د.. عبد اللطيف القرني
من أسرار النظم القرآني أن يشتمل القرآن على آيات تعتبر من البدهيات المسلمة وفقاً لدلالة العقل والمنطق، حيث إن القارئ للقرآن الكريم يقف على بعض الآيات مستغربا من أسباب إيراد هذه الكلمات أو الجمل.
ولو ضربنا مثلاً فمن ذلك ما ذكره الإمام الرازي في كتابه العظيم (غرائب آي التنزيل) عند قوله تعالى: ’’ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين’’، فقوله عن عيسى عليه السلام على سبيل الامتنان يكلم الناس كهلا هل هي معجزة؟ وأورد على ذلك إجابتين في سياق هذه الآية.
الأولى: إن في هذا إشارة إلى نزوله عليه السلام في آخر الزمان وأنه يكلم الناس وهذا من الإعجاز البلاغي والإعجاز العلمي.
الثانية: أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس في المهد كما يكلمهم حال الكهولة، فكلامه في كلتا الفترتين سواء.
ومن ذلك قوله تعالى ’’وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِين’’.
فقوله تعالى اصطفاك مرتين لم تأت عبثاً.
فإن قيل: ما فائدة تكرار الاصطفاء في قوله تعالى: ’’إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك’’.
قلنا: الاصطفاء الأول: العبادة وهي خدمة البيت المقدس وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني: لولادة عيسى - عليه السلام - أو أعيد ذكر الاصطفاء ليفيد بقوله ’’على نساء العالمين’’، فيندفع بأنها مصطفاة على الرجال.
وكذلك قوله تعالى في أية من لم يجد الهدي ’’فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة’’.
فمعروف بدهياً أن الثلاثة زائد السبعة يساوى العشرة وغيرها من الآيات التي نقرأها في حياتنا اليومية دون أن نقف عندها وقفة تأمل وتبصر والسؤال عن أسباب إيراد هذه البدهيات التي لا تأتي عبثاً، خاصة أنها تنساب مع الجرس الصوتي للتراكيب وفق جرس صوتي يتناسق مع الغنة والقلقة والمد والتفخيم والإطباق وغيرها من أنماط مخارج الحروف التي يقف البليغ حيراناً من قوة التركيب المتجانس، لكي يدرك يقيناً أن هذا التركيب ليس كلاماً عادياً وليس شعراً إنما هو كلام الله تعالى.
ولذلك عجز بلغاء العرب عن مجاراته، بل كانت هذه الآيات سبباً لمخاطبة الروح، ولذلك كان يتلذذ كفار قريش حينما يسمعون كلام الله يتلى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذهبون في الليل وينصتون لهذه الآيات التي تدخل في أعماقهم ويأتون إليه في الليل خفية أن يراهم أحد وهم على كفرهم، وسبب مجيئهم هو الإيقاعات البيانية التي تضرب أوتارهم الروحية مع أنهم كانوا لا ينصاعون للمعاني التي تنساب إلى قلوبهم، ولكن النظم القرآني يسحر العقول والإفهام لأن تركيبه الكلامي يتبع التركيب المزاجي الإنساني.
يقول مصطفى الرافعي: نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معا فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته. أ،هـ.
ويمكن أن نقسم للقارئ الكريم أنواع البدهيات على النحو الآتي:
1 - بدهيات حسابية.
2 - بدهيات لغوية.
3 - بدهيات عادية.
إن الاعتناء بالقرآن الكريم عبادة جليلة ووسيلة روحية يستشفى بها من الأمراض الروحية والعضوية وتسهم في استقرار الجوانب النفسية، خاصة في ظل طغيان الحياة المادية التي أصبحت تسيطر على كل حياتنا، مما جعل مذاق الحياة اليومية يتسم بطعم الروتين القاتل والجفاف الأخلاقي والإيماني.
ومن الاعتناء بالقرآن الاهتمام بعلومه المبثوثة في الآيات الكريمة؛ ومنها علوم البلاغة والنظم القرآني ويأتي منها البدهيات في القرآن. وممن تكلم عنها الإمام الرازي في كتابه (غرائب آي التنزيل)، الذي شرح بعض البلاغات القرآنية والإعجاز والبدهيات، وكذلك كتاب البدهيات في القرآن الكريم للأستاذ الدكتور فهد الرومي، الذي تكلم عن الموضوع ذاته بشيء من التأصيل النظري، وأورد شواهد على ما ذكره من الآيات مع شرح كل تلك الشواهد بأسلوب مبسط لغير المتخصصين.
إن الحياة بين يدي كلام الله نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيشها للقرآن الكريم، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بأهميته، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!
الفرق بعيد.. جدا بعيد.. بين أن نفهم الحقائق، وأن ندرك الحقائق في القرآن الكريم. إن الأولى: العلم.. والثانية هي: المعرفة!
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظ ومعان مجردة.. أو مع تجارب ونتائج جزئية.. وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية.
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة.. وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا. يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي!
إن من يتعلم الحقائق المعرفية في القرآن الكريم يقرأ القرآن بعيون أخرى وأحاسيس مختلفة وتفاعلات نفسية مختلفة ولعل رمضان محطة مهمة للاهتمام بهذه الحقائق والعلوم؛ وبذلك تكون محطة روحية للعام التالي، حيث يقاوم بها المسلم جميع الأعراض التي تعتريه وخاصة ما يتعلق بالجانب الروحي والنفسي، ما يوفر له الحماية - بإذن الله - حيث يشعر المرء دوماً بالتوازن الحياتي.
