء يتنقلون بينهما لنقل كلام كل وفد!.
واجه المشاركون سلسلة أخرى لا نهاية لها من التعقيدات، فقد احتجت بعض الوفود على حجم هذا أو ذاك من الوفود، وسبب قدوم وفد ما قبل الآخر.
يضاف إلى هذا كله مزاجية بعض الوفود التي كانت ترفض المكوث في مقر إقامتها لفترة كافية لضمان استمرار التفاوض. نحن هنا نتحدث عن أحداث في القرن السادس عشر وليس الحادي والعشرين!.
ليتصور القارئ الكريم مدى تعقد الخلافات إذا قلنا: عدد الوفود المشاركة كان على النحو الآتي:
- 109 وفود تمثل 16 دولة.
- 66 مدينة/دولة إمبراطورية (هي دول تابعة للإمبراطورية الرومانية المقدسة، كما كانت تسمى، ويتميز حكامها بأحقية التمثيل في برلمانها، أي الرايخستاغ، ويتبعون الإمبراطور مباشرة)، وهذه كانت تمثل مصالح 140 مدينة/دولة إمبراطورية، و27 مجموعة تمثل مصالح 38 جهة.
لقد كان على كافة المجتمعين، أو الأغلبية الأقوى منهم العثور على نقطة تجمعهم، تضمن عدم اندلاع مثل هذه الحروب الطائفية، الأمر لم يكن سهلا لأن كل طرف كانت له تطلعاته ومصالحه ورغبته في تحقيق أقصى المكاسب المادية من القتال والصراع (الروحي/المذهبي) الذي استمر أكثر من قرن (في الحرب ليس ثمة من رابح وخاسر لأن الكل خاسر، مهما ارتفعت عائداته المادية منها، نعم هناك منتصر ومهزوم).
العامل الوحيد الذي أجمع عليه المشاركون هو الرغبة في إنهاء تلك الحروب المذهبية المدمرة، وحققوا ذلك بعد مفاوضات استمرت خمس سنوات من دون انقطاع حقيقي. في نهاية المطاف وقّع المتقاتلون على وثيقة السلم التي تعني أولا وقبل كل شيء عبثية ما مارسوه هم وآبائهم وأجدادهم في المئة عام المنصرمة.
بالمناسبة، سلم فستفاليا أنهى سيادة السلطة الروحية في أوروبا وسلطتها على شعوبها حيث انبثقت عنه ولادة الدول الأوروبية الوطنية.
"الطريق الوحيد لوقف الصراعات المريعة والمدمرة التي تشهدها بلادنا هو توافر إرادة السلم لدى كل الأطراف. لا تقع أي حرب بالصدفة ما دامت كل الأطراف قد اتخذت قرارا بعدم خوض أي حرب"
ذلك السلم لم يعن إطلاقا انتهاء حروب الأوروبيين بعضهم ضد بعض في بلادهم، وضد بقية العالم، في أنحاء أخرى من العالم، فكلنا يعرف أن الحروب لن تتوقف إلا عندما يتم القضاء على المسببات المادية لاندلاعها، أي عندما لا يتمكن أي طرف من جني أرباح منها.
لكن، آخذين في الاعتبار التعقيدات التي لا نهاية والتي واكبت مفاوضات إنهاء حرب المئة عام في أوروبا، فإن الأمر الرئيس الذي قاد إلى السلم هو إرادة الأطراف إنهاء الصراع، ففي غياب تلك الإرادة الأساس لم يكن ممكنا تحقيق السلم، حيث كان بإمكان أي طرف -مهما صغُر حجمه وتأثيره المادي- إفساد المفاوضات وتقديم ذريعة لهذا الطرف النزق أو ذاك لوقف التفاوض والعودة إلى السلاح حَكَما.
أما نحن، فتشهد أوطاننا مختلف أشكال الحروب منذ أن وطئت قدم نابليون وجنده أراضينا، حيث بدا منذ تلك الساعة، أن السلام في بلادنا ولشعوب أمتنا، ما هو إلا استراحة المتحاربين.
بكلمات أخرى، إن الطريق الوحيد لوقف الصراعات المريعة والمدمرة التي تشهدها بلادنا (وأستثني من ذلك حروبنا التحريرية)، الداخلية منها والخارجية، هو توافر إرادة السلم لدى كل الأطراف. لا تقع أي حرب بالصدفة ما دامت كل الأطراف قد اتخذت قرارا بعدم خوض أي حرب.
فهل نمتلك جميعنا، في الداخل والخارج، شجاعة اتخاذ قرار السلم كي ننهي صراعاتنا الداخلية والخارجية. نحن لا نعيش في عالم متخيل وندرك أن صناع السلاح ليس لهم أي مصلحة في إنهاء الحروب، لكننا ندرك أيضا -من تجارب تاريخية ملموسة- أن الشعوب بإمكانها فرض السلام، مع علمنا أن السلام الدائم أمر لا يزال بعيد المنال، ومع ذلك، فهو هدف سام يستحق أن ينصب عليه اهتمامنا ونشاطنا.