بقلم: د . سلمان بن فهد العودة
أعمق تغيير في التاريخ كان سلمياً وهادئاً، ولكنه حاسم وعميق.. غيَّر النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ المعتقدات والسلوك والعادات الاجتماعية بالإقناع والرفق والرحمة واللين، واستخدم القوة في أضيق نطاق. ثلاث عشرة سنة في مكة كانت مرحلة استضعاف. معركة بدر كانت من غير ترتيب. معركة أحد كانت دفاعاً. الأحزاب كانت دفاعاً. صلح الحديبية كان ميثاقاً ظنه بعض المسلمين دنيَّة في دينهم. فتح مكة لم يُرَق فيه إلا القليل من الدماء، وتم إعلان «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». أنصف المظلومين، وحرر العبيد، ورفع قيمة الإنسان، وكرَّم المرأة. أزال أبهة المتنفذين والمستبدين بأقل الخسائر. تعجب كيف قضى النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ على عادات الثأر في الجاهلية العربية. وكيف بنى العقلية الواعية المنعتقة من التقليد والتبعية، ومن الكهانة والعرافة والخط والرمل. وكيف بنى الحواجز النفسية في عقول أتباعه ضد كل ما هو «جاهلي»؛ «تبرج الجاهلية»، «حمية الجاهلية»، «حكم الجاهلية»، «فخر الجاهلية»، «عصبية الجاهلية». حتى قال لأبي ذر: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ». لم يهادن الوثنية طرفة عين مهما كانت التضحيات، وسعى لهدمها في عقول الناس ومشاعرهم، وبناء التوحيد، ولكنه دخل مكة في عمرة القضاء وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فلم يهدمها؛ لأن إعادة بنائها سهل وبطريقة أفضل لدى من لا يزالون يؤمنون بها، ويملكون فعل ذلك، ولم يهدمها حتى فتح مكة، ودانت له الأرض ومن عليها، وصنع القناعة الراسخة ببطلانها لدى القاعدة العريضة من الناس حتى قال قائلهم: «لو كانت تغني شيئاً ماخذلتنا». يظهر صبره ’’صلى الله عليه وسلم’’ في التعايش مع الوثنيين بمكة، واستنفاد كافة الوسائل في مصابرتهم وسعة الصدر عليهم مع صدودهم وأذاهم وعدوانهم عليه وعلى أصحابه من الرجال والنساء. ثم في المدينة حيث ساكن اليهود والوثنيين من الأوس والخزرج والمنافقين وضعفاء الإيمان الذين ظلوا موجودين إلى آخر حياته، فقد نزلت سورة الحجرات سنة تسع وفيها التحذير من سوء الأدب معه ورفع الصوت ومن التنابز بالألقاب والسخرية وسوء الظن وختمت بقوله تعالى: { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ’’14’’}(الحجرات). ولقد مات رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، لقد كان الشراء بالنسبة له خيراً، والبيع بالنسبة لليهودي خيراً، وهذا أساس التعايش أن تدرك أن مصلحتك ربما تكون هي مصلحة الآخرين أيضاً والعكس صحيح. كان درساً عملياً للأجيال أن تكون المدينة النبوية عاصمة الإسلام الأولى حافلة بهذا التنوع؛ ليتعلم الناس أسلوب الداعية العظيم في التعامل مع مساكنيه ومواطنيه من غير أهل ملته. الحكم الإسلامي عبر العصور حفظ الطوائف والمذاهب المختلفة ضمن نسيجه الاجتماعي، ولم يفرض عليهم تغيير مذاهبهم، وإن كان يجادلهم بالتي هي أحسن. حين يتهتك هذا النسيج بسبب صدامات تغذيها السياسة، وتحفز عليها الجهالة، ويضريها التعصب وضيق الأفق تقع المصادمات بين الجيران، وينسى الناس الوصية النبوية بحسن الجوار حتى مع الخصوم، وقد حكت لنا السنة عن تعامل النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ مع جاره اليهودي. عند الصدام يتراجع مستوى الوعي والعقل، ويهرع الناس إلى سوء الظن بالآخر والاستعداد لأسوأ الاحتمالات، ويعودون للوعي الأولي البدائي. العقلاء يدركون أن هذا الأمر طارئ وقابل للتراجع حين تضع الحروب أوزارها، ويفكر الناس بالمصالح المشتركة والعيش والمساكنة. ولهذا مدح عمرو بن العاص الروم بأنهم «أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة». هو هنا يتحدث عن صفة في العقل الجمعي لهم، وأنهم يتجاوزون فترات التوتر والحرب والاحتقان إلى ميدان الحوار والبحث عن المشترك، وهذا ما شاهدناه في أوروبا بعد الحربين العالميتين حيث اتجهت شعوبها إلى العولمة والاتحاد في السوق الأوروبية، ثم في الاتحاد الأوروبي بمؤسساته الضخمة. بينما تظل بعض القبائل العربية بسبب عادة الثأر محتفظة بعداوتها القديمة تلقنها لأجيالها الشابة، وتعيد إنتاج قصصها وأشعارها وكأنها حدثت البارحة. وقد يأخذ هذا الاحتقان طابعاً مذهبياً أو صفة حزبية، فيقحم الناس المذهب أو الانتماء السياسي أو الفكري في علاقاتهم، وتجد هذا لدى الإسلامي والعلماني مما يدل على أن الفكر لم يفلح في تهذيب هذه النزعة، ولكنه وجهها ذات اليمين أو ذات الشمال.
