مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
في إدارة التنوع الثقافي
محمد محفوظ
ربما تتضح في مقبل الأيام، أن جذور ما تعيشه العديد من بلدان العالم العربي من تطرف وفوضى وأشكال عديدة من الاحتراب الأهلي بيافطات دينية ومذهبية وقومية وعرقية، تعود إلى لحظة الاستقلال عن الاستعمار والهيمنة الأجنبية.



لأن الكثير من الدول العربية بعد لحظة الاستقلال، تشكلت بنزعة عصبوية ضيقة، احتضنت بعض التعبيرات وأعطتها ما تستحق ومالا تستحق، ومارست النبذ والتهميش والاستئصال بمكونات أخرى، ومنعت عنها حقوقها وما تستحقه انطلاقا من إنسانيتها وآدميتها ولكونها شريكاً أصيلاً في الوطن والمواطنة.

واستمرت الكثير من دول العالم العربي تعيش وفق هذه المفارقة، بحيث غالبية المواطنين، لا يعرفون من الدولة إلا أجهزتها الأمنية والإجرائية، وفئة قليلة تحكم باسم حزب تقدمي أو مشروع سياسي يستهدف كما تدعي أدبياته إخراج أبناء المجتمع والوطن من الظلام والظلامية والتخلف المقيم في كل أروقة المجتمع.

ومارست في سبيل تحقيق أهدافها كل ألوان الظلم والحيف بحق أبناء شعبها. ولكن ولاعتبارات بنيوية متعلقة من لحظة تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي، كانت النتائج كارثية وعلى النقيض تماماً من الشعارات واليافطات المرفوعة.

فشعار الوحدة المرفوع تحول على المستوى العملي إلى استمرار مشروع التشظي الاجتماعي العمودي والأفقي، وبقي الجميع محبوسين في دوائر انتمائهم الضيقة التي أقل ما يقال عنها انتماءات مادون المواطنة وبناء الدولة الحديثة. باسم الاشتراكية في بناء الاقتصاد، تم التدمير الممنهج والمنظم لكل الصناعات الوطنية التقليدية والحرفية، وأصبحت أسواق هذه البلدان مفتوحة على مصراعيها لكل المنتجات الأجنبية. فأضحت المعادلة التالية: صعوبات جمة تحول دون استمرار أصحاب الصنع اليدوية والحرفية من العمل لأسباب متعلقة بالجدوى وسياسات الحماية، وتسهيلات مالية وجمركية لاستيراد كل شيء، فكانت النتيجة انهيار متسارع للصناعات الوطنية وغزو متعاظم للبضائع والصناعات الأجنبية.

وعلى المستوى الاجتماعي والسياسي حيث شعار الحرية، تفاقمت من جراء هذه السياسات القسرية التناقضات الأفقية والعمودية، وأضحت خلافات الناس الجوهرية- التقليدية تدار بيافطات حديثة. فلم تتمكن هذه الدولة من بناء مشروع وطني، ينقل أبناء الوطن على مستوى علائقهم الداخلية وطريقة نظرتهم إلى بعضهم البعض من الحالة التقليدية الموغلة في التباينات والصراعات ذات البعد التاريخي، إلى حالة حديثة قائمة على العقد الاجتماعي ومنظومة دستورية- قانونية تحدد الواجبات والحقوق انطلاقا من قيمة المواطنة بعيداً عن دوائر الانتماء التقليدية. وهكذا نستطيع القول: إن ما يجري اليوم في العديد من دول العالم العربي، هو نتاج طبيعي إلى بنية الدولة العربية الحديثة وطبيعة الخيارات السياسية السائدة منذ لحظة الاستقلال الوطني إلى الآن. فكانت النتيجة وجود تحت سقف وطني واحد، مجتمعات متخاصمة مع بعضها البعض، وكل طرف يتحين الفرصة للانقضاض على الطرف الآخر، مع غياب شبه تام لقانون قادر على ضبط هذه النزعات. وحينما خف منسوب الخوف لدى الناس، أو سقطت هيبة الدولة في نفوسهم، كان حاصل ذلك الفوضى والانفلاش الداخلي على أكثر من صعيد.

فأضحى المجتمع الواحد مجتمعات، والانتماء الوطني انتماءات تاريخية وتقليدية متصارعة ومتحاربة، والذاكرة التاريخية الواحدة، مجموعة ذاكرات تاريخية كلها ملغومة وتحمل في طياتها قنابل موقوتة بحق الآخر الذي كان قبل أيام شريكاً وطنياً.