من أسرار النظم القرآني أن يشتمل القرآن على آيات تعتبر من البدهيات المسلمة وفقاً لدلالة العقل والمنطق، حيث إن القارئ للقرآن الكريم يقف على بعض الآيات مستغربا من أسباب إيراد هذه الكلمات أو الجمل.
ولو ضربنا مثلاً فمن ذلك ما ذكره الإمام الرازي في كتابه العظيم (غرائب آي التنزيل) عند قوله تعالى: ’’ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين’’، فقوله عن عيسى عليه السلام على سبيل الامتنان يكلم الناس كهلا هل هي معجزة؟ وأورد على ذلك إجابتين في سياق هذه الآية.
الأولى: إن في هذا إشارة إلى نزوله عليه السلام في آخر الزمان وأنه يكلم الناس وهذا من الإعجاز البلاغي والإعجاز العلمي.
الثانية: أن عيسى - عليه السلام - يكلم الناس في المهد كما يكلمهم حال الكهولة، فكلامه في كلتا الفترتين سواء.
ومن ذلك قوله تعالى ’’وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِين’’.
فقوله تعالى اصطفاك مرتين لم تأت عبثاً.
فإن قيل: ما فائدة تكرار الاصطفاء في قوله تعالى: ’’إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك’’.
قلنا: الاصطفاء الأول: العبادة وهي خدمة البيت المقدس وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني: لولادة عيسى - عليه السلام - أو أعيد ذكر الاصطفاء ليفيد بقوله ’’على نساء العالمين’’، فيندفع بأنها مصطفاة على الرجال.
وكذلك قوله تعالى في أية من لم يجد الهدي ’’فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة’’.
فمعروف بدهياً أن الثلاثة زائد السبعة يساوى العشرة وغيرها من الآيات التي نقرأها في حياتنا اليومية دون أن نقف عندها وقفة تأمل وتبصر والسؤال عن أسباب إيراد هذه البدهيات التي لا تأتي عبثاً، خاصة أنها تنساب مع الجرس الصوتي للتراكيب وفق جرس صوتي يتناسق مع الغنة والقلقة والمد والتفخيم والإطباق وغيرها من أنماط مخارج الحروف التي يقف البليغ حيراناً من قوة التركيب المتجانس، لكي يدرك يقيناً أن هذا التركيب ليس كلاماً عادياً وليس شعراً إنما هو كلام الله تعالى.
ولذلك عجز بلغاء العرب عن مجاراته، بل كانت هذه الآيات سبباً لمخاطبة الروح، ولذلك كان يتلذذ كفار قريش حينما يسمعون كلام الله يتلى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذهبون في الليل وينصتون لهذه الآيات التي تدخل في أعماقهم ويأتون إليه في الليل خفية أن يراهم أحد وهم على كفرهم، وسبب مجيئهم هو الإيقاعات البيانية التي تضرب أوتارهم الروحية مع أنهم كانوا لا ينصاعون للمعاني التي تنساب إلى قلوبهم، ولكن النظم القرآني يسحر العقول والإفهام لأن تركيبه الكلامي يتبع التركيب المزاجي الإنساني.
يقول مصطفى الرافعي: نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معا فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته. أ،هـ.
ويمكن أن نقسم للقارئ الكريم أنواع البدهيات على النحو الآتي:
1 - بدهيات حسابية.
2 - بدهيات لغوية.
3 - بدهيات عادية.
إن الاعتناء بالقرآن الكريم عبادة جليلة ووسيلة روحية يستشفى بها من الأمراض الروحية والعضوية وتسهم في استقرار الجوانب النفسية، خاصة في ظل طغيان الحياة المادية التي أصبحت تسيطر على كل حياتنا، مما جعل مذاق الحياة اليومية يتسم بطعم الروتين القاتل والجفاف الأخلاقي والإيماني.
ومن الاعتناء بالقرآن الاهتمام بعلومه المبثوثة في الآيات الكريمة؛ ومنها علوم البلاغة والنظم القرآني ويأتي منها البدهيات في القرآن. وممن تكلم عنها الإمام الرازي في كتابه (غرائب آي التنزيل)، الذي شرح بعض البلاغات القرآنية والإعجاز والبدهيات، وكذلك كتاب البدهيات في القرآن الكريم للأستاذ الدكتور فهد الرومي، الذي تكلم عن الموضوع ذاته بشيء من التأصيل النظري، وأورد شواهد على ما ذكره من الآيات مع شرح كل تلك الشواهد بأسلوب مبسط لغير المتخصصين.
إن الحياة بين يدي كلام الله نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيشها للقرآن الكريم، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بأهميته، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية!
الفرق بعيد.. جدا بعيد.. بين أن نفهم الحقائق، وأن ندرك الحقائق في القرآن الكريم. إن الأولى: العلم.. والثانية هي: المعرفة!
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظ ومعان مجردة.. أو مع تجارب ونتائج جزئية.. وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية.
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة.. وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا. يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق إشعاعها مع نبضنا الذاتي!
إن من يتعلم الحقائق المعرفية في القرآن الكريم يقرأ القرآن بعيون أخرى وأحاسيس مختلفة وتفاعلات نفسية مختلفة ولعل رمضان محطة مهمة للاهتمام بهذه الحقائق والعلوم؛ وبذلك تكون محطة روحية للعام التالي، حيث يقاوم بها المسلم جميع الأعراض التي تعتريه وخاصة ما يتعلق بالجانب الروحي والنفسي، ما يوفر له الحماية - بإذن الله - حيث يشعر المرء دوماً بالتوازن الحياتي.