*المجتمع
أعمق تغيير في التاريخ كان سلمياً وهادئاً، ولكنه حاسم وعميق.. غيَّر النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ المعتقدات والسلوك والعادات الاجتماعية بالإقناع والرفق والرحمة واللين، واستخدم القوة في أضيق نطاق. ثلاث عشرة سنة في مكة كانت مرحلة استضعاف. معركة بدر كانت من غير ترتيب. معركة أحد كانت دفاعاً. الأحزاب كانت دفاعاً. صلح الحديبية كان ميثاقاً ظنه بعض المسلمين دنيَّة في دينهم. فتح مكة لم يُرَق فيه إلا القليل من الدماء، وتم إعلان «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». أنصف المظلومين، وحرر العبيد، ورفع قيمة الإنسان، وكرَّم المرأة. أزال أبهة المتنفذين والمستبدين بأقل الخسائر. تعجب كيف قضى النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ على عادات الثأر في الجاهلية العربية. وكيف بنى العقلية الواعية المنعتقة من التقليد والتبعية، ومن الكهانة والعرافة والخط والرمل. وكيف بنى الحواجز النفسية في عقول أتباعه ضد كل ما هو «جاهلي»؛ «تبرج الجاهلية»، «حمية الجاهلية»، «حكم الجاهلية»، «فخر الجاهلية»، «عصبية الجاهلية». حتى قال لأبي ذر: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ». لم يهادن الوثنية طرفة عين مهما كانت التضحيات، وسعى لهدمها في عقول الناس ومشاعرهم، وبناء التوحيد، ولكنه دخل مكة في عمرة القضاء وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فلم يهدمها؛ لأن إعادة بنائها سهل وبطريقة أفضل لدى من لا يزالون يؤمنون بها، ويملكون فعل ذلك، ولم يهدمها حتى فتح مكة، ودانت له الأرض ومن عليها، وصنع القناعة الراسخة ببطلانها لدى القاعدة العريضة من الناس حتى قال قائلهم: «لو كانت تغني شيئاً ماخذلتنا». يظهر صبره ’’صلى الله عليه وسلم’’ في التعايش مع الوثنيين بمكة، واستنفاد كافة الوسائل في مصابرتهم وسعة الصدر عليهم مع صدودهم وأذاهم وعدوانهم عليه وعلى أصحابه من الرجال والنساء. ثم في المدينة حيث ساكن اليهود والوثنيين من الأوس والخزرج والمنافقين وضعفاء الإيمان الذين ظلوا موجودين إلى آخر حياته، فقد نزلت سورة الحجرات سنة تسع وفيها التحذير من سوء الأدب معه ورفع الصوت ومن التنابز بالألقاب والسخرية وسوء الظن وختمت بقوله تعالى: { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ’’14’’}(الحجرات). ولقد مات رسول الله ’’صلى الله عليه وسلم’’ ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، لقد كان الشراء بالنسبة له خيراً، والبيع بالنسبة لليهودي خيراً، وهذا أساس التعايش أن تدرك أن مصلحتك ربما تكون هي مصلحة الآخرين أيضاً والعكس صحيح. كان درساً عملياً للأجيال أن تكون المدينة النبوية عاصمة الإسلام الأولى حافلة بهذا التنوع؛ ليتعلم الناس أسلوب الداعية العظيم في التعامل مع مساكنيه ومواطنيه من غير أهل ملته. الحكم الإسلامي عبر العصور حفظ الطوائف والمذاهب المختلفة ضمن نسيجه الاجتماعي، ولم يفرض عليهم تغيير مذاهبهم، وإن كان يجادلهم بالتي هي أحسن. حين يتهتك هذا النسيج بسبب صدامات تغذيها السياسة، وتحفز عليها الجهالة، ويضريها التعصب وضيق الأفق تقع المصادمات بين الجيران، وينسى الناس الوصية النبوية بحسن الجوار حتى مع الخصوم، وقد حكت لنا السنة عن تعامل النبي ’’صلى الله عليه وسلم’’ مع جاره اليهودي. عند الصدام يتراجع مستوى الوعي والعقل، ويهرع الناس إلى سوء الظن بالآخر والاستعداد لأسوأ الاحتمالات، ويعودون للوعي الأولي البدائي. العقلاء يدركون أن هذا الأمر طارئ وقابل للتراجع حين تضع الحروب أوزارها، ويفكر الناس بالمصالح المشتركة والعيش والمساكنة. ولهذا مدح عمرو بن العاص الروم بأنهم «أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة». هو هنا يتحدث عن صفة في العقل الجمعي لهم، وأنهم يتجاوزون فترات التوتر والحرب والاحتقان إلى ميدان الحوار والبحث عن المشترك، وهذا ما شاهدناه في أوروبا بعد الحربين العالميتين حيث اتجهت شعوبها إلى العولمة والاتحاد في السوق الأوروبية، ثم في الاتحاد الأوروبي بمؤسساته الضخمة. بينما تظل بعض القبائل العربية بسبب عادة الثأر محتفظة بعداوتها القديمة تلقنها لأجيالها الشابة، وتعيد إنتاج قصصها وأشعارها وكأنها حدثت البارحة. وقد يأخذ هذا الاحتقان طابعاً مذهبياً أو صفة حزبية، فيقحم الناس المذهب أو الانتماء السياسي أو الفكري في علاقاتهم، وتجد هذا لدى الإسلامي والعلماني مما يدل على أن الفكر لم يفلح في تهذيب هذه النزعة، ولكنه وجهها ذات اليمين أو ذات الشمال.
*المجتمع