وتعلمنا هذه التجربة المريرة، والتي نشهد نتائجها الكارثية في العديد من الدول العربية انه حينما يغيب الوطن الواحد الجامع والحاضن للجميع، فإن النتيجة المباشرة لذلك هو دخول الجميع في حروب باردة وساخنة ضد الجميع تحت يافطات ومبررات لا تنتمي إلى العصر ومكاسب الحضارة الحديثة. وحينما تنهار أسس العيش المشترك ولو في حدودها الدنيا، فإن النتيجة الفعلية لذلك الاستمرار في الانهيار الاجتماعي والأمني بشكل متسارع وبعيداً عن القدرة على الضبط والإدارة.

وحينما لا تتمكن الدولة من رعاية شعبها وحمايته، فإن النتيجة المباشرة لذلك، أن أبناء الوطن سيكونون فضاء للثأر والانتقام والخصومات المفتوحة على كل الاحتمالات.

وكل هذا يوصلنا إلى النتيجة التالية: ان غالبية الدول العربية الحديثة وبالذات التي حكمت بيافطات ثورية وتقدمية، فشلت في إدارة تنوعها الديني والمذهبي والأثني بشكل صحيح، وإن ما نشهده من حروب وكانتونات مغلقة هو نتاج هذا الفشل والإخفاق.

وإن المطلوب الاستفادة من هذه التجربة، لبناء مقاربة جديدة تقطع مع تلك الممارسات التي أفضت إلى تلك النتائج الخاطئة والخطيرة.

وفي سياق تظهير أهم الدروس والعبر لخلق رؤية جديدة لإدارة التنوع نذكر النقاط التالية:

1- إن إدارة التنوع الثقافي في كل الأوطان والمجتمعات، هو أسلم الخيارات وأسهلها، والذي يجنب الأوطان مآزق وأزمات كبرى. فمن يبحث عن استقرار سياسي واجتماعي عميق في ظل مجتمعات متعددة ومتنوعة، لا سبيل لديه إلا تطوير نظام الإدارة والاستيعاب لحقائق التنوع الموجودة في المجتمع.

2- تطوير درجة الوعي الأخلاقي والالتزام بالمناقبيات الأخلاقية في المجتمع. لأنه لا يمكن إدارة التنوع إدارة حكيمة في ظل أخلاق متدهورة أو بعيدة عن مسارها الصحيح. لذلك حيثما وجدت أخلاق عملية فاضلة، سيحظى الجميع وهم مختلفون باحترام متبادل. أما إذا ساءت الأخلاق وتدهور السلوك الأخلاقي العملي، فإن جميع الاختلافات ستتحول إلى مصدر إلى التوتر الدائم في المجتمع.

3- ضرورة أن تتعالى المؤسسات الوطنية عن الانقسامات الاجتماعية، بحيث لا تكون طرفاً سلبياً تغذي الاختلافات وتحمي بعض أطرافه. والمقصود بالتعالي هنا هو أن تؤدي هذه المؤسسات وظيفتها الوطنية للجميع على قاعدة المواطنة الجامعة، وأن لا تكون انتماءات المواطنين لها مدخليته في إعطائه أكثر مما يستحق أو منعه مما يستحق.

فلا يمكن إدارة التنوع الثقافي والاجتماعي، في ظل مؤسسات وطنية خاضعة لمقتضيات ومتواليات الانقسام الاجتماعي. لأن هذه المؤسسات ولكونها طرفاً في هذه الانقسامات فإنها ستغذي التباينات بين المواطنين من موقع القدرة والسلطة. أما إذا مارست هذه المؤسسات تعاليها على انقسامات مجتمعها، فإنها ستحظى باحترام وتقدير الجميع، وستعبر بصدق عن وعي وطني عميق وجامع يحول دون تفاقم الاختلافات والتباينات بين أبناء المجتمع والوطن الواحد.

4- ضرورة العمل على بناء مشروع وطني ثقافي واجتماعي متكامل، بحيث تكون مبادئ وقيم وأولويات هذا المشروع هي التي تغذي جميع أبناء الوطن، بعيداً عن التصنيفات والانتماءات الفرعية.

ولعلنا لو تأملنا في التجارب التي أخفقت في إدارة تنوعها من حولنا، سنكتشف أن أحد الأسباب المهمة لذلك، هو غياب مشروع وطني جامع، يعمل على دمج كل التعبيرات في إطار رؤية تمثله وتعبر عن ذاته الفردية والجمعية.

أما إذا غابت هذه الرؤية، فإن الشيء الطبيعي لذلك هو تمسك كل جماعة فرعية بانتمائها الخاص، مما يفضي إلى الإخفاق في إدارة التنوع الثقافي على نحو إيجابي وحضاري.

وجماع القول: إن الأمن العميق في مجتمعاتنا العربية اليوم، يتطلب العمل الجاد في بناء رؤية وطنية متكاملة لإدارة التنوع بعيداً عن نزعات الاختزال وعبء التاريخ والراهن.
*التجديد
أضافة تعليق