مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
قصتي مع الكتاب!

قصتي مع الكتاب!
بقلم: د . سلمان بن فهد العودة
من أثمن ما أحتفظ به (ختم طفولتي) كنت أدمغ فيه الصفحة الأولى من كل كتاب أمتلكه (مكتبة عبد الله الفهد العودة وإخوانه)! يرى علماء النفس أن الأطفال الذي يقرؤون مبكراً أو يُقرأ لهم تكون نفسياتهم أفضل، لقد وجدت هذا حتى حين كنت أسكب الدموع سراً وأنا أقرأ قصة حزينة! حين أقرأ كتاباً اعتدت أن أمضي إلى نهايته مهما تغير رأيي فيه. حين أقرأ لمؤلف فيعجبني أسعى لامتلاك كتبه كلها حتى الممنوع منها أو المفقود، وكل ممنوع مرغوب. عشت صبياً مع كتب الوعظ (التبصرة، قرة العيون المبصرة، الكبائر..) أتلوها على أبي بين العشاءَيْن. ألتقي بالكتب صدفة كما ألتقي بالأصدقاء، و’’رُبَّ صدفةٍ خيرٌ من ميعاد’’، وأعز الأصدقاء تعرفت عليهم بجوار رفوف المكتبات. النظم الشمولية تخشى القراءة، وفي ساحات المدارس والسجون تجري مراقبة الحرف بعين الارتياب! كانت أمي تحب أن أَكْبَر، ولكنها تقلق عندما ترى أكوام الكتب أو تسمع صبيها يتغنى بقصيدة. كان يقلقها أن تجد كتاباً من عشرة أجزاء، بنفس اللون والشكل وتقترح الاكتفاء بواحد! كل شيء قابل للقراءة، ما الذي يحدث عندما تواجه نصّاً؟ التفاعلات الكيميائية تحول الحرف إلى معنى ثم تحدث التفاعلات معه، أو تحول الرسم أو الصورة أو الوجه أو الشخص أو الظل أو الصوت.. النصوص التي نقرؤها تخضب عقولنا بالألوان المناسبة. لا تصدق أنك لم تفهم، ستكتشف أنك فهمت بعض النص أو كله عند مناسبة ما، أو عندما تقرؤه في موضع آخر، سيظل كامناً بدرجة أو أخرى في ذاكرتك. قلت مرة لشيخي: قرأت الكتاب ولم يعلق شيء منه بذاكرتي؟ مدّ لي تمرة وقال: امضغها، ثم سألني: هل كبرت الآن؟ قلت: لا، قال: ولكن هذه التمرة تقسمت في جسدك فصارت لحماً وعظماً وعصباً وجلداً وشعراً وظفراً وخلايا! أدركت أن كتاباً أقرؤه يتقسم، فيعزز لغتي، ويزيد معرفتي، ويهذب أخلاقي، ويُرَقِّي أسلوبي في الكتابة والحديث ولو لم أشعر. الكتاب صنع عاداتي اللغوية، دربني على تجاوز ضمائر التعاظم، فهمت؟ أنت معي؟ واضح لك؟ وتجاوز خشونة الألفاظ وحدتها وما يوحي بازدراء الغير، أو مجاراة الجاهلية في عنصريتها أو ازدرائها للأنثى (أعزك الله!). الكتاب حفزني لأحاول لغة محتشمة تكسو الألفاظ العارية بما يزينها، وتعرّض عما تستحي من ذكره، وتتأسى بالكتاب الأعظم ’’أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء’’ (النساء:43). لوثة الروايات الضاربة على وتر الإثارة الجنسية (الخبز الحافي - محمد شكري - وبعض روايات محفوظ والحكيم) كانت معاناة يألفها مراهق لم يعرف من الإثارة سواها! عودني على سهولة التعبير وتجنب الضغط على الحروف أو التفاصح والتنطع في المخارج، كما كان يوصي به أئمة اللغة كأبي عمرو بن العلاء والأصمعي. الكتاب يعتمد على سخاء القارئ الذي يبديه تجاه النص! قرأت كتاباً واستغلق عليّ فهمه، طلبت من صديق أن يشرحه لي فاكتشفنا معاً أن ترتيب صفحات الكتاب كان مغلوطاً. أحياناً يكفي أن تمر على الكلمات مرور الكرام، وأحياناً تحتاج أن تجري حفريات عميقة، وبعض النصوص يتحول إلى جزء من شخصيتك، روح القارئ الإيجابية هي التي تستنطق النص وتضفي عليه الحياة وتجعله ناطقاً وجميلا. القراءة في الطائرة، أو كرسي الانتظار، أو سرير النقاهة، استثمار في الزمن والحال. الإنسان ينجذب عادة إلى الكتب التي تمثل شخصيته. حين تشاهد شخصاً يقرأ كتاباً سبق لك أن قرأته أو أنت تقرؤه الآن، تشعر بوشيجة بينك وبينه. مكتبة المنزل ليست ديكوراً لبرنامج تلفزيوني أو للمباهاة، هي جزء من أساسيات التربية. أشعر باعتزاز أنني ولدت في بيت تعمر كواته المصاحف ورياض الصالحين وزاد المعاد وفقه السنة وقصص الأطفال. كنت أقف على رأس أخي في انتظار أن يَخْلص من الكتاب فأستلمه.. أبناء سنّ معينة تعودوا على الكتاب الورقي يشمّونه ويلمسونه بأيديهم ويديرون فيه عيونهم ويحضنونه كحبيب لا يمل، آخرون وجدوا في الكتاب الإلكتروني سهولة المحمل والاقتناء والتعامل، نحن في الطريق إلى (الكتاب الذكي) الذي يتفاعل معك ويغير الألفاظ والأساليب التي تستغلق عليك! حين أستغني عن كتاب لأي سبب كان فإن شيئاً ما يموت بداخلي. الكتب المستعارة التي لم تعد لا تزال وشماً حزيناً لا أنساه، خصوصاً حين يكون مجلداً له عشرة إخوة فينخرم تسلسلهم! وجد أحدهم في طرة كتاب: (من يسرق كتاباً أو يستعيره ويجحده عسى أن يتحول الكتاب في يده إلى أفعى رقطاء، وعسى أن يصاب بشلل ارتجافي قاهر، وعسى ألا تنقطع آلامه حتى يتحول إلى رمة متفسخة، وأن تعشش الديدان في أحشائه، وعندما يمثل يوم القيامة تلتهمه النار إلى الأبد!). أي طبعات الكتاب أفضل؟ إنها الطبعة التي أمتلكها وعشت معها عشرين سنة وقلبت صفحاتها وشاهدت تجليدها كثيراً وكتبت على حواشيها بعض الملاحظات! هذا ما حدث لي بفضل ربي مع كتب السنة النبوية التسعة والحاكم وابن أبي شيبة وعبدالرزاق والبيهقي وأجزاء حديثية خلال تحضيري للماجستير، ومع كتب التفسير خلال إلقائي لدروس (إشراقات قرآنية). حركات معروفة؛ سحب النظارة من مكانها، تنظيف بالمنديل أو بطرف الغترة، وضعها على الأنف أو خلف الأذن، إلقاء نظرة تجريبية على الصفحة، تحريك النظارة قليلاً.. أن تكون القراءة (عادة) كوجبة طعام لا يمكنك العيش بدونها.

*المجتمع
أضافة تعليق